في زيارة تمتع بخصوصيتها، لما بات يعانيه العراق من جفاف حاد بالمياه، جاء إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالمفاجئ، حينما تحدث خلال استقباله رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني الثلاثاء الماضي، في أنقرة، عن بدء العمل على مشروع طريق التنمية الممتد من البصرة أقصى جنوب العراق وإلى تركيا، والذي وصفه بأنه “طريق حرير جديد”، وسط حالة من الحماس التي أظهرها السوداني، ما أثار الكثير من التساؤلات.

السوداني تولى رئاسة الحكومة العراقية في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، مرشحا عن تحالف “الإطار التنسيقي” الذي يضم جميع القوى الشيعية المقربة من إيران باستثناء “التيار الصدري” الذي يتزعمه رجل الدين البارز مقتدى الصدر، بمعنى أن حماس السوداني على التوافق مع الرئيس التركي لا بد من الوقوف عنده، إذا ما كان أمرا لا مفر منه، أم رغبة حقيقة منه بالتقارب. والأخيرة تبدو مستبعدة حسابيا بالنظر إلى خلفية السوداني وداعميه الذين لا ينكفئون حتى فترة قليلة من إظهار العداء لتركيا.

أردوغان استهل حديثه في مؤتمر صحفي مشترك عقده مع السوداني، بالترحيب بالأخير والوفد المرافق له، عقب لقائهما في أنقرة، وأخذ بالمديح على الجهود العراقية في مساعدة بلاده أثناء كارثة الزلزال التي ضربت تركيا الشهر الماضي، قائلا؛ أودّ أن أوجه شكري مرة أخرى إلى الشعب العراقي والحكومة العراقية على تضامنهم في مكافحتنا ضد كارثة الزلزال (…). أنا أعتبر هذه الزيارة دليلا على صداقة الشعب العراقي لنا.

فحوى زيارة رئيس الحكومة العراقية لتركيا

تدريجا، انتقل أردوغان بالحديث، إلى فحوى لقاءه برئيس الحكومة العراقية، وقال لقد تناولت مع السيد رئيس الوزراء العلاقات الثنائية بين تركيا والعراق بجميع جوانبها وعلى كافة الأصعدة، وأكدنا عزمنا على مكافحة شاملة للإرهاب بكافة أشكاله، كما أكدنا عزمنا على العمل معا لإنجاز مشروع طريق التنمية الرامي لبناء ممر نقل بري وسكة حديد تمتد من البصرة إلى الحدود التركية، واتخذنا خطوة جادة تظهر إرادتنا للعمل معا لتحقيق هذا الهدف، من خلال إعلان أنقرة الذي اتفقنا حوله.

اقرأ/ي أيضا: رافد اقتصاد ميت.. هل تنجح مساع إحياء الصناعة بالعراق؟

طريق التنمية، بحسب الرئيس التركي، لا يعتبر مشروعا استراتيجيا مهما لتركيا والعراق فحسب، بل للمنطقة بأسرها، مبينا أنه قد كلّف الوزراء المعنيين بالعمل على تحقيق مشروع طريق التنمية الممتد من البصرة إلى تركيا، لاسيما وأن ملايين الأشخاص في مناطق واسعة من أوروبا إلى الخليج سيستفيدون من القيمة المضافة التي ستظهر مع إنشاء هذا الطريق.

 إلى جانب ذلك، وفقا لأردوغان، أن هذا المشروع سيعزز التعاون الإقليمي، قائلا أنه “سيطوّر تجارتنا ويقوّي علاقاتنا الإنسانية، ونحن ندرك أن الدول الشقيقة الأخرى أيضا تهتم بهذا المشروع (…)، أنا على ثقة أننا مع مشاركتهم سنتمكن من تحويل مشروع طريق التنمية إلى طريق الحرير الجديد لمنطقتنا”.

إعلان الرئيس التركي، قابله موقفٌ عراقي بدا أكثر حماسا وهو ما لفت الأنظار إلى جوهر ذلك، حيث قال رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني، إن “القناة الجافة” التي يجري العمل عليها حاليا في البصرة ستربط الشرق بالغرب وتصبح ممرا عالميا لنقل البضائع والطاقة، وبينما كان يتحدث من تركيا، دعا خلال ذلك دول المنطقة لاجتماع في بغداد لمناقشة مشروع قناة التنمية الحيوي.

عادة، الزيارات التي يجريها الرؤساء والمسؤولين تكون شبه واضحة الأهداف، لاسيما وأنه من الطبيعي ستكون تابعة لحدث معين، أو خلاف يُراد الاتفاق حوله، وحتى على مستوى الزيارات التي تأتي لتقارب في مرحلة ما بين جانبين، وهي ما ظهرت عليه زيارة السوداني إلى تركيا كذلك، فغالبا ما تكون مكللة بالاتفاقيات والمعاهدات ومذكرات التفاهم، إلا أنه قبل ذلك لم يكن واضحا أن لزيارة السوداني أن تأخذ هذا المنحى، خصوصا وأن التركيز كان منصبّا على ملف المياه الذي بات العراق يعاني بسبب الجفاف جراء قطع تركيا للمياه الواصلة إلى نهري دجلة والفرات، وتقليل كمياتها بشكل كبير.

“القناة الجافة” قبل كل شيء

لكن الزيارة تطرقت إلى اتفاق “القناة الجافة” قبل كل شيء، وجاءت على ملف المياه بشكل غير واضح المعالم، حيث اكتفى الرئيس التركي بالإشارة إلى أن بلاده ستزيد كمية المياه المتدفقة من نهر دجلة قدر الإمكان “لمدة شهر واحد” من أجل رفع ضائقة العراق، معللا ذلك بالقول إن معدلات تساقط الأمطار في تركيا هي في أدنى مستوى خلال الـ 62 عاما الأخيرة، وإن البلاد تمر بفترة جفاف فاقمها تغير المناخ، لكن بلاده تعتبر مسألة المياه مجالا للتعاون الذي يخدم المصالح المشتركة وليس للصراع.

الأمر الذي فسّره مراقبون، بأن تركيا تعمد إلى قطع المياه عن العراق الغني بالنفط والذي يمتلك موقعا جغرافيا يمكنه أن يلعب دورا كبيرا في مسألة ربط البضائع التركية بالمنطقة العربية، وأن تكون تركيا منفذا شرق أوسطي بالنسبة للتجارة الأوروبية الرامية الوصول إلى منطقة الخليج العربي التي تمثل سوقا استهلاكيا مهما، بغية تركيع العراق الذي يحكم من قبل أحزاب غالبا ما تكن العداء لأنقرة، بهدف إجباره على الانخراط في اتفاقيات ومعاهدات مع تركيا، نظرا إلى إعلان أردوغان زيادة المياه لشهر واحد، من دون توقيع اتفاق واضح مع الحكومة العراقية لتقسيم الحصص حسب القانون الدولي.

اقرأ/ي أيضا: الدفة المتأرجحة.. هل تنقلب الصفحة على العلاقات التركية المصرية؟

حول ذلك، أشار المحلل السياسي داود القيسي إلى أن الأمر يبدو واضحا، فتركيا ترغب في استثمار موقع العراق، لتتحول إلى المنفذ الرئيس بالنسبة لأوروبا والمنطقة العربية، لاسيما وأن العراق تربط حدوده بـ 6 دول من ضمنها تركيا، بالإضافة إلى دعم الاقتصاد الوطني لبلادهم التي يعاني أضرارا كبيرة، وهو ما يأتي في سياق تنويع الموارد الاقتصادية أيضا.

القيسي بيّن في حديث لموقع “الحل نت”، أن استخدام ملف المياه بات واضحا جدا لإرغام العراق على الاستجابة للرغبات التركية التي تهدف إلى دعم اقتصادها وموارده، وذلك بالنظر إلى كمية الجهود التي بذلها العراق طيلة السنوات الثلاث الماضية لإيجاد حل طويل الأمد لملف المياه وعدم استجابة الجانب التركي، وهو ما يؤكد أن تركيا لا تريد التوصل لحل دائم يحرمها استخدام ملف المياه وتجيره لقضاياها التي تسعى لتحقيقها.

لذلك إن صيغة إعلان الرئيس التركي عن زيادة إطلاقات المياه إلى نهر دجلة، في الوقت الذي ينخفض فيه الخزين المائي الاستراتيجي للعراق إلى أدنى مستوياته تاريخيا، وتوقيت الإعلان، تؤكد بحسب المحلل السياسي، أن ذلك كان مدروسا ومخططا له، وهو ما يجب أن يستثمره العراق في أن يسعف حاجته من المياه حاليا، ومن ثم التوجه إلى “مجلس الأمن الدولي” لتدويل القضية، وذلك بالسياق مع حدّ التعاملات التجارية مع تركيا.

العراق وتركيا وحجم التبادل التجاري

تركيا تأتي في المرتبة الثانية بالنسبة للدول المورّدة إلى العراق، وبحسب الرئيس التركي، فإن حجم التبادل التجاري بين تركيا والعراق تجاوز 24 مليار دولار العام الماضي محطما رقما قياسيا، كما نوّه إلى أن البلدين يملكان القدرة على زيادة حجم التجارة أكثر.

في الأثناء، كشفت بيانات “معهد الإحصاءات” التركي، في أحدث إحصائية له، عن أن التضخم السنوي في تركيا انخفض في شباط/فبراير الماضي بنحو طفيف إلى 55.18 بالمئة، وذلك بعد أن وصل لمستويات قياسية خلال الأشهر الأخيرة، ووفقا للمعهد التركي فإن التضخم تراجع بعد أن كان في شهر يناير الماضي عند 57.68 بالمئة.

في المقابل، يتوقع “صندوق النقد الدولي” أن يكون التضخم في تركيا هذا العام عند 51.2 بالمئة، فيما يتوقع أن يبلغ متوسط التضخم العالمي 6.6 بالمئة، وتأتي بيانات التضخم في وقت تستعد فيه تركيا لضخ مليارات الدولارات لإعادة بناء المناطق المتضررة من الزلزال الذي ضرب أجزاء من البلاد في 6 شباط/فبراير الماضي.

بناء على ذلك، وبالنظر إلى الحالة الحرجة التي يمرّ بها العراق جراء الجفاف، حيث انخفض مستوى خزينه المائي الاستراتيجي إلى 7 مليارات متر مكعب، في الوقت الذي يحتاج فيه العراق نحو 38 مليار لسد حاجته، وإلى وضع الاقتصاد التركي، فإن الرئيس أردوغان يحاول تبادل المنفعة بناء على وجهة نظره، والتي تبدو قائمة على تعطيش العراق.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.