تتساوق الظروف المعيشية والاقتصادية التي يعيشها الإنسان السوري في ترك آثارها الحياتية اليومية، ويترافق ذلك مع بقايا أوضاع الحرب السورية، وعدم انعكاس الهرولة التطبيعية العربية والخليجية على أوضاع الإنسان السوري، لذلك نجد هروبه من هذا الواقع متابعة الدراما السورية بأنواعها المتعددة في شهر رمضان، لكن سوء حظ هذا المواطن عدم وجود الكوميديا في هذا الموسم لكي يتم شحنه من التفريغ والنسيان والهروب من هذا الواقع، غير أن موسم  2023 حفل بعدد من الأعمال فيها من التشويق والبهجة الرمضانية بعيدا عن الأوضاع السورية. وتعدد القراءات لهذه الأعمال البيئية، بينما نادرا ما نجد مواقع وصحف ومجلات تدخل إلى عمق هذه الأعمال خصيصا في شهر رمضان، حيث تستمر القراءات الخفيفة التي تتناسب مع فعل الصوم وأثره على الإنسان الصائم. وفي هذه القراءة سوف نعرض لجانب نادرا ما لامسته القراءات في أعمال البيئة الشامية هو وجود الكركون في هذه الأعمال.

الكركون

الكركون عند أرباب السياسة جماعة من الجند للمحافظة على سلطتهم، كما وردت في معجم محيط المحيط، وفي معجم اللغة العربية المعاصرة كركون (مفرد) مركز شرطة.

 والكركون كما يظهر في دراما البيئة الشامية؛ هو مقر الشرطة المدنية التي تعني بشؤون الحارة مثل حارة الضبع في مسلسل “باب الحارة” في أجزائه الثلاثة عشر، ولعبت الشخصيات التي خدمت في الكركون من رئاسة إلى عناصر دورا كبيرا في تأجيج صراعات الحارة واستغلال وجودها وموقعها في الكركون (المخفر) في تقبل الرشاوي والهدايا والأطعمة الفاخرة من أجل السجناء الذين يتم حبسهم في الكركون. ومن أشهر شخصيات الكركون في “باب الحارة” في أجزائه الأولى( أبو جودت، زهير رمضان) الذي أصبغ شخصية رئيس الكركون في أداء كوميدي جعل منها كاتبها هي الشخصية الأساسية التي تخفف من عبء صراعات الحارة، وغير من الحارات في إطار كوميدي قابل للحياة والاستمرارية في أجزاء متتالية من العمل الدرامي، فهذه الشخصية من زاوية الشكل تبدو قاسية أو غاية في القسوة، عبر كركتر البدلة الميري الرسمية وعصا المارشالية التي يضعها تحت إبطه.

لكن ذلك كله يستخدم لكي يعزز المرح والكوميديا في أداء هذه الشخصية، فهو الممثل الأول للمستعمر الفرنسي من الناحية الرسمية في الحارة هو “أبو جودت” رجل شرطة الانتداب الذي يضحك عليه كـ”مرتشي” في علبة حلويات ميدانية أصلية أو حلاقة (قشة ذقن) عند حلاق الحارة (عصام، ميلاد يوسف)، وتتحدد اصطفافات أبو جودت في مشاكل الحارة من قدرة الأطراف على تقديم الرشا الأكبر والأثقل لهذه الشخصية. 

وإلى جانب رئيس الكركون نجد شخصية العريف (نوري، هاني شاهين)، الذي ينفذ أوامر أبو جودت بدقة عالية إلا إذا كان هناك رشوة خاصة به بالشامي(لحسة إصبع)، وهذا حصل مرارا في كركون حارة الضبع وغيرها من الحارات.

 وفي أحد الأجزاء الأولى لـ “باب الحارة” يتمرد نوري اليد اليمنى لأبو جودت، عندما يغضب (نوري) ويقتحم الكركون، ويهدده بالطبنجة، ويخاف منه نتيجة الطبيعة الخاصة بشخصية أبو جودت.

وفي الجزء التاسع من “باب الحارة” أدى (قاسم ملحو، أبو مشعل) شخصية رئيس الكركون في الحارة الثانية التي انتقلت إليها أحداث العمل وهي” حارة الصالحية”، بعد دمار حارتي” الضبع، وأبو النار” على أيدي الاستعمار الفرنسي، حيث شهد العمل وفاة شخصية (أبو جودت رئيس الكركون السابق، زهير رمضان).

 ويستخدم اليوزباشي (قاسم ملحو، أبو مشعل) عبارة و” أنا أخوك يا عوش” دائما، وعندما يتخذ قرار في تفتيش بيوت الحارة في محاولة الوصول إلى”الحصيني، بواك الدجاج”، هذه الشخصية ذي الأصول البدوية، فاللهجة في العمل تعكس التنوع في سلك الشرطة من زاوية حضور هذه الشخصيات في حارات العمل الدرامي البيئي. هذا التنوع يقدم جوهر الحياة السورية بكافة تلاوينها المناطقية والجهوية الإنسانية، وقدرة الحارات الدمشقية على تفهم واستيعاب هذا التنوع السوري الخلاق. 

إن وجود الكركون في الحارة يعطيها حضور وقوة من بوابة عدم السماح في ارتكاب الجريمة حيث يعمل في البحث والتحرير للوصول إلى المجرم الفاعل بغض النظر عن الخلاف القيمي والأخلاقي الديني المتكرر عند وقوع كل جريمة.

 وقد ظهر كركون الحارة في العمل الدرامي “الكندوش” ذي قدرة على حماية أبناء الحارة من مرتكبي الجرائم وإحقاق الحق وإعادته إلى أصحابه رغم كل ما ظهر من زعران وحرامية الحارة وغيرهم من مفتعلي الجرائم، خصيصا في عمليات السرقة التي كانت تجري على عدد من بيوت الحي، وعلى النقيض من دور الكركون في “الكندوش”، وجدناه في “بروكار” في جزئيه يعمل تحت هيمنة الانتداب الفرنسي، ويقمع ويعتقل أبناء الحي، ويشارك في أكثر من حملة من حملات الفرنسيين على الحارة، ويستكمل مهامهم في محاسبة أهل الحي، ولعب دور رئيس الكركون الفنان جمال العلي؛ بينما العديد من الشخصيات في قيادات جزء من الجيش الفرنسي في حي البروكار كانت على مسافة مكانية من الحي هناك في معسكر للجيش الفرنسي، وفي أبنية دمشقية حضر فيها أكثر من قائد وجنرال من الجيش الفرنسي منهم (عماد أبو الشامات، ومحمود خليلي..إلخ) الذين قادوا عمليات حصار للزعيم (أبو النور، جمال قبش) في الحي.  

الكركون ورجالاته سواء كانوا من أبناء الأحياء الدمشقية أو من أبناء سوريا أو من المحتل الأجنبي (“عثماني، عصملي”، فرنسي)، يلعبون دورا كبيرا وواضحا في تجنيد العملاء لهم من أبناء هذه الأحياء أو من خارجها، كما حصل في باب الحارة “صطيف الأعمى، معين عبد الحق” عندما عاش في حارة الضبع، وقتله في نهاية دوره العكيد (أبو شهاب، سامر المصري)، وهذا  يعد من الأدوار الكبرى الذي يقوم بها الكركون أو قيادات في الجيش.

 أن عمليات التعذيب التي يقوم فيها الكركون بشكل مباشر وجدناه في باب الحارة وغيره من الأعمال الدرامية وظهر جلياً في بروكار من خلال حبس الكثير من شخصيات الحارة من أجل تسهيل عملية انتخاب عميل الفرنسيين عضو في البرلمان السوري( قاسم ملحو).

الكركون في موسم 2023

 يظهر الكركون في أكثر من عمل درامي منه “العربجي” من تأليف عثمان جحا، ومؤيد النابلسي، وإخراج سيف الدين السبيعي، و”زقاق الجن” من تأليف محمد العاص وإخراج تامر إسحاق، و”باب الحارة” في الجزء الثالث عشر من تأليف مروان قاووق، وإخراج منال عمران، و”مربى العز” من تأليف معين صالح، وإخراج رشا شربتجي، بينما في العمل الدرامي “الزند، ذئب العاصي” من تأليف عمر أبو سعدى، وإخراج سامر البرقاوي تظهر الثكنات (العثمانية، العصملية) في العديد من المدن السورية منها ثكنة حمص المركزية، وثكنة دمشق العسكرية التي يجري فيها جزء من الفعل والمصراع الدرامي.

 إن دور الكركون في العربجي أداة منفذه بيد (أبو حمزة، شريف، سلوم حداد) في مواجهة خصومه من (عبدو الوحش باسم ياخور)، إلى الشخصية التي لعبت دورا في تبصيم أخيه” أبو نوري”، وإلى جانب الكركون وجدت شخصية المتصرف التي تتقبل الرشاوي بشكل مباشر، ويظهر دور السجن مباشر في اعتقال وتنقل عبدو بين السجون.

 أما في العمل الدرامي زقاق الجن يلعب الكركون دورا مباشرا في التحقيق بعمليات خطف الأولاد دون أن يصل إلى نتيجة مباشرة، وكذلك التحقيق عند قتل المختار، والخلافات التي تحدث بين رئيس الكركون والشخصيات التي تقود سلك الشرطة العصملية، إذا اعتقلت رئيس الكركون ووجهت إليه تهمة محاولة التدبير لاغتيال الوالي، وجرى اعتقال زوجته لإجباره على تصديق التهمة، ويتعاطف معه أحد المحققين، ويهربه خارج السجن، لكن عناصر الكركون يطلقون النار عليهما ويصبان.

بينما في باب الحارة الجزء (13) لا شيء جديد على صعيد أداء الكركون سوى أنه هناك فيه شخصيتان تتناوبان على العمل المباشر والتحقيق فيه” قاسم ملحو، أبو مشعل” و” أبو ذباح، حسين عباس”، في تناغم بينهما بعمل الكركون.

 ولا يخرج كركون وشاويش “مربى العز” عن الخط التقليدي عندما يعتقل ( مناع، محمود نصر) عند قتله ” لطفي، ابن أبو لطفي، غسان عزب” في مشاجرة مع زعران الحارة حيث يعتقله الشاويش وعساكره ويأخذه إلى السجن.

إن الكركون في دراما البيئة الشامية لموسم 2023، لم يخرج عن المسار التقليدي لدوره في درامات الأعوام السابقة فقط حافظ على أنه ألعوبة في العربجي بيد أبو حمزة، ويبحث عن دور أكبر في زقاق الجن لتغطية على فساد السلك الشرطة خصيصاً عندما يكون رجاله من أبناء الحي ذاته. فالعملية التبسيطية لبنية ودور الكركون في الحارة دون أن يحمل أي قيمة تتعلق بالعدالة والقانون والدستور رغم أن الكثير من الأعمال جاءت في مراحل وجود وعي فكري وسياسي وإيديولوجي في تاريخ هذه الأعمال، ولم تظهر إدارات ومؤسسات وطنية وديمقراطية في هذه الأعمال سوى قليلاً في العمل الدرامي بروكار في السنوات الأخيرة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات