كثيرا ما طرحت تيارات الإسلام السياسي تجربة رجب طيب أردوغان في تركيا كدليل على نجاح مشروعها السياسي الديني، خاصة في مصر، وذلك لتبرير فشلهم السياسي والاجتماعي؛ بأن التجربة لم تكتمل فعليا، في تغاضٍ تام عن التجربة التونسية والمغربية التي استمرت لسنوات، أفضت للفظهم اجتماعيا وسياسيا، لذلك الحد الذي جعل الفصائل السياسية المعارضة في أي دولة عربية، تعمل على التبرؤ من انتمائها إلى تيارات الإسلام السياسي.
ومثُلت القضية الفلسطينية إحدى الأدوات الهامة التي قدّمها الإسلام السياسي كركيزة له، وغني عن البيان استخدامه لها كأداة تشرعن وجوده وتعمل على تصفية المنافس سياسيا. وكشفت الأحداث الأخيرة عن الطبيعة الفعلية لتعامل الإسلام السياسي مع هذه القضية، حيث ظهر للجموع أنها لم تكن قضيته الأساسية كما قدمها عادة، ولكنها أحد أدوات تجييش الجموع وبناء الشعبية له، والتعالي على النُّظم السياسية بها ليعطي لنفسهِ مشروعية مجاوزة لمنجزاته السياسية على أرض الواقع، من خلال البُعد الديني والوجداني الذي قد تمثّله القضية للجموع العربية والإسلامية.
ومن ناحية رجب طيب أردوغان فهو لم يتورع باستغلال القضية الفلسطينية كذلك، واتخاذها كذريعة لبناء شعبية له في المنطقة العربية، خاصة بعد علو صوت الإسلام السياسي ووجوده في ساحات الحُكم السياسي إبان الانتفاضات العربية، فجاء خطاب أردوغان في كثير من زواياه كمتحدث باسم القضية الفلسطينية، في حين يتم تقديم هذه الخطابات من قبل تيارات الإسلام السياسي، كدليل على عدم عمالته ونجاحه السياسي وقوته أمام الغرب التي تجعله يهاجم إسرائيل وأهدافه، ويدافع عن القضية الفلسطينية، في المقابل اتهام النظم الأخرى بالتقصير تجاه القضية، أو التواطؤ والعمالة، وفي الظروف الآنية التي يعرف قسوتها الجميع، يصعد التساؤل عن موقف أردوغان من الحرب القائمة في قطاع غزة، وما قدمه وما يمكن أن يقدمه.
أردوغان الفارس في خيال الإسلام السياسي
في تفكيك مضامين تيارات الإسلام السياسي من خلال عملها على أرض الواقع؛ يتبين أنها تحمل ما تحمله السياسة من تناقضات وأدوات واتفاقيات غير نزيهة في كثيرٍ من الأحيان، تحكمها المصالح تحت مسميات أخلاقية رنانة، بيد أن الإسلام السياسي يعطي لنفسه سمة تنزيهية عن بقية التيارات السياسية، وذلك من خلال إعطاءه لنفسه مشروعية دينية ميتافيزيقية، تعتمد في مضامينها على الالتزام الديني والأخلاقي أكثر من البعد العملي الذي أثبت فشلهم من خلال تجربتهم السياسية في البلدان العربية.
وحسب نشأة تيارات الإسلام السياسي فإنها على اختلاف مشاربها، تعرف أيديولوجية محددة؛ وهي عودة نظام الخلافة الإسلامية. وإن كانت تيارات الإسلام السياسي اتفقت على هذه الأيديولوجية، لكنها اختلفت على كيفيتها؛ فـ”حزب الله” اللبناني يسعى بشكلٍ مباشر وواضح إلى “نشأة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان ومن ثم في البلدان العربية، ويعلن نفسه كقوة مقاومة لإسرائيل وعنفها داخل المنطقة العربية الإسلامية”. واتضح موقف “حزب الله” من إسرائيل في الآونة الأخيرة، حيث ظهر للجموع أنه ليس أكثر من أداة إيرانية في المنطقة، فوجوده لحماية المصالح الإيرانية والسعي لتنفيذ مطامعها وأجنداتها في المنطقة.
أما تركيا فيعد أصدق تشبيه لها ما قدمه محمد حسنين هيكل: عملاق له رجل في الشرق والأخرى في الغرب، يعيش مشتتا؛ فتركيا في الوقت التي تستمد فيه كل قوتها وعظمتها وتاريخها من الإمبراطورية العثمانية، سعت بشكلٍ جدّي ومثابر للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والانتماء للحداثة الأوروبية، وبالرغم من أنها قدمت تنازلات كثيرة؛ منها الاستغناء عن الأحرف العربية في اللغة التركية واستبدالها باللاتينية، وعزل الدين عن الحياة العامة بشكلٍ غير قليل وملحوظ، إلا أن أوروبا لا زالت تنظر إليها على أنها “كيان إسلامي كبير”، ولم تحظى تركيا بالمباركة الأوروبية والانضمام لـ”حلف شمال الأطلسي” (الناتو).
في هذه الأثناء ظهر أردوغان ليعبر عن الطموح التركي في الشرق بديلا عن فشله في الغرب، وأعانه على ذلك الضعف والفراغ في المنطقة بداية من سبعينيات القرن الماضي، الذي كان مغريا لأي فصيل سياسي، حسب ما صرّح الباحث بالعلوم الفلسفية والسياسية شادي عمر الشربيني لـ”الحل نت”. فيمكن القول إن ظاهرة أردوغان ناتجة عن الإحباط التركي من عدم الانضمام للاتحاد الأوروبي، وفي الوقت عينه الضعف الحادث في المنطقة العربية، المغري لممارسة النفوذ داخلها واكتساب ثِقل عالمي.
فيمكن القول أن المشروع الأردوغاني مشروع ذو أبعاد عثمانية، فتعد أيديولوجية التيار الإسلامي التركي عودة الشكل العثماني مرة أخرى لحكم الشرق، مستعينة في ذلك بالمرويات التاريخية ذات الطابع الانتقائي، وتوظيف الراهن المأزوم، وتعد أهم أزمة يوظفها التيار الإسلامي السياسي التركي القضية الفلسطينية، باعتبارها أزمة العصر الراهن، فالقضية الفلسطينية تعد ورقة رابحة داخل المحيط الاجتماعي العربي، وهذا ما جعلها موضع نزاع لتيارات الإسلام السياسي على اختلاف مشاربها.
وبالتالي هذا ما دفع أردوغان في العديد من خطاباته الحديث باسم المخلص للفلسطينيين، وتم تقديمه في هذه الصورة من قٍبل تيارات الإسلام السياسي في البلدان الشرقية والغربية كذلك، وكثيرًا ما تم وضعه في مقارنة مع النظم السياسية العربية لاتهامهم بالعمالة، أو الفشل السياسي.
العلاقات التركية الإسرائيلية
“تركيا عشيقة ترفض الزواج” هذا ما قاله شمعون بيريز الذي شغل منصب رئيس الدولة في إسرائيل من 2007 حتى 2014، وهذا التعبير يوحي بمدى العلاقة التركية الإسرائيلية، ويؤكده احتضان تركيا أكبر مصانع الأسلحة للجيش الإسرائيلي بعد الولايات المتحدة، ووصول حجم التبادل التجاري بينهما في عام 2019 إلى 6 مليار دولار.
والعلاقات التركية الإسرائيلية معروفة؛ منها الجانب الواضح كالمناورات العسكرية المشتركة، والاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية بينهما التي تُحَدِث إسرائيل بمقتضاها أسلحة الجيش التركي مقابل 150 مليار دولار، ومنها ما هو خفي بطبيعة الحال. ويظهر مدى احتفاء تركيا بعلاقاتها مع إسرائيل في الاستقبال الحافل من تركيا لرئيس الدولة الإسرائيلية إسحاق هرتسوغ في زيارته لها عام 2020.
بنى أردوغان شعبيته في العالم العربي عبر القضية الفلسطينية، وأدائه التمثيلي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي ورفض مصافحته وقتها، وتزامن مع ذلك التسويق لأردوغان من قبل التنظيم الدولي والمصري “للإخوان المسلمين”، كمناصرٍ أول أو وحيد للقضية الفلسطينية، لكسب أرضية سياسية للإخوان.
مع هذه العلاقات المعلنة وغير المعلنة بين تركيا وإسرائيل، يحاول أردوغان الاستمرار نحو بناء شعبية له في المحيط العربي والإسلامي، بوصفه المخلص لهذه الشعوب المقهورة، وذلك من خلال التنديد بـ”الحصار على غزة وإدانة إسرائيل بعبارات شديدة، والمطالبة برفع المعاناة عن الفلسطينيين”.
وكان أشدها تصريحه في الحرب على غزة عام 2014 الذي قال فيه: “يلعن الإسرائيليون هتلر ويشتمونه ليلا ونهارا بسبب الهولوكوست، ولكن اليوم نجد أن دولة إسرائيل الإرهابية قد تجاوزت فظائع هتلر من خلال عملياتها بغزة”، ولكنه كان مضطرا في العديد من الأحيان إلى خفض حدة تصريحاته وتنديداته، وظهر هذا في عام 2019 حين بدأت الحكومة الإسرائيلية في الوصول إلى اتفاق لاستخراج الغاز من حقل ليفيثان الإسرائيلي، ورغبة أردوغان في مد خط غاز من إسرائيل إلى أوروبا عبر تركيا، في هذه الآونة انخفضت حدة تصريحات أردوغان فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية إلى ذلك الحد الذي تعد غائبة فيه بشكلٍ شبه التام.
أردوغان والقضية الفلسطينية
بنى رجب طيب أردوغان شعبيته في العالم العربي عبر القضية الفلسطينية، وأدائه التمثيلي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي ورفض مصافحته وقتها، وسفينة الغذاء التي تم مصادرتها من قبل الإسرائيليين في “انتفاضة 2001 المعروفة بانتفاضة محمد الدرة”، وتزامن مع ذلك التسويق لأردوغان من قبل التنظيم الدولي والمصري “للإخوان المسلمين”، كمناصرٍ أول أو وحيد للقضية الفلسطينية، لكسب أرضية سياسية للإخوان من خلال هذه الشعبية التي يبنونها لتيار الإسلام السياسي التركي، وسحب البساط من تحت أي فصيل سياسي عربي يناصر القضية الفلسطينية واحتكار حمل القضية لصالح الإسلام السياسي، ليقنعوا البسطاء أنهم هم وحدهم من يملك الدفاع واسترداد القدس وما إلى ذلك.
والحقيقة أن أردوغان وتركيا، لديهم علاقات متجذرة مع إسرائيل وتعاون عسكري واقتصادي بدرجات عالية. في حين أن أردوغان لم يقدم للقضية الفلسطينية حتى الآن أي فائدة تذكر، سوى خطب رنانة وعنترية، ولم يتبنَّ موقف سياسي سواء إقليمي أو أممي يدفع بالقضية خطوة واحدة للأمام، بل شأنه شأن الإخوان يستفيد من القضية ولا يفيدها بشيء، وهذا ما صرح به الباحث بشؤن الإسلام السياسي طارق أبو السعد لموقع “الحل نت”.
لم يقدم أردوغان سوى خطب وإدانات جاءت في بدايتها تساوي بين الموقفين: “الإسرائيلي والحمساوي، ثم تنامت إلى إدانة إسرائيل ومطالبتها بوقف العدوان على غزة، وزاد من تنديده بقتل المدنيين، وتطور إلى أن وصفها أردوغان في تصريحاته الأخيرة بمجرمة حرب، وطالب بعزلها عالميا جراء جرائم الحرب التي ترتكبها في غزة”، ولعل هذا ما جعل الأستاذ والمحاضر بجامعة صفاقس حمادي ذويب يصف موقف أردوغان لموقع “الحل نت” بأنه متقدم ومشرف عن بقية القيادات السياسية العربية والإسلامية، وقال إنه يعرف جيدا أن موقف أردوغان لم يتعد الخطاب والتنديد اللفظي حتى الآن، ولكنه ينتظر ويتوقع أن يتحرك قريبا.
وعبر منصة التواصل الاجتماعي “إكس” (تويتر سابقا)، صرح الصحفي التركي ميتن شان، عبر حسابه قائلا: “لم نساعد فلسطين بغير الكلام، فندعم فلسطين بالخطب منذ المذبحة، ونقدم الخدمات اللوجستية لإسرائيل؛ تشحن موانئنا بمعدل 7 سفن يوميا لإسرائيل، وبالأمس أرسلنا 13 سفينة، 12 منها ممتلئة وواحدة فارغة، وقد وصل الدعم التركي لإسرائيل إلى 272 سفينة، ولم تدعم فلسطين بغير التعاطف”.
ويبرر هذا التصريح العلاقات التركية الإسرائيلية، وطموح أردوغان في بناء ما يسمى بـ”الإمبراطورية العثمانية”، ويفهم موقف أردوغان فيما فعله داخل سوريا؛ حين شن هجوما على غرب سوريا محاولا تتريك بعض المناطق السورية، مستغلا في ذلك القضية الكُردية.
في حين نجد أنه بعد مرور أكثر من ثلاثين يوما وموت أكثر من أحد عشر ألفا أغلبهم من الأطفال والنساء في غزة، لازال أردوغان يندد ولم يتقدم بأي خطوة فعلية، ليس على المستوى العسكري فحسب، بل على مستوى الضغط السياسي كذلك، وذلك لأن هدفه الرئيس عودة “الإمبراطورية العثمانية”، ولا تتعدى القضية الفلسطينية أحد أدواته لبناء الشعبية له داخل الإقليم.
- توحش “الحوثيين” يطال المنظمات الأممية.. نهب الموارد ونشر الرعب
- “الآن هم عراة ليس لديهم القدرة على حماية أنفسهم”.. تفكيك “محور المقاومة”
- مرتبط بـ “حزب الله”.. “بارون المخدرات” اللبناني ينتقل إلى سوريا
- قصي خولي وديمة قندلفت في مسلسل تركي.. تفاصيل
- إسرائيل تعلن مقتل قياديين في إنتاج الصواريخ ومنظومة الاتصالات في “حزب الله”.. من هم؟
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.