خلال الفترة الماضية، فيما يتعلق بإدخال تكنولوجيا (الجيل الخامس) “جي 5” إلى السوق الأردنية، أبدت شركات عالمية اهتمامها لتقديم عروضها بتزويد خدمات الـ”جي5″، ممثلة بشركة “هواوي” الصينية و”نوكيا” الفنلندية و”إريكسون” السويدية و”راكوتن” اليابانية، وبحسب مسؤولين في شركات الاتصالات الأردنية كانت تدار جولات نقاشية خلال المرحلة السابقة حتى يتم اختيار المعتمدين.

في الأسبوع الماضي، وقّعت شركة الاتصالات الأردنية “زين” عقدا مع شركة “نوكيا” لنشر شبكات “جي 5” في المملكة، بينما وقع اختيار الشركة المحلية الأخرى لخدمات الهاتف الخلوي، “أمنية”، على شركة “إريكسون”. أما شركة “أورانج”، وهي شركة ثالثة لأجهزة الإنترنت للهاتف المحمول في عمّان، فلم تكشف بعد عن مزود خدمات الجيل الخامس الذي ستختاره للكثير من الأسواق، إلا أنه على غرار منافستَيها، يبدو أن الشركة تميل أيضا إلى اختيار شركة سويدية أو فنلندية متعددة الجنسيات لتوفير التغطية لمستخدمي خدماتها.

بالتالي فإن زجر شركة الاتصالات الصينية العملاقة “هواوي” سيخيب آمال بكين. ولا تقتصر الأسباب على كون الأردن مشاركا في “مبادرة الحزام والطريق” الصينية، ووجهةً تستقطب بصورة أكثر الاستثمارات الأجنبية المباشرة من الصين، بل أن “هواوي” قدمت أيضا الشبكة الأساسية لخدمات الجيل الثاني والثالث والرابع في الأردن، وفق تحليل لـ”معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى“.

من هنا، تبرز عدة تساؤلات حول دوافع وأسباب تراجع الشركات المحلية الأردنية عن مثل هكذا استثمارات صينية حساسة، وكذلك أهداف بكين للاستثمار في مثل هذه القطاعات بالمنطقة، ومدى إمكانية عرض بكين مشاريع مغرية للدول التي تعاني من أزمات اقتصادية، في المنطقة ومنها عمّان بهدف إغراقها بالديون ثم الهيمنة عليها.

دلالة على تباعد متزايد

العلاقات الأردنية الصينية لطالما كانت متمحورة حول الاقتصاد والتوريدات التجارية، حتى بعد إعادة انتخاب الرئيس شي جين بينغ، رئيسا لبلاده، أكد العاهل الأردنى الملك عبدالله الثاني، حرص بلاده على توسيع الشراكة الاستراتيجية مع الصين، خلال برقية تهنئة بعثها لشي جين بينغ.

الرئيس الصيني والأردني مصدر الصورة “نيوز سي إن”

إلا أن عدم تعاقد شركات الاتصالات المحلية الأردنية مع شركة “هواوي” الصينية، ستُلقي بكين باللوم بالتأكيد على الضغط الأميركي في استبعاد شركة “هواوي” من أسواق المملكة. ولا شك أن عمّان أدركت أنه سيكون من الصعب عليها الحفاظ على التعاون الاستراتيجي الوثيق مع واشنطن وحسن نية “الكونغرس” الأميركي، الذي يزود النظام الملكي حاليا بمساعدات مالية تبلغ قيمتها 1.6 مليار دولار سنويا، إذا استخدم الأردن شركة “هواوي” لتوفير خدمات الجيل الخامس في البلاد، وفق تحليل المعهد الأميركي. وربما أدركت عمّان أيضا، على غرار واشنطن، أن الشركات في الصين مَدينة بالفضل للحكومة، وبالتالي فإن شبكات عبور البيانات المدعومة من “هواوي” معرّضة للخطر بطبيعتها.

الكاتب والمحلل السياسي، ميّار شحادة، يقول إن الأردن بشكل كبير وبنسبة 90 بالمئة يعتمد على الخليج العربي فيما يتعلق بالضمانات والمستندات الموجودة باسم الأردن في “البنك الدولي”، بالإضافة إلى أن الاستثمارات المحلية الأردنية في الغالب هي غربية، فعلى سبيل المثال، مشروع مطار الملكة “علياء” الدولي تديره شركة فرنسية، وشركة “أورانج” هي شركة فرنسية تتعاون مع إسرائيل لأن مالكها يهودي إسرائيلي. ودعم وجذب الاستثمارات الأجنبية تعتبر استراتيجية تتبعها الأردن منذ سنوات طويلة لإخراجها من أزمة ديونها.

أما شركة “زين” هي كويتية ومملوكة لكويت وعاملة في العراق ولديها أبراج في فلسطين أيضا، وشركة “أمنية” استثمار محلي بسيط وهي تلقائيا مرتبطة بالغرب بشكل كبير، وفق شحادة لموقع “الحل نت”. ولفهم أبعاد هذه المسألة يجب التطرق إلى أهمية الموقع الاستراتيجي والجغرافي للأردن وبالتالي كيف تنظر كل من الولايات المتحدة و”الاتحاد الأوروبي” وروسيا والصين إلى الأردن.

قد يهمك: “فاغنر” الروسية بحضور علني في السودان.. ما الأبعاد والدلالات؟

بالنظر إلى موقع الأردن الجغرافي بالنسبة إلى كل ما يحيط بها وخصوصية ذلك، فهو ذا أهمية استراتيجية كبيرة أيضا نظرا لحماية الملاحة وأمن إسرائيل في البحر الأحمر، فلا شك أن عمّان يمثل أهمية كبرى لأطماع الصين.

شحادة استدرك ذلك إلى نظرة واشنطن للأردن التي تعتبره شريك استراتيجي في المنطقة، من حيث العلاقات الودية والبينية، مبنية على أهمية موقع الأردن، وهذه العلاقات قائمة وتوسعت منذ أيام الملك الراحل الحسين بن طلال بن عبد الله الأول الهاشمي، ثالث ملوك المملكة الأردنية الهاشمية، الذي بنى علاقات قوية منذ الستينيات مع واشنطن، خاصة في ذلك الوقت كانت علاقات الأخيرة مع دول الخليج اقتصادية بحتة، ولم تكن حيوية كما اليوم.

كذلك ثمة قاعدة عسكرية أميركية في مدينة المفرق الأردنية، وهي الركيزة الأساسية لقواعد أميركا في المنطقة، بمعنى أنه حتى لو سحبت قواعدها من دول الخليج فسيكون قاعدتها في الأردن هي البديل. وبالتالي عمّان مهم للبلدان الأخرى وبما في ذلك الصين، التي دخلت الأردن من بوابة التجارة والاستثمارات وليست من السياسة، وإن كانت هناك لقاءات بين المسؤولين وزيارات متبادلة بين قادة البلدين، وفق شحادة.

لكن بعد مرحلة “الربيع العربي”، وإغلاق العديد من المعابر التجارية مع كل من سوريا والعراق، الأمر الذي جعل عمّان يلجأ للتوريد من خلال ميناء “العقبة” والمجال الجوي كما هو معروف مكلف ويتسبب بارتفاع الأسعار، ومن هنا بدأت الصين تدخل البلاد عبر إغراءات اقتصادية، بحسب تقدير شحادة، وهدف الصين بالطبع الهيمنة على المنطقة وأخذ مكان روسيا، وبالتالي تراجع الأردن عن الاستثمارات الصينية الحساسة، دليل على مدى تشبث عمّان بعلاقتها مع واشنطن وعدم جعله فريسة سهلة أمام بكين. وأن لا يقع في فخ الديون الصينية.

يقظة عمّان من ألاعيب بكين

منذ التسعينات وتسعى الصين إلى التطور الاقتصادي في الشرق الأوسط التي أدت إلى تعزيز تواجدها في المنطقة، حيث زاد استيراد بكين للنفط من المنطقة عشرة أضعاف. كما وأصبحت الصين الآن أكبر مستثمر في المنطقة في 11 دولة، بما فيهم الأردن، من خلال “مبادرة الحزام والطريق”.

في عام 2015، وقّع الأردن والصين خلال منتدى الإقتصاد والتجارة الصيني الأردني وملتقى رجال الأعمال اتفاقيات ومذكرات تفاهم بقيمة 7 مليارات دولار. ومن بينها صفقة لتمويل “مشروع العطارات” الأردني الذي يُعد ثاني أكبر مشروع لاستخراج الطاقة من الصخر الزيتي في العالم. ويمثل الاستثمار الذي تبلغ قيمته  1.6 مليار دولار أكبر مشروع تموله بكين بنسبة 100 بالمئة ضمن “مبادرة الحزام والطريق”.

مع ذلك، لم يكن المشروع على قدر آمال الأردن. فعندما تم التوقيع على الاتفاق، تعطّلت إمدادات الغاز الحيوية من خط أنابيب مصري بسبب الهجمات المتكررة للمتشددين الإسلاميين بينما كانت المملكة في حاجة ماسّة إلى الطاقة. ولكن، بعد أقل من خمس سنوات، وقّع الأردن مع إسرائيل عقدا مدته 15 عاما بقيمة 10 مليارات دولار لتوفير الجزء الأكبر من الغاز الطبيعي في المملكة، والذي يوفر ما يقرب من 80 بالمئة من الطاقة لتوليد الكهرباء.

بالعودة إلى شحادة، فإنه يعلل ذلك لكون الصين ترى في الأردن وموقعه الجغرافي مكان استخباراتي هام، لكل من دول الخليج والمنطقة بشكل عام، فضلا عن أطماعها بجعل الأردن نقطة ربط بري بين مشاريعها في المنطقة، ولهذا قامت ولا تزال تسعى لتعزيز العلاقات الاقتصادية، بغية الهيمنة عليه لاحقا.

بالاستناد إلى إدراك المملكة بأهداف وأطماع الصين سواء في المنطقة أو في دول أخرى مثل سريلانكا، والتي أغرقتهم بديونها، يبدو أن المملكة باتت تقرأ وتحسب حساب الشراكات الصينية بحذر، ويبدو أنها ترى في استثماراتها شروط استغلالية لهذا تراجعت في الاستثمار وتحديدا في القطاعات الحساسة مثل قطاع التكنولوجيا والاتصالات.

شراكة استراتيجية تجمع بين شركة “أمنية” وشركة “إريكسون” العالمية موقع “إريكسون”

تأكيدا على يقظة عمّان على ألاعيب بكين في المنطقة، وسعيا للإعفاء من فخ الديون الصينية، بدأت في عام 2020 إجراءات تحكيم في “غرفة التجارة الدولية” في باريس لمراجعة الظلم الجسيم في اتفاقية شراء الطاقة من بكين. ولا تزال نتائج التحكيم معلّقة، لكن فوز الأردن قد يكون باهظ الثمن. فإذا فازت عمّان، أو إذا تم استبعاد “هواوي” في النهاية من مناقصات الجيل الخامس في المملكة، فقد تسعى بكين إلى الانتقام من خلال سياساتها الاقتصادية القسرية المتزايدة. فقبل ثلاث سنوات بدأت الصين حربا تجارية ضد أستراليا بسبب تجرؤها في طلب إجراء تحقيق في مصدر وباء “كوفيد-19″، وفق تحليل “معهد واشنطن”.

الصين لا تنفك عن المراوغة

في المقابل، تريد الصين أن تُظهر نفسها كقطب عالمي جديد، وتأكيدا على ذلك تحركاتها الأخيرة في المنطقة وتحديدا دورها كوسيط في هذه الاتفاقية بين أكبر منافسين في المنطقة؛ المملكة العربية السعودية وإيران، مؤخرا، بغية استكمال تجارتها وحماية مشاريعها الاقتصادية، التي أبرزها “مبادرة الحزام والطريق”، وزيادة علاقاتها النفطية، وبالتالي هذا سيدفع الأمر بها للضغط من كافة الجهات على الأردن للقبول باستثماراتها.

كذلك، يرى شحادة أن الصين ستحاول إغراء عمّان بالمشاريع الاقتصادية ومن ثم إغراقها بديونها ومشاكلها الاقتصادية، لكن هناك عامل ضغط جديد آخر وهو الضغط الخليجي على الأردن لزيادة الاستثمارات الصينية.

المحلل السياسي ميّار شحادة

استدراكا لذلك كان حضور الملك الأردني خجولا في القمة الصينية العربية في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، ولم يكن مرحّباً به حينها، وهنا سيكون الأردن أمام خيارين، إما الضغط على الجميع من خلال الورقة الأميركية وعلاقته بها، أو الخضوع لهذه الهيمنة الصينية، وفي العموم العملية تأخذ صعودا وهبوطا، على حد تعبير شحادة.

في خضم المتغيرات والأزمات الدولية، لا شك أن الأردن، سيحاول قدر المستطاع زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر بغية إنعاش اقتصاده، وإن كانت ثمة مشاريع صينية من بينهم. لكنه حتما سيحاول الابتعاد عن القطاعات الحساسة ورفض الشركات المحلية التعاقد مع “هواوي” الصينية دليل على ذلك، وربما تتمحور الاستثمارات حول المشاريع الأقل أهمية من الناحية الاستراتيجية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات