كانت سوريا تتمتع بتاريخ طويل في تربية الماشية، حيث لعب هذا القطاع دورا حيويا في اقتصاد البلاد والأمن الغذائي. ومع ذلك في السنوات الأخيرة، انخفض إنتاج الثروة الحيوانية بشكل حاد، مما ترك الكثيرين يتساءلون أين اختفى مشروع “تنمية الثروة الحيوانية” في سوريا.

الحكومة السورية أطلقت مشروع “تنمية الثروة الحيوانية” في نهاية عام 2020، بهدف تحديث القطاع وتحسين نوعية وكمية الإنتاج الحيواني. وتضمن المشروع مبادرات مثل تحسين علم الوراثة الحيوانية، وزيادة الوصول إلى الخدمات البيطرية، وتوفير التدريب للمزارعين.

لكن منذ حوالي عام، اختفت الأخبار حول مشروع تطوير الثروة الحيوانية واستيراد حلقات ترقيم القطيع دون أي تحديثات منذ ذلك الحين. على الرغم من الاستثمار الكبير في المشروع ورغم كل ما أنفق عليه، لم يذكر اختصاصيو التوعية والقائمون على المشروع أيا من فوائده أو تقدمه حتى الآن.

“الكل يتاجر على ظهر المربي”

مؤخرا لم يعد بإمكان المربين الاعتماد على حليب الأبقار والأغنام والماعز كمصدر للدخل. وبدلا من ذلك، يتم استغلالهم من قبل تجار الألبان وبائعي الأعلاف، بما في ذلك الذين يرأسون الجمعيات التعاونية الزراعية التابعة لوزارة الزراعة. إذ إن هؤلاء الأفراد يستغلون حاجة المربين للمواد العلفية ويفرضون عليهم أسعارا باهظة، حتى أنهم يذهبون إلى حد أخذ عمولات منهم لتأمين المواد اللازمة.

الثروة الحيوانية في سوريا تتناقص - إنترنت
الثروة الحيوانية في سوريا تتناقص – إنترنت

في حين أنه من الصحيح أن رسوم نقل المواد العلفية تدفع من قبل الجمعية، فإن السؤال الحقيقي هو كم المبلغ الذي يدفعه المربون لوصول المواد إليهم، ولماذا هو أعلى من السعر الرسمي، والذي أدى لبيع كيلو الحليب بـ 2400 ليرة سورية في منطقة الغاب و3500 ليرة في المحافظات الأخرى.

في حديثه عن الموضوع لموقع “غلوبال” المحلي، أعرب الدكتور مصطفى عليوي، مدير الثروة الحيوانية بالهيئة العامة لتنمية وتطوير الغاب، عن خيبة أمله من الموقف الحالي، لأن بائعي الحليب يتاجرون على ظهور المربين، وكثيرا ما يضخمون أسعار العلف ويشترون الحليب بأسعار أقل، وفق قوله.

عليوي أكد أن عدد الأبقار الموجودة في مجال زراعة الغاب 29 ألف رأس جلها منتج للحليب، لكن مع الواقع الصعب سيضطر المربون لبيع أبقارهم واستبدالها بالأغنام حينا، والبعض الآخر يستبدل هذه الأخيرة بالأبقار، كل ذلك بهدف البحث عن مصدر عيش.

رؤساء الجمعيات يتاجرون 

كان للصراع في سوريا الذي بدأ في عام 2011، تأثيرا مدمرا على قطاع الثروة الحيوانية، حيث تعرض العديد من المزارعين للتهجير أو القتل، كما أن تدمير البنية التحتية جعل من الصعب نقل الحيوانات والوصول إلى الأسواق. بالإضافة إلى ذلك، فإن فقدان العمال المهرة، بما في ذلك الأطباء البيطريون وعلماء الحيوان، جعل من الصعب الحفاظ على جودة الثروة الحيوانية، فضلا عن غلاء الأسعار وفقدان المواد الأولية لتربية الماشية.

الثروة الحيوانية في سوريا تتناقص - إنترنت
الثروة الحيوانية في سوريا تتناقص – إنترنت

عدد من المربين قالوا للموقع أمس الخميس، إن رؤساء الجمعيات يتاجرون بالمادة العلفية، ويتقاضون أسعارا وأجورا باهظة لقاء إحضارها من مركز الأعلاف لمقر الجمعية، متسائلين لماذا لا يتم بيعها للمربي مباشرة دون رئيس الجمعية، “الوسيط غير المنصف بل المستغل”.

المواد العلفية وتداولها من الوزارة للجمعيات هي عملية تبادلية تستخدم في تغذية الحيوانات، ويتم تداول هذه المواد بين مختلف الجمعيات في المحافظات السورية، ومع ذلك فإن هذه العملية تحولت إلى عملية تجارية غير شرعية، حيث يتاجر رؤساء الجمعيات بالمواد العلفية ويحصلون على أرباح كبيرة من خلال ذلك.

في السنوات الأخيرة، تم إطلاق مشروع تطوير الثروة الحيوانية في سوريا، والذي كان يهدف إلى تطوير هذا القطاع وتحسين جودة المنتجات الحيوانية في البلاد. ومع ذلك، فإن هذا المشروع اختفى بشكل غامض، وتداولت العديد من التسريبات التي تشير إلى أن رؤساء الجمعيات يتاجرون بالمواد العلفية ويحصلون على أرباحها بعيدا عن أعين وزارة الزراعة، وهذه التجارة غير الشرعية تسببت في اختفاء المشروع.

تجارة المواد العلفية بشكل غير شرعي بحسب ما ذكره المربي في منطقة الغاب أبو محمد الهواش، لـ”الحل نت”، سببت ضررا كبيرا للقطاع الحيواني، حيث أدى ذلك إلى تدهور جودة المنتجات الحيوانية وتأثير سلبي على صحة الماشية، كما قلل الإنتاجية والربحية في هذا القطاع بسبب ارتفاع الأسعار على المربي.

سر ارتفاع الأسعار يكشف على العلن

كان لانخفاض الإنتاج الحيواني وارتفاع أسعار الحليب ومشتاقته تأثيرا كبيرا على اقتصاد البلاد وأمنها الغذائي، خصوصا وأن تربية الماشية تعد مصدرا رئيسيا للدخل للعديد من الأسر الريفية، وقد أدى انخفاض الإنتاج إلى زيادة الفقر وانعدام الأمن الغذائي. بالإضافة إلى ذلك، أدى فقدان الماشية إلى تقليل توافر اللحوم والحليب والمنتجات الحيوانية الأخرى، مما ساهم في صدور قرار الاستيراد.

الثروة الحيوانية في سوريا تتناقص - إنترنت
الثروة الحيوانية في سوريا تتناقص – إنترنت

الحقيقة الثانية التي بيّنت سبب ارتفاع الأسعار، هو التهريب الذي استنزف الثروة الحيوانية، وخاصة في المناطق الحدودية، فوفقا لمدير “الإنتاج الحيواني”، تناقصت الأعداد إلى أقل من 17 مليون رأس، وفق إحصاءات مكتبية وتقارير منظمات دولية.

اللافت أن الحلول المقترحة من طرف المعنيين لدى الوزارات المعنية، تمر عبر سلسلة من الندوات والمحاضرات، وبالتالي فإن الثروة الحيوانية ستنزف أكثر ريثما تمر عبر “الروتين والبيروقراطية والمناقشات الطويلة”.

لذلك ونتيجة عدم وجود حلول، أصدرت الحكومة السورية الأربعاء الفائت، قانونا يقضي بإعفاء عملية استيراد الأبقار بقصد التربية من الرسوم الجمركية والضرائب والرسوم الأخرى. ونص القانون والذي حمل الرقم 8، أن “تعفى الأبقار المستوردة بقصد التربية من الرسوم الجمركية والضرائب والرسوم الأخرى لمدة خمس سنوات اعتبارا من تاريخ نفاذ هذا القانون”.

أعداد الثروة الحيوانية بالغاب، نحو 29021 رأسا من الأبقار عند المربين، و500 رأسا في محطة أبقار جب رملة التابعة للمؤسسة العامة للمباقر، ونحو 256855 رأسا من الأغنام، و97487 رأسا من الماعز، و604 رؤوس من الجاموس عند المربين، و210 رؤوس في محطة الجاموس بالهيئة.

مع ذلك، فإن تكاليف الإنتاج للماشية أصبحت كبيرة لدرجة أنها لا تترك هامش ربحٍ للمربي، بالإضافة إلى استغلال التجار لمنتجاتهم وسيطرتهم على الأسعار، وسط غياب الرقابة والتموين وحتى الجانب التسويقي الحكومي من كل هذا، الأمر الذي دفع الكثير من مربي المواشي للعزوف عن المهنة، وكذلك تراجع عدد العاملين في هذا القطاع، لضعف العوائد المادية فيه، وسط غلاء المعيشة.

الظروف المعيشية الخانقة التي يعيشها غالبية السوريين، نتيجة ارتفاع تكلفة جميع السلع بشكل غير مسبوق، بالإضافة إلى استغلال كبار التجار الذين يسيطرون على الأسواق، وغياب الدعم الحكومي ومشروع تنمية الثروة الحيوانية، سيترك آثاره السلبية على الحياة المعيشية برمتها في سوريا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات