بعد منافسة محمومة في الجولة الأولى، ثم انتقال الانتخابات الرئاسية التركية لأول مرة في تاريخ البلاد إلى جولة ثانية، حسم رجب طيب أردوغان نتائج الانتخابات لصالحه وفاز بولاية ثالثة حتى عام 2028، وهي الأخيرة له بموجب دستور البلاد الذي يمنعه من الترشح لولاية رابعة، ليصبح معها الرئيس الذي يحكم البلاد أطول مدة في تاريخ الجمهورية.

بعد فرز أكثر من 99 بالمئة من صناديق الاقتراع في عموم البلاد، حصل أردوغان على 27.4 مليون صوت “52.11 بالمئة”، فيما حصل منافسه مرشح تحالف المعارضة كمال كليجدار أوغلو على نحو 25.2 مليون صوت “47.89 بالمئة”، بعدما أدلى أكثر من 52.5 مليون مواطن تركي بصوته في صناديق الاقتراع، إذ بلغت نسبة الإقبال على الصناديق قرابة 84 بالمئة.

مع فوز أردوغان بولاية جديدة لحكم تركيا حتى عام 2028، ثمة العديد من التساؤلات التي يجب طرحها حول أهمية ومعاني فوز أردوغان لتركيا وسياستها الخارجية، وتداعيات بقائه في السلطة على المستوى الداخلي لتركيا وكذلك على المستوى الخارجي. وإذا ما سيكون هناك تغييرات في سياسة أردوغان الخارجية مع دول المنطقة والعالم. كما وعد بعد فوزه بتحسين الاقتصاد وعودة مليون لاجئ سوري إلى بلدهم، وبالتالي ما فرص تحقيق ذلك.

دلالة فوز أردوغان

أردوغان كان قد استبق إعلان لجنة الانتخابات وأعلن فوزه. وتوجه بالشكر إلى الشعب التركي، خلال المؤتمر الشعبي الذي عُقد في مدينة اسطنبول مساء يوم أمس الأحد، على تجديد الثقة فيه، وتحميله “المسؤولية” لفترة رئاسية جديدة. وفي كلمته الحماسية أمام الآلاف من مؤيديه، قال أردوغان إنه سيواصل العمل من أجل تركيا موحدة، مضيفا أن أحدا ليس بمقدوره أن يُسيء للحريات في تركيا.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يلقي كلمة أمام أنصاره عقب فوزه في الانتخابات الرئاسية- “أ ف ب”.

في المقابل، أعرب كليجدار أوغلو، عن حزنه الحقيقي بشأن مستقبل البلاد بعد إعلان أردوغان فوزه، وقال في أول تصريحات علنية له بعد الانتخابات “حزني الحقيقي يتمثل في الصعوبات التي تنتظر البلاد”، مضيفا أنه سيواصل كفاحه، بعد أن أظهرت النتائج الأولية عدم فوزه في انتخابات وصفها بأنها أكثر انتخابات غير نزيهة منذ سنوات. وقال كليجدار أوغلو في حديثه في العاصمة التركية أنقرة، إن النتائج تظهر رغبة الناس في تغيير حكومة استبدادية.

فوز أردوغان بالانتخابات التركية لم يكن أمرا مباغتا، إذ كان متوقعا، نظرا لنتائجه في الجولة الأولى. ويرى الباحث والأكاديمي السياسي عبد السلام القصاص، أثناء حديثه لموقع “الحل نت” أن الرسالة القومية التي دائما ما كانت ضمن خطابات أردوغان استقطبت الكثيرين من الأصوات، بجانب اصطفاف المرشح القومي المتطرف في الجولة الأولى من الانتخابات، سنان أوغان، إلى جانب أردوغان، وهو ما عزز من حظوظ فوز أردوغان بولاية جديدة.

إلا أن أردوغان فاز بنحو 4 نقاط، أي بفارق ضئيل، بمعنى أن حوالي نصف الشعب التركي لم يصوت له ولا يريدونه رئيسا للبلاد، وهذا وحده مؤشر على تراجع شعبيته مقارنة بالانتخابات السابقة، وبالتالي فإن نسبة كبيرة من الأتراك لم تعد تثق بأردوغان ولا بسياسته، واختاروا التغيير، إلا أن صوت القومية يبدو كان مؤخرا في نفوس الأتراك، إذ لا يزال أردوغان الشخصية الشعبية المفضلة لديهم، حيث يعتقد مؤيديه، رغم فشله في كثير من القضايا والملفات الشائكة في تركيا، أنه لا يزال الأفضل لقيادة تركيا بكل مشاكلها ومعضلاتها، على حدّ تقدير القصاص.

التداعيات الداخلية

أردوغان، في أعقاب الإعلان عن النتائج الأولية التي أشارت إلى فوزه بجولة الإعادة في انتخابات الرئاسة بتحقيق الوعود التي قطعها واستمرار المسيرة المقدسة. وقال أردوغان بعد إعلان التلفزيون الرسمي فوزه على منافسه كليجدار أوغلو “أشكر شعبي الذي مكّنني من فرصة تحمل المسؤولية تجاهه لمدة خمس سنوات مقبلة”. وأضاف “الشعب التركي كله هو الفائز بهذه الانتخابات”.

أردوغان تابع في تصريحاته “قلنا مرارا إن المسيرة المقدسة لن تتعثر ولن نخيب آمال كل من يعوّل علينا.. سنحقق وعودنا خلال المرحلة المقبلة وسنتمسّك بها”.

وكالة “أسوشيتد برس” الأميركية، اعتبرت أن هناك عدة تحديات داخلية بالأساس واجهت أردوغان قبل انتهاء ولايته، وقد تستمر معه بعد إعادة انتخابه.

تتمحور هذه التحديات حول أزمة غلاء المعيشة الحادة التي يلقي الخبراء باللوم فيها على سوء إدارة الحكومة للاقتصاد، في حين يعتقد أردوغان أن أسعار الفائدة المنخفضة تعمل على ترويض التضخم، على عكس النظرية الاقتصادية التقليدية، وتضغط على “البنك المركزي التركي” ليعكس وجهة نظره.

برأي القصاص فإن خطاب أردوغان عقب فوزه بالانتخابات الرئاسية، ليس فيه تغيير كبير، وبالتالي لن يحمل فوزه أي تغييرات كبيرة على البلاد سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، والواقع الاقتصادي لن يتحسن بهذه السرعة، ذلك لأن تحسّنه لم يكن قائما على فوز أردوغان من خسارته، فهو يقود دفة الحكم منذ سنوات طويلة، وسياساته الخاطئة أدّت إلى تراجع الاقتصاد وازدياد مستوى التضخم بشكل كبير.

أردوغان عادة ما يوعد ويحدد العديد من الأهداف في خطاباته الشعبوية، لكنه لا يحقق سوى جزء صغير منها، وهو ما يرجع إلى أخطائه السياسية في قيادة البلاد. على سبيل المثال، اختياره التعاون مع روسيا على حساب الغرب هو أحد العوامل وراء أزمات تركيا الاقتصادية، من حيث التبادل التجاري والاستثمار الأجنبي، كما أن تراجع الليرة التركية منذ يوم الأمس الأحد وبعد فوزه مؤشر يدلل بأن اقتصاد البلاد سيتراجع ولن يكون هناك تقدم باستثناء أرقام طفيفة.

هذا وتراجعت الليرة التركية إلى 20.05 مقابل الدولار، مع إعلان أردوغان فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو فوز من شأنه أن يمدد حكمه، الذي ينزع إلى الشمولية على نحو متزايد، إلى عقد ثالث. وهذا الرقم قريب للغاية من أدنى مستوى قياسي بلغ 20.06، الذي سجلته الليرة التركية أمام العملة الأميركية، يوم السبت الماضي. وتراجعت الليرة بأكثر من 6 بالمئة منذ بداية العام.

لكن الاقتصاد ربما يتحسن ولكن في حال غيّر أردوغان من سياسته الخارجية، وصار في صف المحور الغربي، ذلك لأن الدعم الغربي سيكون مفصليا في تحسين الأزمة الاقتصادية التركية، وبغير ذلك لا يمكن تحسينها، وفق القصاص، لكن في المقابل ربما لن يتجه للغرب في سد العجز في موازنة البلاد، بل قد يتجه لطلب الدعم من دول أخرى مثل قطر والمملكة العربية السعودية، الذي أثنى على دور الخليج ودعمهم الاقتصادي أثناء حملته الانتخابية.

أحد أسواق تركيا- “إنترنت”

فوز أردوغان اليوم يعني المزيد من العقبات أمام الحريات والحقوق في البلاد، حيث تضم تركيا عددا كبيرا من السياسيين والصحفيين في سجونها، لا سيما بعد انقلاب 2016. حتى الخطاب العنصري في تركيا اشتد إلى مستويات كبيرة، خاصة تجاه اللاجئين السوريين، “فقد رأينا كيف يتم قتل وتهديد السوريين هناك، وتقييد حرياتهم وتنقلاتهم في البلاد”، مما يعني أن وعود أردوغان بعودة مليون لاجئ سوري كبداية، سيصطدم بالعديد من المشاكل والأزمات، نظرا لأنه ليس ثمة رغبة لدى حكومة دمشق في حل قضية عودة اللاجئين أولا، وتاليا تركيا لوحدها لا تستطيع إعادتهم قسرا، فضلا عن عدم وجود خطط واضحة لمناطق فصائل “الجيش الوطني السوري” المدعوم من أنقرة، من حيث إدارة وشكل الحكم فيه، فهي قائمة على الفصائلية وليس ثمة توافق فيما بينهم في الأساس، وبالتالي الأمر يحتاج إلى حل سياسي شامل للبلاد، وهذا صعب التحقيق في المستقبل المنظور، بظل تشبث كل طرف بعقليته وسياسته، وفق تحليل القصاص.

أما بالنسبة للتقارب التركي السوري، فيعتقد القصاص أنه بعد فوز أردوغان فإن لكنته تجاه الرئيس السوري بشار الأسد، ستتراجع قليلا، ومستوى الإلحاح على التقارب الذي كان سائدا في خطاب الحكومة التركية قبل الانتخابات، سيتراجع لعدم تقديم التنازلات لدمشق، وبالتالي يستبعد القصاص أن يتم التوصل إلى توافق ما بين أنقرة ودمشق خلال الفترة المقبلة، خاصة وبعد التقارب العربي مع دمشق وعودة الأخيرة إلى “جامعة الدول العربية”، فضلا عن مدى تعقيد وتشابك الملف السوري.

السياسة الخارجية

تركيا قبل الانتخابات الرئاسية بأشهر عدة، صارت تتبع سياسة “صفر مشاكل”، مع دول الجوار، مثل السعودية ومصر ومن ثم الحكومة السورية بدمشق، وكان واضحا الهدف فيه تلميع صورة الحزب الحاكم قبل الانتخابات الرئاسية.

صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” الأميركية، ذكرت في وقت سابق أن أردوغان سيواصل سياسته بعد فوزه بفترة رئاسية جديدة، في دفع تركيا لشق طريق مستقل بين الولايات المتحدة وحلفائها من جانب، وروسيا وحلفائها من جانب آخر. التقرير الذي نشرته الصحيفة مساء يوم السبت الماضي، توقعت فيه فوز أردوغان بفترة رئاسية جديدة، وهو ما حدث بالفعل بعد ساعات قليلة.

التقرير أشار إلى أن تركيا بمقتضى عضويتها في “حلف الشمال الأطلسي” (الناتو)، لأكثر من 70 عاما، كانت دوما ضالعة في غالبية عمليات حفظ السلام التي يشارك فيها الحلف، لكنها مؤخرا وبعدما بدأت تشتري جانبا من أسلحتها من روسيا، لا سيما شراء أردوغان لأنظمة الدفاع الجوي من طراز “إس -40” من موسكو، أصبحت ترفض المشاركة في مهام مشابهة يمكن أن تثير غضب روسيا، وهو توجه تركي جديد أصبح ملحوظا بشكل أكبر، بعد الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية، قبل نحو عام ونصف العام، إذ حوّل أردوغان بلاده كما يفعل كل مرة، إلى حليف هام لكل طرف لا يمكن الاستغناء عنه، سواء الولايات المتحدة وحلف “الناتو”، من جانب، أو روسيا من جانب آخر.

مدير الشؤون الأوروبية في مركز “أوراسيا للأبحاث السياسية”، إيمري بيكر، يرجح “من المتوقع أن يستمر بلعب دور هام لكن غير مريح من المنظور الغربي”. وأشار التقرير إلى أن تركيا قدمت المسيّرات لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، بغض النظر عن حجم الخلاف مع الغرب، الذي تتفق عليه تركيا تحت إدارة أردوغان مع روسيا، مما جعل أردوغان حليفا انتقائيا للحلف، وليس حليفا تاما، وهو ما اتضح في معارضتها انضمام السويد إلى “الناتو”.

الأمر الذي دفع الولايات المتحدة إلى معاقبتها بمنعها من شراء مقاتلات “إف 16” الأميركية، كما فعلت واشنطن في السابق، عندما أبعدت تركيا عن برنامج تصنيع مقاتلات “إف-35″، بعد شرائها ” إس-400″، عام 2021.

القصاص يتفق مع هذا التحليل ويعتقد أن أردوغان لن يفك ارتباطه مع المحور الآسيوي وخاصة روسيا، الأمر الذي سيجعل علاقته مع الغرب متوترة، لكنه سيحاول خلق حالة من التوازن والبراغماتية مع الطرفين، لأنه لا يستطيع التخلي عن الغرب مهما بلغ صلته بموسكو، لأن ذلك سيقود البلاد للهاوية.

لكن القصاص يعتقد أن أردوغان سيغير بعض سياساته الخارجية نوعا ما، ليواصل إعادة العلاقات مع دول الإقليم، وتحديدا مصر ودول الخليج، ومواصلة التقارب مع إسرائيل، بالتزامن مع تحريك مسافات أكبر عن جماعات الإسلام السياسي ولا سيما “إخوان المسلمين”، وفق شروط التقارب مع القاهرة.

عليه، فإن فوز أردوغان في الانتخابات الرئاسية اليوم لن يأتي بتغييرات كبيرة على تركيا أو سياساتها الخارجية، بالنظر إلى تشابك علاقاتها الخارجية، واعتماد استراتيجية تعدد العلاقات وفقا لمصالحها، وهي سياسة لا تقدم سوى استنزاف لها، دون تحقيق أي نتائج مستقبلية كبيرة بالنسبة لأنقرة. وكما يعتقد المراقبون أن عام 2023 يُعتبر بمثابة “نقطة تحوّل” تاريخية وخاصة بعد انتقال الانتخابات لجولة ثانية ومن ثم تقارب نتائج التصويت، وبالتالي فوزه يعني المزيد من الاستبداد في تركيا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات