في تحدّ واضح لإرادة الجماهير العراقية الرافضة للتعديل الثالث لقانون الانتخابات، أقر “البرلمان” العراقي فجر الاثنين الفائت، تعديلا لقانون الانتخابات البرلمانية، الذي يشكل عودة إلى القانون الذي كان قائما قبل تظاهرات ما باتت تعرف به بـ “ثورة تشرين” التي اندلعت في تشرين الأول/أكتوبر 2019، مثيرا غضب الأحزاب المستقلة والصغيرة التي ترى أنه يخدم مصالح الأحزاب الكبيرة، فضلا عن الجماهير التي تدفقت من عدد من المحافظات إلى جوار “البرلمان” معبّرين عن رفضهم.

ففي فوضى عارمة، عقد “البرلمان” جلسته خلال منتصف الليل، بينما كان المحتجون يتجمعون على أسوار المنطقة الخضراء معقل الحكومة والبعثات الدبلوماسية ببغداد، مطالبين بالعدول عن التصويت عن قانون “سانت ليغو”، والذي نجح المحتجون في تغييره عام 2019.

غير أن احتجاجات الجماهير، والتي صاحبها رفض النواب المستقلين الذين حاولوا عرقلة عقد الجلسة، لم تنجح بمنع التصويت، حتى مع استخدام النائب عن “حركة امتداد”، فلاح الهلالي، الصافرة للتشويش على سير أعمال الجلسة. 

جلسة نيابية في الظلام

بالتوقيت المحلي، عقدت الجلسة ليلة الأحد الساعة 20:30 مساء، وقد دوّن في جدول أعمالها التصويت على القانون الخاص بالتعديل الثالث لقانون مجالس المحافظات والأقضية رقم 12 لسنة 2018، وبالرغم من عدم اكتمال النصاب امتدت الجلسة لتعقد في الساعة 23:00 مساء.

الجلسة شهدت فوضى وطرد الكثير من النواب المستقلين من القاعة بعدما أعربوا عن مناهضتهم للقانون، بحسب مقاطع فيديو صورها النواب، وأظهرت انفعال رئيس “البرلمان” محمد الحلبوسي، مستخدما مطرقته بطريقة وصفت بالفظة، وهو يطالب بحماية النظام الداخلي، والقوات المكلفة بحماية المجلس والدخول إلى قبة “البرلمان” لإخراج النواب الرافضين للتصويت، وهو ما حصل بالفعل مع تأكيد بعض النواب المستقلين تعرضهم للضرب من قبل القوات الأمنية.

اقرأ/ي أيضا: الأردن يصحو على مبادرة جديدة نحو سوريا.. الخطوات السعودية السر؟

رغم الاحتجاجات الجماهيرية والنيابية، نجح “البرلمان” بتمرير التعديل الثالث لقانون الانتخابات بالتصويت على كامل مواده بحضور 189 نائبا، حيث تم التصويت على اعتماد القاسم الانتخابي 1.7 من نظام “سانت ليغو” المعدل، وبذلك ستجري انتخابات مجالس المحافظات المتوقعة في تشرين الثاني/نوفمبر القادم، بجانب الانتخابات البرلمانية، على أساس القانون المعدل.

قانون الانتخابات المعدل الجديد يجعل من كل محافظة دائرة انتخابية واحدة أي 18 دائرة، ملغيا بذلك الـ 83 دائرة التي اعتمدت في الانتخابات الأخيرة، وذلك إلى ما كان العراق يعتمده في الانتخابات النيابية منذ العام 2014، والذي كان أحد أسباب اندلاع الاحتجاجات الشعبية لعدة مرات، آخرها تلك التي اجتاحت الشارع العراقي وأطاحت بحكومة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي الذي أُجبر على تقديم استقالته في العام 2019، بضغط جماهيري واسع.

في عام 2019، صوّت “البرلمان” العراقي على حل “مجالس المحافظات”، ضمن حزمة قرارات اتخذها لتنفيذ مطالب المحتجين الذين اعتبروا تلك المجالس غير شرعية، بسبب انتهاء ولايتها من أربع سنوات.

وتعذر تنظيم انتخابات جديدة، فضلا عن اتهامات لاحقت بعضها بالفساد. واستجابة لاستمرار ضغط الجماهير التي استمرت في اعتصاماتها وإضراباتها لعدة أشهر، أقر “البرلمان” قانون رقم 9 لسنة 2020 والذي جاء مغايرا لما تم اعتماده في الانتخابات التشريعية الأربعة التي سبقت ذلك التشريع.

بموجب قانون 2020، تم تقسيم البلاد إلى 83 دائرة انتخابية على عدد مقاعد “كوتا” النساء في “البرلمان”، والذي يلزم الدستور بحصولهن على 25 بالمئة من المقاعد النيابية البالغ عددها 329 مقعدا، وبحسب مضامين ذلك القانون فإن ذلك يعد تحولا في عملية حساب الأصوات والفوز للمرشحين؛ إذ إنه يحدد الفائز بأعلى الأصوات بدلا من اعتماد طرق حسابية معقدة تجعل دخول المستقلين إلى “البرلمان” مهمة شبه مستحيلة.

مكاسب “سانت ليغو”

بالمقابل، يكرس اعتماد نظام “سانت ليغو” بالاعتماد على القاسم الانتخابي 1.7 هيمنة زعامات السلطة التقليدية، ويجعلها متحكمة أكثر بالقوائم، وهو يعتمد على توزيع الأصوات داخل القائمة الانتخابية، وليس على الفائز الأعلى، كما يعتمد القانون أن المحافظة هي دائرة انتخابية واحدة، ويلغي عدالة المنافسة في الانتخابات، وستبقى الكتل التقليدية هي المهيمنة، وهي صاحبة الحظ الأوفر للدخول مجددا إلى قبة “البرلمان”.

أما في قانون 9 لسنة 2020 تم فيه تبني نظام الغالبية بدلا من نظام النسبية الذي كان قائما في كل الانتخابات التي سبقت انتخابات عام 2021، كما أقر القانون رقم 9 لسنة 2020 الترشح الفردي حصرا، بعد أن كان ترشيح القوائم الانتخابية الحزبية هو السائد سابقا، مع تقليل عمر المرشح المسموح به من 30 إلى 28 سنة لإتاحة فرصة أكبر للشباب في الانتخابات.

اقرأ/ي أيضا: زيارة السوداني تكشف خيوط لعبة أردوغان.. تجفيف الأنهار للسيطرة على الاقتصاد؟

وسط هذا التباين، يأتي التعديل الثالث بناء على تعهد رئيس الحكومة محمد شياع السوداني في برنامجه الحكومي تعديل قانون الانتخابات، وإجراء انتخابات مبكرة بظرف عام من ترأسه الحكومة، لإنهاء الأزمة السياسية التي انسحب “التيار الصدري” الفائز الأول في الانتخابات الماضية من تشكيل الحكومة والعملية السياسية بسببها، إثر خلاف مع غرمائه من الشيعة في تحالف “الإطار التنسيقي” الذي يضم جميع القوى الشيعية المقربة لإيران.

تحالف “الإطار” اعتبر قانون رقم 9 لسنة 2020، جاء ليستهدف حظوظهم، ليعطّلوا بعد ذلك مشروع زعيم “التيار الصدري” مقتدى الصدر، بتشكيل حكومة “أغلبية وطنية”. الأمر الذي أدى لأزمة سياسية هي الأطول بتاريخ عراق بعد 2003، ولم تنتهِ إلا باعتزال الصدر العمل السياسي في آب/أغسطس الماضي، نتيجة تطور الخلاف لصدامات مسلحة، وتشكيل “الإطار” لحكومة السوداني الحالية، متعهدين بإجراء انتخابات مبكرة بعد تعديل القانون.

العودة إلى قانون “سانت ليغو” فتح مستقبل البلاد على عدة احتمالات، لاسيما مع تصعيد المحتجين في بعض المحافظات مثل ذي قار. أيضا إعلان القيادي البارز في التيار حاكم الزاملي، اعتراضه على تعديل قانون الانتخابات، ونشر على حسابه الرسمي في “فيسبوك”، مقطعا مصورا لعبد المهدي الكربلائي ممثل المرجعية الدينية التي يقودها المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، وكتب عليه “لا للقائمة المغلقة، لا للدائرة الواحدة”.

تعليقا على ذلك، بيّن المهتم بالشأن السياسي وأحد وجوه احتجاجات “تشرين” البارزة، علي الشمري، أن قوى الإطار قد توصلت لقناعة مفادها أن الحراك الاحتجاجي الذي سبق وأطاح بالحكومة التي كانوا قد شكّلوها بناء على تقاسم الكعكة، قد فقد فاعليته وتأثيره، ومن الصعب أن يعيق مجرى تعديل قانون الانتخابات الذي يعد تعديله نصرا كبيرا سواء على “التيار الصدري” أو على القوى الناشئة.

سحق القوى الناشئة

الشمري، قال في حديث لموقع “الحل نت”، إن القوى التقليدية وهنا القصد تحديدا الأحزاب المنضوية في تحالف “الإطار”، تمتلك تنظيم وجذور عميقة، كما أنها تعرف جيدا إدارة حملاتها الانتخابية وفقا لقانون “سانت ليغو”، لذلك إن العودة إليه كان أهم مطالبهم وتعطيل للعملية السياسية بعد خسارتهم في الانتخابات السابقة، مبينا أن “سانت ليغو” يعطي فرصة للأحزاب الكبيرة في الفوز بالانتخابات، وهو ما تبحث عنه قوى “الإطار”.

بيد أن تمرير التعديل الثالث لقانون الانتخابات، بحسب الشمري، يمثل استفزازا علنيا لـ “التيار الصدري” الذي عبّر صراحة عن رفضه قانون “سانت ليغو”، لكن بناء على الموقف الحالي، يبدو أن الصدريين غير عازمين التحرك وإن كان القانون يمثل استفزازا لهم، وهو ما تمكن “الإطار” من قراءته واستغلاله بشكل جيد، متجاهلين الشارع العراقي بشكل تام.

الشمري، اختتم حديثه بالقول، إن الشارع الاحتجاجي فقد بريقه لعدد من العوامل على رأسها المتاجرة بالقضية، وأن الصدريين وإن كان سيضرهم القانون الجديد، غير أن ثقلهم معروف ولا يمكن المساس بهم، لذلك فالخاسر الوحيد هم التيار المدني في العراق، والشارع العراقي الذي كان يمنّي النفس بالخلاص من هذه الطبقة الفاسدة، لسبب أن الأحزاب الصغيرة لن يكون لديها أي أمل بالحصول على تمثيل في “البرلمان”، وسوف تُسحق إذا ما طبق القانون الجديد، مشيرا إلى أن احتساب الأصوات على الطريقة النسبية يخدم الأحزاب الكبرى ويجعل من الممكن بالنسبة لمرشحيهم الذين لم يحصلوا على ما يكفي من الأصوات أساسا بالفوز بمقاعد.

من التغيرات المهمة في قانون رقم 9 لسنة 2020، إجازته آلية جديدة في تقسيم الدوائر تتمثل في تقسيم المحافظة الواحدة إلى عدة دوائر انتخابية، بدلا من أن تكون المحافظة دائرة واحدة، وعالج نظام توزيع المقاعد، إذ قضى بتخصيص مقاعد كل دائرة للفائزين بأعلى الأصوات، وعلى التوالي، بغض النظر عن جنس المرشح، بعد أن يتم احتساب عدد الأصوات المدلى بها لكل واحد ضمن الدائرة في جولة واحدة.

اعتبر قانون رقم 9 الذي جاء بعد حراك تشرين الأول/أكتوبر نصرا للقوى الصغيرة التي تحاول المنافسة والدخول لـ “البرلمان”، وبالفعل تمكنت القوى المستقلة في انتخابات 10 تشرين الأول/أكتوبر 2021 من دخول “البرلمان”، إذ تمكنت القوى الصغيرة التي أفرزها الحراك من الظفر بمقاعد في “البرلمان”، فـ”حركة امتداد” حصلت على 9 مقاعد، كما حصلت “حركة إشراقة كانون” على 6 مقاعد، وغيرهم من المستقلون الذي صعدوا إلى منفردين لـ “البرلمان”.

لكن وعلى الرغم من ذلك، يبدو أنه بعد إقرار “البرلمان” قانون “سانت ليغو” لن تبقى الخريطة السياسية للمجلس كما هي، فالانتخابات القادمة وفقا للقانون الجديد لن تفسح المجال للقوى المستقلة والصغيرة برجحان كفتها في البرلمان، بل سيُعاد سيناريو انتخابات ما قبل 2021، والمتمثل بعودة القوى التقليدية وإدارتها وفقا لصالحها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.