شكّلت القسوة أداة رئيسية في عملية التواصل مع المشاهد، وكانت حركة الأحداث تستقطبها، وتعيد تشكيلها بفعل مشهدي مؤثر يستفز أعصاب المشاهد، فالعديد من المخرجين يوظفونها كجزء من الحياة التي يتم تجسيدها بصريا دون أية لحظة استرخاء في إطار الاستفادة من التقنيات لتغطية الحركة البطيئة للأحداث داخل العمل الدرامي.

تستفز القسوة التراث النفسي للمشاهد عبر عملية التكرار من خلال محاولات طرح مفهوم “السلطة”، والصراع عليها من طرق وأساليب تركبها وتتعامل معها، وتطفي حرفية المخرج على النص بتقنيات بصرية دقيقة عبر عملية التكرار في كل حلقة تحمل فكرة سابقتها بمشهدية جديدة، وهذه العملية تحفر ذاكرة المشاهد وتستفز أعصابه خصيصا إن كان المخرج يعتمد التقنيات المرئية التي تساعد على الإبهار البصري.

إن التقنيات الحديثة تساهم في التعبير البصري بكسر كافة المفاهيم السائدة في عمليات الإخراج من خلال التخلي عن عقلية “الراوي”، وتقليص الحوار إلى الحدود الدنيا فيما يتم الإبهار البصري عبر حركة الكاميرا.

نماذج من القسوة دراميا

في التسعينيات من القرن الفائت كتب رياض سفلو العمل الدرامي “العبابيد”، وأخرجه بسام الملا. ظهرت به القسوة كعنصر أساسي في البناء الدرامي، عبر قصة زنوبيا، في قرية “عش اليمام”، وهناك وقائع أسر زنوبيا واجتياح المدينة وما رافق ذلك من تشكيل درامي وضعه المؤلف، وفي الإطار العام فإن ما قُدم كان رواية تقليدية أضاف إليها المؤلف قصة حب وسط العنف والقسوة الحاصلة، بينما وضع فيها المخرج تقنيات القسوة ليخرجها من اللون القديم الذي ظهر في نهاية السبعينات عبر دراما “انتقام الزباء”، وبدا الفضاء السينوغرافي في “العبابيد” كشرط مسرحي لا يحمل سمات حالة المشاهدة المرئية، فيضع المشاهد في حالة افتراضية للمكان الذي يجري فيه الحدث، وتم التركيز على مقولات تتكرر أحيانا أثناء الحدث بشكل عقلاني لتصبح الكلمة أداة توصيل مثلى.

 أما العمل الثاني الذي ظهرت في القسوة هو العمل الدرامي “أبو كامل” الجزء الثاني والذي كتبه الدكتور فؤاد الشربجي، وتولى إخراجه الراحل علاء الدين كوكش، حيث جسدت القسوة والتسلط إلى جانب تشابكات المرحلة السياسية ناقلة تشعباتها إلى مستوى الحياة الشعبية، وهذا العمل قدم صورة لحكومة المديرين أثناء الانتداب الفرنسي في تطور درامي هو التحقيق بموت “أبو كامل”، والصراع على ثروته ونفوذه.

 وقدم المخرج المخضرم هيثم حقي القسوة كأداة للتواصل في مسلسلات “هجرة القلوب إلى القلوب” و”الثريا”، ففي الأول شاهدنا عملية إعدام داخل القرية، ولكن دون أن نراقب تعابير الإعدام على وجوه المحكومين، فالتعبير البصري نقلها للمشاهد في الهلع الذي ارتسم على وجوه الناس لحظة الإعدام، بينما في “الثريا” شاهدنا عملية الذبح فكانت الدماء وتعابير المقتولين تكون مشهدية القسوة، وهذا التعبير البصري يصدم المشاهد من جانب السرد من جهة الأداة، لكنه في ذات الوقت لا يتعامل مع المتلقي كمشاهد لأنه يضعه داخل الحدث، وهذه المغامرة قد تخرج المشهد تماما من دائرة الثقافة المرئية إذا نظرنا لآلية تعاملها مع المتلقي، فتصبح القسوة “شاهد عيان” تثبت طروحات الدراما بدلا من أن تبني مجموعة المشاهد ما يريد إيصاله المخرج وكاتب النص. 

ضمن ذات الإطار قدم المخرج غسان باخوس في العمل الدرامي “الفراري”، وباختلاف مستوى التقنية الإخراجية وضع التعبير البصري في حدوده الدنيا، واستخدمت “مشهدية القسوة” بشكل جائر أثر على قدرة المشاهد في متابعة العمل، رغم الجهد الإخراجي الواضح، لكن الكثير من المشاهد افتقرت لقدرة التواصل البصري مع المتلقي.

القسوة ظهرت في بنية ومشهدية “تل الرماد” الذي كتبه غسان جباعي، و”نهاية رجل شجاع” عن رواية الراحل حنا مينة، سيناريو حسن م. يوسف، وأخرجهما نجدة إسماعيل أنزور، حيث وظف في الثاني بصريا واقع الانتداب الفرنسي، لأن قسوة الانتداب ظهرت جلية في مشهدية أنزور منذ الحلقات الأولى، ولم تكن عملية “قطع ذنب الجحش” سوى جزء من أدوات التعبير القاسية التي مدت لتصوير مأساة نهاية الرجل الشجاع، وكانت القسوة في العمل الدرامي “أخوة التراب” الذي كتبه حسن م. يوسف وأخرجه أنزور، أعمق في تأثيرها رغم مخالفة بعض المشاهد للحقائق، فمشهد الإعدام على “الخازوق” سجل حالة قصوى من التعبير البصري، كما وردت في “كتاب الدراما التلفزيونية السورية” لـ مازن بلال، ونجيب نصير.

القسوة في الدراما 2023

 لا تقدم القسوة كثيمة عمل درامي خاص، ولكنها تقدم في بعض الأعمال الدرامية كخط خاص بالعمل، وهي تظهر أحيانا كتسلط وظلم واستعداد كما نجده في العمل الدرامي “الزند، ذئب العاصي” للكاتب عمر أبو سعدة والمخرج سامر البرقاوي، حيث يتجلى الصراع التقليدي بين الآغا (الباشا) والفلاحين، إذ يعتمد الباشا القسوة كأسلوب للسيطرة على الفلاحين من خلال إرهابهم ودفعهم للانصياع إلى أوامره بدون أي نقاش، وتظهر القسوة في بداية المسلسل حين يخدع قائد رجال الباشا (فايز قزق، إدريس) والد عاصي ويأخذ منه ثلاثين ذهبة على أمل أن يؤجل تنفيذ أوامر الباشا ليوم آخر، لكنه يقتل والد عاصي، ما يدفع المراهق عاصي لكي يستل خنجره ويغرزه في عين القائد ويهرب، وتلاحقه أصوات أهله اهرب..اهرب يا عاصي. فالقسوة في خداع وقتل الأب حول المراهق عاصي إلى متمرد.

 إحدى مشاهد القسوة هو إعدام ابن “أم محمد” (حنان شقير) عن طريق فتح جرح في جسده وتعليقه وكأنه شنق في ساحة القرية حتى يصفى دمه. ويحفل العمل بالعديد من مشاهد القسوة منها أيضا قلع عاصي العين الثانية لإدريس أمام أهل قريته.

أما العمل الدرامي “الكرزون” نجد فيه مشهد انفجار بيروت من المشاهد التي تحمل القسوة ويقع تحت تأثير هذا الانفجار كل من الراحل أسامة الروماني (عدنان بيك) ويلتقي بصديقه (أندريه سكاف، سامح). 

في العمل الدرامي “ليلة السقوط” من تأليف مجدي صابر وإخراج ناجي طعمة، نجد واحدا من أقسى المشاهد عندما يقدم “عبد الله حسان عوف الدباح” (طارق لطفي)، إلى ابنة القاضي (كندا حنا) رأس أبيها مقطوع على سفرة الطعام، بالإضافة إلى العديد من المشاهد ومنها نقل القاضي، وقبله الدباح في قفص حديدي من أجل تنفيذ عملية الإعدام ومشاهد بيع السبايا. 

بينما في العمل الدرامي “زقاق الجن” من تأليف محمد العاص وإخراج تامر إسحاق، عملية حرق الطفل نادر الذي يموت من الدخان، وعمته (أمل عرفة، شيماء) من أقسى المشاهد حينما تحاول إنقاذه، لكن محاولتها باءت بالفشل، وخطف الطفل(مازن) ابن “أبو تيسير” (شادي زيدان) من قبل “لطيف” (حمادة سليم)، وقتل “شيماء” لـ “لطيف” في الحلقة الأخيرة، إذ أنها بعد إدراك موت “مازن” تقوم بضرب “لطيف” على رأسه حتى الموت رغم كل حالة الضعف التي كانت تنتابها.

 ويزداد خط القسوة في العمل مع الممثلة إمارات رزق بدور “صبحية” التي تؤدي شخصية مركبة من زاوية علاقتها بالذكور الذين يدفعون مالاً مقابل إقامة علاقة معها، لكنها كلما اقترب جسدها من رجل لا تحبه يتخشب جسدها نتيجة الحالة النفسية السيئة التي تنتابها، وتقتله، فالقسوة ليست في عملية القتل فقط، وإنما في حالة تخشب جسد “صبحية” وسيطرة أفعال اللاوعي للخلاص من الحالة. 

من أقسى اللقطات في العمل الدرامي “العربجي” من تأليف عثمان جحا، ومؤيد النابلسي، وإخراج سيف الدين سبيعي، تتمثل بقتل زوجتي العربجي الأولى عند دفعها إلى الخلف من قبل الراحل محمد قنوع، بدور “شومان” خوفا من ضربها لـشخصية حمزة التي يقوم بتأديتها ميلاد يوسف، إذ اخترق قضيب الحديد جسدها وماتت، وقام بسرقة جسدها لكي تضيع معالم جريمته، والثانية (بلقيس خانم، روعة ياسين) عندما طلب يد ابنتها، وهروب الابنة بعد أن كتب أبيه (سلوم حداد، أبو حمزة) كتابه عليها، وخنق “حمزة” لـ “بلقيس” بيده في حالة هيجان نتيجة ذلك. 

ومن اللقطات القاسية عندما يطلب أبو حمزة من (عبدو العربجي، باسم ياخور) أن يقبل قدمه، وينصاع مكرها لتنفيذ الطلب. والقسوة على الفجائعية عندما يفتح أبو حمزة “شوال” جثمان ابنه في بيت أخيه أمام “درية خانم” (نادين خوري)، ولا يمكن تناسي مشهد القسوة والعنف عندما يجلد” أبو حمزة”؛  “عبدو” في ساحة العربجية بسبب سرقة حمل القمح من قبل شغيله “وظوظ” (سوار الحسن).

 وفي العمل الدرامي “وأخيراً” من تأليف وإخراج أسامة عبد الناصر، كل مشاهد سجن النساء قاسية، لكن مشهد صراع وقتال السجينات يحمل من القسوة العجب العجاب، فهو أقرب إلى صراع الديكة حتى الموت، بالإضافة إلى قساوة لقطات الهروب عندما لا تستطيع “خيال” (نادين نجيم) أن تأخذ رفيقاتها، وتصاب إحداهن برصاصة في كتفها، وعندما تجرح يدها مكان تجمع الأوتار، وتدخل إلى الصيدلاني لكي يعالجها، وهم يريدون سرقة الصيدلية. كما تتجلى القسوة عند انتزاع الطفلين من السجن مع أمهم وتركهما على الطريق لوحدهم حتى تأتي سيارة تقودها سيدة وتنقل الطفلين وتسلمهما إلى الشرطة ليقوم بدوره بتسليمهم إلى الأب.

 ولحظة قسوة خاصة عندما تعود النساء إلى الحي من دون “خيال”، ويبدأ “ياقوت” (قصي خولي) بالصراخ والسؤال عن مصير خيال.

إن القسوة في الأعمال الدرامية تتخذ مكانها من التوظيف الدرامي الذي يحتاجه البناء الدرامي للعمل الفني، في حين استخدمها عدد من المخرجين في بعض الأعمال الدرامية كأداة للتوصيل والتواصل الدرامي بحيث غدت أسلوب عمل واضح خصيصا بما عرف دراميا “الفانتازيا التاريخية”، لكن بعد هذه الموجة عادت إلى السياق الدرامي داخل العمل الدرامي، لتعود في موسم 2023، لتكون خطا دراميا واضحا متقدما في التوظيف داخل البناء الدرامي في كل عمل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة