في خضم الصراع الدائر في السودان منذ ما يقرب من أسبوعين، خريطة النفوذ داخل البلاد باتت تتكشف، حيث أعلن أحد الأطراف علانية دخوله في الصراع هناك. فبعد أن نفت مجموعة “فاغنر” العسكرية الروسية الخاصة الأنباء التي أشارت إلى وجود أنشطة لها في البلد الإفريقي، وأكدت أنه لا علاقة لها بالمعارك الدائرة حاليا في البلاد، في إطار الرد على تقارير غربية قالت إن شركة “فاغنر” متورطة بممارسة أنشطة تعدين غير مشروعة؛ للبحث عن الذهب في السودان، من بين أنشطة أخرى، أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، يوم الثلاثاء الماضي، أن بلاده تجيز تدخل مجموعة “فاغنر” في الصراع السوداني.

تصريح لافروف هي المرة الأولى التي تكشف فيها موسكو رسميا عن دور قوات “فاغنر” في الخرطوم، في تحرك قد يضيف مزيدا من الزيت على النار المشتعلة بالفعل في السودان. وهذا ليس بالأمر المباغت، ذلك لأن روسيا تغذي الصراع من أجل الانخراط فيه من خلال “فاغنر” كجزء من خطة لتوسيع عملياتها وأنشطتها في جميع أنحاء إفريقيا.

بالتالي، فإن هذا الصراع في السودان يفتح الباب أمام مواجهة جديدة بين موسكو والغرب. فقد قال لافروف من مقر “الأمم المتحدة” الرئيسي في نيويورك، إن السودان له الحق في الاستفادة من خدمات “فاغنر”، إضافة إلى تأكيد قائد المجموعة، يفغيني بريغوجين، الأسبوع الماضي، استعداد مجموعته للتدخل في حال طلب الشعب السوداني ذلك، بقوله “إذا طلب الشعب السوداني سأرسل بالتأكيد مهمة حفظ السلام مكونة من مجموعة فاغنر إلى السودان، ولو كانت فاغنر هناك لأعتقد أن الحرب ما كانت لتبدأ في السودان. فقوات فاغنر لا تبدأ الحروب، بل تنهيها دائما “.

من هنا تبرز عدة تساؤلات حول الدور الذي تلعبه مجموعة “فاغنر” في السودان، وأهدافها التي تريد تحقيقها هناك، بالإضافة إلى أبعاد تدخل مجموعة “فاغنر” في الصراع، وإذا ما ستدخل الولايات المتحدة الأميركية لإنقاذ البلاد من جحيم مشابه لما حصل في القرن الإفريقي ودولة ليبيا، وإذا ما كان يستدعي انخراط “فاغنر” في السودان تدخل قوى أخرى.

دور وأهداف “فاغنر”

نحو ذلك، قال لافروف في مؤتمر صحافي في “الأمم المتحدة” إنه يحق للسودان الاستفادة من الخدمات الأمنية لمجموعة “فاغنر” التي يتهمها الغرب بتجنيد مرتزقة حول العالم. غير أنه لم يوضح ما إذا كان لهذه المجموعة عناصر على الأراضي السودانية يساعدون في القتال مع “الجيش السوداني” بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان و”قوات الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان المعروف بـ”حميدتي”.

السودان وكالة “رويترز”

صحيفة “ذي هيل” الأميركية قالت يوم أمس الخميس إن روسيا تعمل على تأجيج حدة الصراع وصب الزيت على النار في مواجهات السودان، التي دخلت أسبوعها الثاني وراح ضحيتها أكثر من 500 شخص. ويقول خبراء إن تحركات “فاغنر” في إفريقيا تساعد كثيرا في تمويل الغزو الدموي التي تشنها موسكو في أوكرانيا.

كما وذكرت الصحيفة أن مؤسس مجموعة “فاغنر” المرتبط بالكرملين، يخطط لإشراك مرتزقته في القتال من أجل السيطرة على السودان وتقديم الأسلحة إلى الجماعات شبه العسكرية المتحاربة، بجانب استغلال علاقاته بالأطراف داخل السودان من أجل تحقيق مكاسب لموسكو. ومجموعة “فاغنر” تضع عينها بقوة على السودان.

الأكاديمي والمحلل السياسي، وعضو “الحزب الديمقراطي الأميركي”، مهدي عفيفي، يرى أن مجموعة “فاغنر”، بالطبع، تحاول بكل الطرق أن تكون حاضرة في العديد من الأماكن في إفريقيا. هناك العديد من الصراعات في القارة، سواء في إثيوبيا أو تشاد أو ليبيا أو في أي مكان آخر ، و”فاغنر” جزء كبير من هذه الصراعات. ولا يخفى على أحد أنها تحظى بدعم كبير من روسيا، لأن الأخيرة تجد فيها مدخلا لكثير من الصراعات والتواجد في أماكن مختلفة في إفريقيا.

بحسب تقدير عفيفي لموقع “الحل نت”، فإن “فاغنر” تلعب دورا رئيسيا في الصراع داخل إفريقيا، ويعتقد عفيفي أن الولايات المتحدة تعرف ذلك جيدا وتحاول وضع حدّ لتدخلها هناك، لأن تدخل “فاغنر” في السودان يعني إطالة أمد هذا الصراع، ذلك لأن مصلحة هذه المجموعة هي استمرار الصراع لأنها تحيا عليها وليس بانتهائها.

قد يهمك: مع تعثر الهدنة.. السودان نحو التقسيم على الطريقة السورية – الليبية؟

لذلك يرى عفيفي أن أبعاد وأهداف “فاغنر” هو وجود دائم لها في السودان، وهذا يعني تمدد روسي مع طرف على طرف آخر، وتجديد لتواجد أي قوة أخرى معنية بالسودان سواء كانت قوة أوروبية أو أميركية أو حتى عربية. ومن خلال هذه المجموعة تحاول روسيا أن تكون لها يد خاصة بعد الخسائر في أوكرانيا، لذلك يعتقد عفيفي أن موسكو تحاول إيجاد انتصارات أخرى لتعويض فشلها في كييف.

أما الباحث في العلاقات الدولية، الدكتور إسماعيل تركي، يقول من جانبه، أن مجموعة “فاغنر” ظهرت في إفريقيا بحجة مزود للخدمات الأمنية، وبمرور الوقت، تطورت إلى ما وراء الخدمات العسكرية الخاصة وأصبحت أحد أهم الأدوات الروسية لتحقيق أهدافها في القارة الإفريقية، وهو ما ظهر في شكل وطبيعة التصويت للدول الإفريقية في “الأمم المتحدة” بشأن القرارات الخاصة بالغزو الروسي لأوكرانيا والتي أوضحت النفوذ الروسي بالقارة وكم للدول التي عارضت أو امتنعت عن التصويت على قرارات تدين غزو روسيا لأوكرانيا.

تركي يقول إن تصريحات لافروف تأتي في محاولة للتقليل من أدوار مجموعة “فاغنر” في الصراع الدائر في السودان، حيث  قال إن “السودان يمكنه أن يستفيد من خدمات “فاغنر” وقارنها بشركات أمن أميركية وأوروبية. إلا أن تحليل الوضع في السودان، والأدوار المتعددة التي تقوم بها “فاغنر”، تكشف أن شبكة عملياتها ونطاقها تكتسي تعقيدا أكبر في عشرة دول إفريقية على الأقل، من ضمنها السودان، حيث تتمتع بمواقع تأثير حسّاسة مثلا في مراقبة مناجم الذهب أو في علاقاتها مع الجبهة المقابلة في الصراع.

بوابة موسكو لإيفريقيا؟

نحو ذلك، تعتبر السودان بوابة لروسيا في إفريقيا، فوجود قوات “فاغنر” ليس بأمر جديد ويظهر في مجالات متعددة. وحتى نهاية حكم  الرئيس المخلوع عمر البشير، وفق ما يقوله تركي لموقع “الحل نت”، فقد مُنحت تصاريح مناجم الذهب إلى شركة “إم- إنفيست” الروسية التي يُعتقد أنها خاضعة لبريغوجين. ومن خلال تلك الخطوة حصل مرتزقة “فاغنر” على مهمة تأمين مناجم شركة “إم إنفيست” في السودان.

كذلك، في عام 2017، التقى البشير والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في سوتشي لزيادة التعاون بينهما. ووعد البشير بوتين هناك بأن السودان يمكن أن يخدم روسيا كمدخل لإفريقيا وفي المقابل وعده بوتين بتقديم دعم عسكري، لكن هذا الدعم لم يمنع خلع البشير في نيسان/أبريل 2019، طبقا لحديث تركي.

كما وزاد نفوذ “فاغنر” في البلاد، وتسعى روسيا بالدرجة الأولى لتأمين الوصول إلى المواد الخام الثمينة في السودان، بالإضافة إلى الذهب تشمل هذه المواد المنجنيز والسيليكون، وتعتبر رواسب اليورانيوم أيضا ذات أهمية خاصة بالنسبة لموسكو.

الباحث في العلاقات الدولية، الدكتور إسماعيل تركي

تركي يقول إن “فاغنر” قدّمت الدعم لأحد طرفي الصراع وهو “قوات الدعم السريع” بقيادة حميدتي، وهذا الدعم نتيجة رفض البرهان إقامة قاعدة عسكرية روسية على سواحل البحر الأحمر في السودان بعد الاتفاق عليها سابقا. وهذا الحديث يؤكده صحيفة “نيويورك تايمز” حيث كشفت أن “فاغنر” عرضت تقديم أسلحة بما في ذلك صواريخ أرض – جو لـ”الدعم السريع”، على الرغم من نفي حميدتي وجود أي صلة بـ”فاغنر”.

مدير معهد “ميدلبري للدراسات الدولية” جيسون بلازاكيس يقول إنه “في حال صحّت هذه التقارير فهذا يعني أن مجموعة فاغنر قد ذهبت بعيدا، وربما تقدم على تصعيد حدة الصراع من خلال تحريض الطرفين المتحاربين، أو على الأقل ضخ السلاح من أجل تحويله لحرب أهلية”.

خلال حكم البشير، شهدت العلاقات العسكرية تطورا كبيرا بين الخرطوم وموسكو، حتى أصبحت روسيا مصدر السلاح الرئيسي للجيش السوداني. وتزامن ذلك مع اندلاع حرب في دارفور في غرب البلاد من جهة، وحرب أخرى بين السودان وجنوب السودان من جهة أخرى. علما أنه كان هناك حظر دولي على السلاح الى السودان.

السودان وكالة “رويترز”

في عام 2017، وقّع البشير اتفاقا مع روسيا على إنشاء قاعدة على البحر الأحمر تستضيف سفنا روسية بما في ذلك سفن تعمل بالوقود النووي، على أن يتمركز فيها 300 جندي. وفي تموز/يوليو 2020، فرضت “وزارة الخزانة الأميركية” عقوبات على بريغوجين واتهمته “باستغلال الموارد الطبيعية للسودان لتحقيق منفعة شخصية”.

السودان يحتل المركز الثاني في إنتاج الذهب على مستوى القارة الإفريقية، إذ يبلغ إنتاجه السنوي أكثر من 90 مليون طن وبقيمة تصل لخمسة مليارات دولار، كما عُرف أيضا بسلة غذاء العالم بإجمالي مساحة أراض زراعية تبلغ نحو 216 مليون فدّان، وتتعدد موارده من فضة ونحاس ويورانيوم وثروة حيوانية، كل ذلك بالتوازي مع موقع جيوسياسي يعتبر البوابة للقرن الإفريقي.

كيف ستتحرك واشنطن؟

في المقابل، كان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن قد عبر عن قلق بالغ من تقارير عن تورط لقوات “فاغنر” في حرب السودان. وقال في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الكيني “نشعر بقلق بالغ لوجود مجموعة فاغنر، في السودان”، مضيفا أن “مجموعة فاغنر النشطة في مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى والمشاركة في الغزو الروسي لأوكرانيا، تجلب معها أينما تحركت المزيد من الموت والدمار”.

قد يهمك: نذر الحرب متنامية في السودان.. انقلاب عسكري على الحكم؟

هذا وعقد “مجلس الأمن الدولي” جلسة مغلقة لبحث الوضع في السودان، بطلب من بريطانيا التي اقترحت إصدار بيان للتنديد بالحرب وضمان المغادرة الآمنة للرعايا الأجانب، لكن لم يجر التوصل الى توافق في الآراء، إذ عارضت الدول الإفريقية الثلاث، الغابون وغانا وموزمبيق، والتي فضلت تقديم الدعم للجهود الدبلوماسية للمنظمات الإقليمية، وبخاصة “الاتحاد الإفريقي” ومنظمة “إيغاد”، بشأن الوساطة بين الطرفين المتنازعين. وقوبل طرحها بدعم أممي.

أما ميدانيا، لم تصمد الهدنة الجديدة بين الجيش و”الدعم السريع”، إذ بعد ساعات من سريانها خرج كل طرف ليتهم الآخر بخرقها، بينما تواصلت عمليات الإجلاء والنزوح خارج السودان.

بالعودة إلى المحلل السياسي، وعضو “الحزب الديمقراطي الأميركي”، فإن واشنطن تحاول الآن إيجاد حل سلمي للصراع السوداني. لذلك يرى عفيفي أن الهدنة هي خطوة أولى، لكن هناك أطراف مصلحتها استمرار الصراع أو انتصار طرف على آخر.

كما وثمة أطرافا تعتقد أن استمرار هذا الصراع يلغي أو يؤجل وجود حكومة مدنية في السودان، وما يحدث الآن هو نتيجة محاولات كثيرة وتدخلات خارجية في الخرطوم حتى لا يكون هناك نظام أو نموذج لوجود حكومة مدنية، وترغب وأن تستمر الأمور تحت طائلة النظام العسكري، حتى لو انتهى هذا الصراع فإن السلطة ستكون للنظام العسكري، وفق ما يحلله عفيفي.

عفيفي يرى أن التدخل المباشر لواشنطن في السودان مستبعد تماما في الوقت الحاضر، لأن المواطنين الأميركيين يرون أن تدخل واشنطن خارج إطار الاتفاقيات الأخرى مع الدول الأخرى يجب أن يتم تقليصه. وحتى الآن، يعتقد عفيفي أن تدخل واشنطن سيكون سياسيا أو من خلال المباحثات، وليس من خلال التدخل المباشر.

الأكاديمي والمحلل السياسي، وعضو “الحزب الديمقراطي الأميركي”، مهدي عفيفي

كما ولا يعتقد عفيفي أن وجود “فاغنر” حاليا سوف يستلزم ردا عسكريا مباشرا من قبل واشنطن، حيث تعمل الولايات المتحدة مع كلا الطرفين المتنازعين في السودان للتوصل إلى حلول سلمية، لكن ثمة متابعة عن كثب لتحركات مجموعات “فاغنر” في السودان. والتخوف من انخراط “فاغنر” بشكل كبير في السودان هو تدخل قوى أخرى، فالسودان بتركيبته القبلية المعقدة يمكن أن يؤدي ذلك إلى استمرار حرب أهلية طويلة الأمد، وهو أمر غير مقبول في الوقت الراهن.

يتفق والرأي ذاته، حيث يقول تركي إن واشنطن ستسعى للضغط على طرفي النزاع للقبول بهدنة والوصول إلى وقف إطلاق النار الدائم والمضي قدما في المسار السياسي مع الأطراف المدنية. ومما لا شك فيه أن لدى الولايات المتحدة ومصر والسعودية ودول أخرى تأثير مهم ويمكنها إيجاد حل ضمن الإطار السياسي السلمي.

بالنظر إلى وجود حرب محتدمة بين موسكو والغرب في القارة الإفريقية بما في ذلك السودان، وهذا الصراع الروسي هو صراع على المصالح والنفوذ والثروة التي يتمتع بها السودان ودول القارة، بالتالي، لن يبقى الصراع في السودان محصورا بطرفين فقط، لا سيما بعد إعلان “فاغنر” الدخول إليه علنا، ومن ثم قد يؤدي ذلك إلى انجرار قوى إقليمية ودولية إلى التدخل إذا طال أمد الصراع ولم يتم التوصل إلى تسوية، ومن الممكن أن تتحول اتهامات الأطراف لبعضها البعض بمساعدة أطراف أخرى في المنطقة تصبح حقيقة وتتحول إلى حرب طويلة متشابكة ومعقدة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
2 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات