تحتشد موجات متدافعة من سيناريوهات التوتر والسيولة الكاملة في محيط الجغرافيا السياسية لمنطقة الشرق الأوسط. وذلك على تخوم مناطق التوتر وارتفاع معدلات الصراع في غزة، رغم مؤشرات جهود الوساطة لفرض هدنة ممتدة بين حركة “حماس” وإسرائيل. 

بيد أن تل أبيب تتحرك نحو ضرورة استهداف طهران وتحركاتها عبر الميليشيات المسلحة، خاصة في لبنان وسوريا فضلاً عن كون طهران تتحرك بشكل مركزي صوب استهداف الحضور العسكري الأميركي والمصالح الإسرائيلية، الأمر الذي يضع حالة الصراع في المنطقة حيّز الترجيح دوماً، وما يستتبعه من آثار اقتصادية وتنموية على حياة المواطنين لا سيما في ظل حالة السيولة وعدم الاستقرار التي يعرفها النظام الدولي بشكل عام.

فجوة مع خامنئي

على خلفية ذلك شهدت أسواق العملة الأجنبية والذهب ارتفاعاً ملحوظاً في إيران، وصل إلى 20 بالمئة في غضون أسبوع واحد، بما يرفع من درجات التوتر المجتمعي في الداخل الإيراني نتيجة انخراط طهران في الصراع المحتدم منذ اندلاع “طوفان الأقصى” بكافة صوره وتورّطهم بشكل مباشر في اندلاعه وتطور مجرياته.

المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي يتحدث خلال اجتماع في طهران، إيران في 25 أكتوبر 2023. (تصوير المكتب الصحفي للزعيم الإيراني / غيتي)

نحو ذلك تعكس الصورة بجلاء عمق المساحة التي تنعزل فيها تصوّرات السلطة السياسية في إيران عن أولويات مواطنيه وطموحاتهم في حياة مستقرة، وليس ثمة شك أن معظم المجتمع الإيراني يستهدف الحياة بمعناها الآمن والعيش في ظل ظروف اقتصادية غير متدنية ولائقة، بينما تتسق مع مقدّرات بلادهم وما تزخر به من إمكانيات بعيداً عن الاحتكارات المالية والاقتصادية التي تهمين على إدارتها شركات “الحرس الثوري” الإيراني، والقطاعات التي تقع تحت نفوذها بشبكاتها المختلفة.

يقيناً ينظر المواطن الإيراني أن ذلك كله لا يتأتى سوى عبر تجاوز حدود التوتر، وعزل تفاعلات التصعيد الإقليمي والدولي والتمتّع بحسن علاقات الجوار مع الدول المتاخمة. بينما ما يستقر في ذهنية وعقيدة السلطة بطهران العمل على تصدير الأيديولوجيا “الثورية” الخاصة بهم، وفرض منطقها عبر التفاعل مع مناطق الصراع ودمج الجماعات الوظيفية وشراء ولائهم من خلال تخصيص نفقات وامتيازات عديدة من مقدّرات البلاد وإمكانياتها. فضلاً عن ثقل بطشهم على المواطن في الداخل وكبح كافة التحركات التي تنادي بأهمية بسط الاستقرار بدلاً عن تصدير المقولات الطائفية وبعث التوتر عن طريق الهيمنة.

ما يشير إلى تلك الفجوة والمساحة الفارغة بين السلطة والمواطنين، ما جاء على لسان المرشد حين قال: إن إيران في موقع “الاقتراب من القمة”، وكذا تصريحات رئيس الجمهورية الإيراني حين وصف العالم بأنه “في ذهول من التقدم الحاصل في البلاد”. 

لكن هذه الأحاديث والتصريحات الرسمية لا تضع في حساباتها أوضاع المواطن الإيراني الذي يعاني وطأة الحرمان والتهميش، بفعل ضغوط اقتصادية وبطالة وتضخم وكذا الهجرات المتزايدة في قطاعات؛ كالطب وغيرهم من نخبة المجتمع.

نحو ذلك أيضاً، قام المرشد الإيراني علي خامنئي بتشخيص ذلك الوضع بدعوى عدم بذل الجهود اللازمة والضرورية لتوضيح حجم الجهود المبذولة لبلوغ التقدم الحاصل في البلاد والنجاحات والابتكارات الخاصة بالمواطنين. 

وكان من نتيجة ذلك الوضع الصعب في إيران، تدهور معدلات الأمن الغذائي للإيرانيين وتفشّي أمراض سوء التغذية على خلفية اضطرار المواطن لتخفيض استهلاكه للمواد الغذائية نتيجة ارتفاع الأسعار، بحسب تقارير عديدة صحفية وحقوقية محلية وأجنبية.

ملايين الأُسر الإيرانية تأنّ

المدير السابق لدراسات الرفاهية الاجتماعية في وزارة التعاون والعمل، هادي موسوي نيك، قال في شهر حزيران/ يونيو العام الماضي، أن 57 بالمئة من السكان في إيران يعانون من سوء التغذية ولا يحصلون على ما يحتاج إليه الجسم من سُعرات حرارية يومية، ومن بين عدد السكان الذين يعانون من سوء التغذية 14.5 مليون طفل منهم 10 ملايين طفل دون الثانية عشرة. 

النظام الإيراني يستخدم التكنولوجيا لملاحقة النساء المخالفات لقواعد اللباس – (آسوشیتد پرس)

فضلا عن ما جاء في تقرير لمركز الأبحاث في جامعة “شريف” للتكنولوجيا، من ارتفاع نسبة الأسر التي لم تتناول اللحوم الحمراء في العام 2021 إلى 58 في المئة بعد أن كانت 27 في المئة في العام 2006، أي أن نحو 49 مليون إيراني لم يتناولوا لحوماً حمراء طوال ذلك العام.

يتماهى ذلك مع ما أظهره تقرير منظمة الأغذية والزراعة الدولية (الفاو) حول الأمن الغذائي في العالم، وأنه بناءً على بيانات العام 2021، فإن أكثر من 26 مليون إيراني لا يستطيعون تحمّل تكاليف النظام الغذائي السليم، بينما حوالي 41 بالمئة من السكان يعانون من فقر غذائي حاد أو معتدل.

على خلفية العقوبات الأميركية وتباين تعامل الإدارات المتعاقبة مع طهران خاصة بشأن المفاوضات النووية، شهد الناتج المحلي الإجمالي لإيران نموّاً منذ العام 2010 حتى العام 2012. غير أنه أُصيب بتراجع متزايد نتيجة العقوبات الدولية على صادرات النفط الإيرانية. 

وفي العام 2016 تبدلت الأمور بعد توقيع الاتفاق النووي، وارتفع الناتج قليلاً، ثم ما لبث أن عاود مرة أخرى للانخفاض إثر الانسحاب الأحادي للولايات المتحدة من الاتفاق النووي في عهد دونالد ترامب، وذلك في غضون عامين.

في عام 2020، بلغ الناتج المحلي الإجمالي لإيران لنحو ثُلث ما كان عليه مقارنة بعام 2012، وتزامن ذلك مع ارتفاع الأسعار في إيران بشكل عام؛ إذ أضحى متوسط الدخل بالبلاد يشهد انخفاضاً، مما جعل تكلفة السلع الأساسية مثل الطعام والأدوية باهظة للغاية، بحسب تقرير نشره موقع “ميدل ايست آي” البريطاني.

وأضاف التقرير، أن “تأثير العقوبات على العملة الإيرانية ومعدلات التضخم المرتفعة التي سجّلتها إيران خلال فترة العقوبات زاد من تكلفة جميع أنواع السلع بينما ارتفعت أسعار المستهلك بنحو 40 بالمئة وهذا يعني تدني القدرة الشرائية بالنسبة لملايين الأُسر الإيرانية”.

نظامٌ لا يعبأ بحياة مواطنيه

تلفت تقارير متطابقة أن إيران تعاني ارتفاعاً كبيراً في معدلات التضخم بشكل لم تشهده طهران منذ أعوام كثيرة، ويُعدّ العام 2022 العام الرابع على التوالي الذي يلامس التضخم حدود 30 و40 بالمئة، الأمر الذي يعني من الناحية الاقتصادية تفتّت القوة الشرائية وتفاقم الفقر، فضلاً عن فشل قرارات الدعم التي أجرتها إدارة إبراهيم رئيسي نحو بلوغ المستهدف منها، وكبح اندلاع الموجات الاحتجاجية بين المواطنين.

حرب الجنرالات.. أسرار الصراع على كرسي المرشد الإيراني
علي خامنئي المرشد الأعلى لإيران يصلي بالنخب السياسية في طهران، إيران. (تصوير صادق نيكجوستار/غيتي)

راكمت معدلات التضخم المرتفع والركود الاقتصادي في السنوات القليلة الماضية بشكل كبير صورة مقلقة في ذهنية مكونات السلطة في طهران إزاء معدلات الفقر وصعوبات الحياة، وقد اتسع الفقر ليتطاول فئات اجتماعية وطبقية عديدة خاصة بعد قرار الرئيس الإيراني بتجميد سعر الصرف المدعوم والخاص بالسلع الأساسية، والتي شهدت تبعاً لذلك ارتفاعاً وتضاعفت في الأسواق بفعل رفع الدعم وتحرير سعرها.

اتّجهت الدولة نحو تخفيف أثر ارتفاع الأسعار، وذلك من خلال زيادة المساعدات النقدية للفئات من ذوي الدخل المنخفض، بيد أن مستويات التضخم كانت تؤدي لتلاشي أثر هذه المحاولات، فالارتفاعات المستمرة بالأسواق كان بمقدورها تضييق الخناق على معدّلات القوة الشرائية للأسرة مما يتسبب في اتساع هامش الفقر والعوز الذي طاول الإيرانيين.

إلى ذلك، تشير مصادر في المعارضة الإيرانية إلى أنه مع استمرار ذلك التوتر وارتفاع معدلات التصعيد، يعني تفاقم صعوبات الحياة على المواطن في الداخل. وستظل مناقشة قضايا الفقر والتهميش وعدم التنمية ترجح سيناريوهات السيولة السياسية وتنامي الاحتجاجات في الشارع الإيراني، واعتباره موضوعاً رئيسيا ًفي مناقشات المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، وضرورة الانتباه لآثاره وتداعياته الخطيرة على واقع ومستقبل السلطة.

في ذات السياق يشدد وجدان عبد الرحمن، الباحث في الشأن الإيراني، أن المواطن الإيراني “كل ما يبحث عنه هو محددات الحياة الكريمة والمعيشة اللائقة التي تتسق مع مقدرات بلاده. ولذلك، يؤكد عبد الرحمن في إطار تصريحاته التي خصّ بها “الحل نت” أن الكثير من الاحتجاجات التي اندلعت في الداخل الإيراني خلال السنوات الأخيرة كانت الهتافات التي ترفع فيها تشير بالقول: “لا غزة ولا لبنان روحي لفداء إيران”.

وذلك يبين بكل شفافية كون المواطن في إيران “لا يريد أن تخرج أمواله ومقدّرات بلاده في مغامرات سياسية لنظام لا يعبأ بحياة مواطنيه ولا مستقبلهم ولا يهدف سوى تحقيق أطماعه عبر عديد الميليشيات المسلحة التي تحظى بنفقات هائلة من موارد الدولة ومخصصات مالية لدورها الميداني والعسكري من دون رقابة أو مسائلة”.

إذاً، الأمر أضحى أكثر تعقيداً الآن بعد التصعيد في غلاف غزة وتداعياته في اليمن وسوريا والعراق ولبنان والضربات الأميركية الأخيرة التي تحتمل سيناريوهات معقّدة تبعث بتخوّفات على أمن واستقرار المواطن الإيراني. 

وفي ظل الاستحقاق الانتخابي المرتقب للبرلمان فإن النظام يواجه وبعنف شديد تحدّيات عديدة، بعضها محلي يرتبط بالأزمات الاقتصادية والاحتجاجات على الأوضاع المعيشية إلى جانب المطالبة بالحقوق والحريات ومنها قضية الحجاب، وبعضها الآخر إقليمي يتّصل بالانخراط في أزمة غزة ومساعدة روسيا في أوكرانيا والتحالف الاستراتيجي معها وكذا الصين، بما يوسع من فُرص الصِدام مع الغرب وواشنطن ويواصل عملية العزلة الدولية والدبلوماسية. 

فضلاً عن العقوبات المؤثرة تحديداً التي تطاول القطاع النفطي، فالسلطة في أزمة خانقة نتيجة الضغوط التي يتعرض لها المواطن وستؤثر بشكل كبير على مشاركته في الاستحقاقات الانتخابية خلال الشهر القادم. ومن المتوقع وربما المرجّح عزوف كثيرينَ عن المشاركة.

مؤشرات سلبية

تشير تقارير البنك الدولي، أن ما يصل إلى 10 ملايين إيراني يعيشون تحت خط الفقر. فضلاً عن ملايين آخرين معرّضينَ للوقوع تحت خط الفقر خلال الأعوام القليلة المقبلة بسبب “الإدارة الاقتصادية السيئة والعقوبات المفروضة على البلاد خلال عقد ضائع من النمو”، في مغامرات سياسية وميدانية عبر بؤر التوتر في الشرق الأوسط، ودعم ميليشيات مسلحة على حساب الاستقرار والأمن في المنطقة.

الارتباك والغموض يكتنفان المشهد السياسي في إيران في ظل التوتر الدولي – غيتي

وبحسب وكالة “بلومبيرغ” الأميركية، فإن تقرير البنك الدولي الذي صدر نهاية العام الماضي، يُعد أول تقييم رسمي من قبل البنك الدولي للفقر في إيران التي يبلغ عدد سكانها 85 مليون نسمة، منذ ثورة عام 1979. وصدر التقرير الذي لم يتم الإعلان عنه يوم الخامس عشر من شهر تشرين الثاني/نوفمبر العام الماضي دون أن يتمكن باحثو البنك الدولي من السفر لإيران، بحسب “بلومبيرغ”.

ويصور التقرير اقتصاداً “ارتفعت فيه معدلات عدم المساواة والفقر في إيران خلال العقد الممتد حتى عام 2020، مع مساهمة العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة وتحمل النساء العبء الأكبر من تأثير العقوبات وجائحة كوفيد-19”.

من جانبه يذهب ضياء قدور، الكاتب والباحث في الشأن الإيراني، بقوله إنه في ظل الارتفاع غير المسبوق للصادرات النفطية الإيرانية (أكثر من 2 مليون برميل يومياً بحسب إحدى الإحصائيات) ما تزال الأوضاع الاقتصادية داخل إيران تتجه نحو مؤشرات سلبية فضلاً عن ارتفاع معدلات التضخم.

يتابع قدور في إطار تصريحاته لـ”الحل نت”، أن غالبية الشعب الإيراني يعيش تحت خط الفقر، بينما تتضاءل قدراتهم على شراء الاحتياجات الأساسية من مستلزمات الحياة وتأمين أقل متطلبات الحياة الكريمة.

وفي ذات الوقت، يستمر نظام الملالي بحسب المصدر ذاته في مغامراته الإقليمية وسياسة دعم الوكلاء المحليين وتوجيههم بالمال والسلاح والمعلومات الاستخباراتية بهدف تحقيق مكاسب جيوسياسية، من جهة، والتغطية على الفشل الداخلي لحكومة إبراهيم رئيسي وتأخير وتعطيل ميكانيزمات الانتفاضة الشعبية ولحظة ترنح السلطة من جهة أخرى.

ولذلك، فإن معالجة هذه المشكلة المستعصية يتطلب النظر أبعد من استهداف الأذرع الإقليمية، والاتجاه نحو حلٍّ جذري لها من خلال دعم المواطن الإيراني و”جعله يتفادى أيضا ثقل النظام الإيراني الذي يعبث بمقدّرات شعبه في مغامرات غير محسوبة تهدد بلاده”.

على الصعيد الداخلي، وفي إطار الوضع الاقتصادي الصعب والاستحقاقات الانتخابية خلال الشهر القادم، أمسى نظام الملالي يجابه تراكم نقاط ضعفه ولا يمثّل سوى جماعات المصلحة والمنتفعين في مواجهة مجتمع يئنّ من صعوبات الحياة وتوفير مقدّرات حياته بشكل واقعي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات