لبنان البلد الذي يعيش اليوم أزمات عديدة، ولعل الأزمة الاقتصادية وتداعياتها أشد حدة من أزمة الشغور الرئاسية المعلقة حتى الآن والخلافات بين الفرقاء السياسيين في لبنان. أزمة الكهرباء برزت في الآونة الأخيرة لتفاقم معاناة اللبنانيين أكثر فأكثر، نتيجة عجز حكومة تصريف الأعمال عن تأمين الإنارة لمواطنيها، ثم ارتفعت أسعار الأمبيرات المزودة للطاقة الكهربائية، مما أجبر اللبنانيين على التخلي عن عداداتهم، بالنظر إلى أنها باتت تفوق قوتهم الشرائية ولا تتناسب مع مداخيلهم.

هذا يعني أن البلد الشرق أوسطي غارق في الأزمات. وفي الواقع يصعب الخروج منها في ظل غياب آفاق لأية حلول أو مقاربات سياسية، نظرا لتعقيد الوضع اللبناني على عدة مستويات. بالإضافة إلى هيمنة “حزب الله” اللبناني الموالي لطهران بشكل غير مباشر على لبنان، وتسببه بالفوضى والفساد وحالة الانسداد السياسي بالبلاد.

بعيدا عن الوضع السياسي المأزوم، فمنذ انهيار شبكة الكهرباء الحكومية في لبنان، اضطرت العديد من عائلات الطبقة المتوسطة والعاملة إلى إنفاق معظم دخلها الشهري على المولدات الكهربائية الخاصة. ومع ذلك، فإنهم يعيشون بدون كهرباء لمدة نصف اليوم تقريبا، بحسب تقرير صادر عن منظمة “هيومن رايتس ووتش” مؤخرا. ويهدد هذا الوضع بتعميق الفقر في هذا البلد المتوسطي الصغير الغارق في انهيار اقتصادي كارثي.

لذلك، كان لا بد من طرح بعض التساؤلات حول أسباب أزمة الكهرباء، وارتفاع أسعار الأمبيرات في الآونة الأخيرة، وكذلك مقارنة تكلفة الكهرباء بدخل وعائدات المواطن اللبناني، بالإضافة إلى تساؤلات حول غياب الدور الحكومي وكيف للنزاع الدائر بين الأطراف السياسية دور محوري في تعميق أزمات البلاد واستمراره، خصوصا “حزب الله” اللبناني.

أسباب أزمة الكهرباء

في سياق ارتفاع أسعار الكهرباء، انتقل “مصرف لبنان المركزي” إلى سعر جديد حدده بسبعين ألف ليرة لـ”دولار صيرفة” رفع معه كلفة هذه الخدمات، وبات اللبنانيين أمام احتمالين، إما الدفع أو التخلي عنها كليا، واتبع الكثير منهم الاحتمال الثاني.

اللبنانيون يقولون إذا ما حسب المواطن حاجته الاستهلاكية العادية لبقايا كهرباء الدولة، والهاتف، والإنترنت، فسيتبيّن أن ما لا يقل عن 5 ملايين ليرة لبنانية يحتاج إليها المواطن متوسط الدخل، للبقاء على تواصل مع الحياة الحديثة، أو لتأمين الحد الأدنى المطلوب للاستمرار في أشغاله وأعماله.

بالتالي، صار اللبناني أمام واقع مرير ومظلم، فمن جهة تقلصت مداخيله وتدنت قدراته الشرائية، والفقر والعوز يتفشى في البيئات الفقيرة، وبين صغار الموظفين والطبقات العاملة. ومن جهة أخرى، ليس أمامهم سوى الرضوخ للزيادات في الضرائب والرسوم، والارتفاع المتنامي في سعر منصة “صيرفة” لأن موارد الدولة ضحلت، والمطلوب منها يفوق قدرتها وجباياتها، وفق تقديرات صحفية.

هذا وقبل أيام بدأت “مؤسسة كهرباء لبنان” جباية فاتورة الطاقة وفق منصة “صيرفة”، وهو نظام جديد للتسعير يعتمد سعر منصة “صيرفة” “سعر صرف للدولار يحدده كل مدة مصرف لبنان لبعض الخدمات والمنتجات والسحب المصرفي” مضاف عليها 20 بالمئة من القيمة التي يحددها “المصرف المركزي”. وشكل ذلك صدمة للمواطنين، لأنه سيؤدي إلى سلم متحرك لسعر فاتورة الكهرباء، وجعلها سهلة لتتأثر مباشرة بارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية.

في شهر شباط/فبراير الماضي، تحسنت التغذية الكهربائية في لبنان، حيث بعد صفر ساعة كهرباء حظيت المنازل بنحو ثلاث إلى أربع ساعات تيار يوميا. جاء ذلك نتيجة السلفة التي قدمتها الحكومة اللبنانية لصالح “مؤسسة كهرباء لبنان” عبر “وزارة الطاقة” بنحو 60 مليون دولار، لتوريد الفيول لتشغيل المعامل، وتحديدا معملي “دير عمار والزهراني”. إلا أنه مع بدء إصدار الفواتير في شهر آذار/مارس الجاري لاحظ المواطنون أن رسم بدل التأهيل ورسم العداد أكبر من قيمة الشطور التي صرفها.

قد يهمك: الشرطة تنضم لحملة اقتحام البنوك اللبنانية.. تآكل في قطاع الدولة؟

آراء المراقبين أشارت إلى أن هذا التحسن في الكهرباء خلال الشهر الفائت يبدو وكأنه بمثابة حجة أو مثل “رعبون” للمواطن من أجل تبرير وفرض التسعيرة الجديدة. أما الأسباب الأساسية التي تقف وراء أزمة الكهرباء وارتفاع تسعيرته يكّمن حول  عدم قدرة الحكومة اللبنانية على تحمل تكاليف استيراد الوقود من أجل محطات الكهرباء، حيث إن هذه الحكومة على شفى الانهيار الاقتصادي الكامل.

كذلك، يبدو أن الحكومة اللبنانية تدور في فلك التخبّط؛ وبالتالي يرمي بسعر الدولار صعودا ونزولا بشكل دراماتيكي بين السوق السوداء وما يُعرَف بمنصة “صيرفة”، لا سيما وأن الحكومة أصدرت عدة قرارات تفيد بتوجهها نحو سياسة “الدولرة” في عموم قطاعاتها، بغية احتواء وتخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية، حسبما تزعمه حكومة تصريف الأعمال.

غير أن هذا الأمر بات يؤثر سلبا على مناحي الحياة ككل وبشكل تدريجي، وأزمة الكهرباء خير دليل. وعليه فإن تحركات حكومة تصريف الأعمال ليست سوى طامة على الشعب اللبناني وعلى مختلف المستويات، والذي من كلّ بدّ سيخلّف آثارا سلبية أخرى خلال الفترة القادمة، خاصة وأن هذه الإجراءات هي فشل حكومي وتصب في مصلحة “حزب الله” اللبناني الموالي لطهران، من حيث توسيع قاعدته الشعبية أكثر فأكثر، وسط تدهور الأحوال المعيشية في لبنان.

أيضا ثمة سبب آخر يواجهة المستهلكون في لبنان حول هذه الزيادات غير المسبوقة في تعرفة استهلاك الكهرباء التي تُصنف الأغلى في منطقة الشرق الأوسط، وهو موافقة “مصرف لبنان” العام الفائت على ضمان 300 مليون دولار من أصل 600 مليون دولار، والتي كان من المتوقع أن تؤمن ثمان ساعات تغذية كهربائية في اليوم الواحد.

إلا أن هذا لم يحدث حتى اليوم، بل وارتفعت الأسعار بدلا من ذلك. فبعد اقترابها من الإفلاس، تزود “مؤسسة كهرباء لبنان” الآن بأقل من ثلاث ساعات من الكهرباء يوميا.

هذا وقد أصدرت شركة “كهرباء لبنان” تعرفة الكهرباء لشهري تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الأول/ديسمبر 2022. واعتمدت سعر منصة “صيرفة” مضافا إليها 20 بالمئة من قيمتها لتحديد قيمة الفاتورة، فيما الخوف من الفواتير المقبلة بعد رفع مصرف لبنان تسعيرة منصة “صيرفة” من 45 ألف ليرة إلى 70 ألف ليرة لبنانية. وقد حددت تسعيرة الشطر الأول للفاتورة بـ10 سنتات للكيلو الواحد، على أن تصبح 27 سنتا لكل كيلو إضافي.

أزمة الكهرباء تعمق الفقر

في المقابل، وثقت “هيومن رايتس ووتش“، ومقرها نيويورك، معاناة أكثر من 1200 أسرة منخفضة الدخل في لبنان، وجاء في التقرير أن خدمات المولدات غالبا ما تكون مكلفة وأغلى بكثير من الكهرباء التي توفرها مؤسسة كهرباء لبنان. وعلى المستوى الوطني، لا تستطيع أسرة واحدة من كل عشر أسر الاستفادة من مولد للحصول على الكهرباء عندما تقطع مؤسسة كهرباء لبنان التيار الكهربائي.

إذ جاءت فاتورة الكهرباء لبعض العوائل بقيمة 882 ألف ليرة أي نحو 12 دولارا لقاء اثنين كيلو واط مصروفة، وفق بعض التقارير، وبالتالي هذا يفوق قدرة المواطنين المادية، ففي هذه الحالة لا يستطيع  الفقير الدفع، وخاصة محدودي الدخل وأولئك الذين يتقاضون بالليرة اللبنانية ولا تتجاوز مداخيلهم شهريا المليونين ليرة ما يعادل 25 دولارا.

معظم العائلات التي تحدثت إليها “هيومن رايتس ووتش”، قالت إنها تتنازل عن الطعام والتعليم والأدوية والاحتياجات الأساسية الأخرى لسداد تكاليف الكهرباء الإضافية. وتستهلك فواتير المولدات حوالي 44 بالمئة من متوسط الدخل الشهري للأسرة، وضعفي ذلك بالنسبة للأسر الأكثر فقرا في البلاد.

في حين ذكرت المنظمة الدولية، أن متوسط الدخل الشهري في لبنان 122 دولارا، حيث تكسب 40 بالمئة من الأسر حوالي 100 دولار أو أقل في الشهر، و90 بالمئة يكسبون أقل من 377 دولارا شهريا.

بالاستناد إلى آراء الشارع اللبناني، ولا سيما الفئة الفقيرة والمتوسطة الدخل، فإن نسبة كبيرة منهم لا يستطيعون دفع تكاليف الكهرباء التي تنتجها المولدات، ما يجعلهم يعيشون في الظلام طوال ساعات يوميا. ومنذ اندلاع الأزمة الاقتصادية في لبنان عام 2019، وقع أكثر من ثلاثة أرباع السكان البالغ عددهم ستة ملايين نسمة في براثن الفقر، ويعانون من أجل البقاء، وسط معدلات تضخم هي من بين الأكبر في العالم.

التخلي عن الكهرباء

برايان روت، كبير المحللين الذي ساهم في تقرير المنظمة الحقوقية يقول إن الوضع الحالي يؤدي إلى تفاقم عدم المساواة، ويدفع اللبنانيين إلى أوضاع تنتهك حقوقهم الإنسانية، وتعيق وصولهم إلى الغذاء والماء والصحة.

قد يهمك: مجزرة اقتصادية.. عواقب لتحديد المحال اللبنانية الأسعار بالدولار؟

في المقابل أكد بعض المواطنون، أنهم “سيتقدمون بطلب فصل منازلهم عن الشبكة وتوقيف العداد، لأن الدولة تتقاضى رسما مرتفعا عن خدمة غير موجودة”، في حين أن دخل المواطن لا يكفي لتأمين المال للاشتراك بالمولدات الخاصة وكهرباء الدولة في آن واحد، لذلك ثمة مفاضلة غير منصفة للمواطن لأنه يتحمل أعباء كبيرة في ظل اللادولة.

استمرار الوضع المأساوي للكهرباء في لبنان سيؤدي إلى انضمام فئة كبيرة إلى التخلي عن كهرباء الدولة، وتقر “مؤسسة كهرباء لبنان” نفسها أن مكاتبها المنتشرة في المناطق تستقبل أعدادا متزايدة من المواطنين الذين يتقدمون بطلبات إيقاف أو إلغاء الاشتراك بصورة نهائية.

هذه الظاهرة بدأت في مناطق الأطراف في حلبا عكار والمنية وطرابلس وبعض المناطق النائية، ولكنها بدأت تتمدد إلى قلب جبل لبنان والمناطق الحضرية، حيث باتت تشهد الدوائر زحمة طلبات. وقد أدت عملية رفع الرسم إلى أثر نفسي سلبي على المشتركين، ويمكن الإشارة إلى فئتين أساسيتين؛ الأولى هي ممن يملك أكثر من عداد، والثانية التي انتقلت إلى “الطاقة البديلة”.

بعض التقارير تقول إن عملية إلغاء الاشتراك تؤدي إلى حاجة المواطن مستقبلا إلى إعادة الإجراءات ودفع الرسوم كاملة من جديد في حال قرر العودة، ولكن هناك “معاملة تجميد لفترة السنتين”.

الوضع نحو التأزم

الوضع اللبناني يزداد سوءا ويدخل في مراحل أكثر تعقيدا، فمع استمرار أزمة الشغور الرئاسية، حيث لم يتفق الفرقاء السياسيين في البلاد بعد على تنصيب رئيس جديد للبلاد، بالإضافة إلى قضايا الفساد والفوضى الأمنية، نتيجة تعدد القوى السياسية المتحكمة بالبلاد ولا سيما “حزب الله” اللبناني الموالي لإيران. ولكن الأزمة الاقتصادية التي تشهدها لبنان منذ صيف عام 2019، أحد أكبر الأزمات في الوقت الراهن، والتي صنّفها “البنك الدولي” بين الأسوأ في العالم منذ عام 1850، حيث فقدت الليرة اللبنانية نحو 90 بالمئة من قيمتها، نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار.

سبب الوضع الحالي بلبنان هو تدخل وهيمنة “حزب الله” على البلاد، وأن الانهيار الاقتصادي مرشّح لأن يتفاقم أكثر فأكثر وبالتالي سيتحول إلى انفجار اجتماعي، لا سيما في ظل انهيار الليرة اللبنانية أمام العملات الأجنبية، الأمر الذي من شأنه التّسبب في انهيار القدرة الشرائية للبنانيين.

بالتالي، فإن لبنان سيشهد في المرحلة المقبلة اضطرابات كثيرة في الشارع اللبناني، ذلك لأن ما يجري هو مجزرة اقتصادية بكل معنى الكلمة، فقد تم سرقة أموال وودائع اللبنانيين في المصارف واستُعملت في تمويل سلطة فاسدة. وفي ظل التخبط الحكومي، يبدو أن الوضع بات أقرب لأن يكون خارج سيطرة الدولة.

وفي ظل عدم انتخاب رئيس جمهورية يعني أن كل هذه الإجراءات تُعدّ بمثابة “شكليات” ولا نتائج منها سوى تردي الوضع. وبالنظر إلى الوضع اللبناني، فإن المعطيات تشير إلى أنه طالما صراع المحاور السياسية قائم، فإن المتضرر الوحيد هو الشعب اللبناني الذي لا يرى سوى تلاعب وصراعات بين الأطراف السياسية على حساب مستقبله.

على مدى 30 عاما تقريبا، لم تُحسِن السلطات اللبنانية إدارة شركة الكهرباء التي تديرها للدولة، “مؤسسة كهرباء لبنان”، مما أدى إلى تكرّر انقطاعات واسعة النطاق في التيار الكهربائي تنتهك حق سُكان لبنان في الحصول على الكهرباء، وكذلك حقوقهم الأخرى في الحصول على مستوى معيشي لائق، والتعليم، والصحة، وحرية التنقل، وبيئة صحية.

وفق “هيومن رايتس ووتش”، فإن هذه العقود من السياسات غير المستدامة والإهمال الكبير التي اعتمدتها السلطات في قطاع الكهرباء، والتي كانت نتيجة لسيطرة النخبة على موارد الدولة والفساد والمصالح الخاصة، تسببت في انهيار القطاع بالكامل في خضمّ الأزمة الاقتصادية المستمرّة، ما ترك البلاد بلا كهرباء معظم أوقات اليوم.

“صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي” وخبراء الحكومة اللبنانية منذ سنوات يحثون على إعادة هيكلة قطاع الكهرباء، لكن السلطات تعثرت بشأن مجموعة إصلاحات طلبها “صندوق النقد” كشرط للموافقة على حزمة إنقاذ، ولكي ينفذ “البنك الدولي” صفقة مرتبطة بالكهرباء من شأنها أن توفر الغاز الطبيعي من مصر عبر سوريا لدعم شبكة الكهرباء التي تديرها الدولة في لبنان.

الشعب اللبناني بات يوصف بأنه أمة تعيش في الظلام، فالاضطرابات السياسية التي تشهدها الساحة اللبنانية منذ سنوات، بجانب فشل بيروت في تشكيل حكومة بعد الانتخابات البرلمانية في أيار/مايو 2022، تشير إلى أن الوضع مرجح لأن يتوجه نحو التأزم أكثر وإحداث العديد من الأزمات، سواء الكهربائية أو حتى في توفير المياه والخدمات العامة الأخرى، وهذا ما قد ينذر بإحداث انفجار شعبي، الأمر الذي سيترتب عليه العديد من الآثار.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.