تصل الهزيمة المدوية التي طاولت “حزب العدالة والتنمية” في الانتخابات المحلية إلى رئة المجتمع التركي الذي تمكن من إعلان رغبته في إطلاق أنفاس الحرية، ويسترد بيئة سياسية يتم إهدارها وتغليب أوضاع قسرية يتولى تعيينها رجب طيب أردوغان.

لكن “الخليفة” الذي أقر بالهزيمة وقال: “لم نحقق النتائج المرجوة من الانتخابات المحلية، وسنحاسب أنفسنا، وسندرس الرسائل الصادرة عن الشعب”، يبدو كمن يبتسم ويكبت حقيقة أخرى أو بالأحرى يستعد لمناورة أخرى للانقضاض على تلك النتائج وتقويض فعاليتها لعمل بدائل سياسية تنقذ البلاد من الاقتصاد المأزوم والتضخم الذي لامس حدوداً غير مسبوقة، فضلاً عن خطابات الكراهية وانبعاث القومية المتشددة ونسخة إسلاموية مسيسة.

أردوغان الذي فاز بولاية ثالثة تمتد لعام 2028، ربما لن يتمكن من تغيير إرادة الناخبين بوسائل تعسفية، لكنه من خلال تحالفه السياسي مع القوميين المتشددين في البرلمان، وعبر تأميم السلطات في قبضته، فضلاً عن تغييب المجتمع المدني وإضعاف المؤسسات الديمقراطية وتبعية دولاب الدولة له، بداية من الصحافة ووسائل الإعلام مروراً بالقضاء وحتى الجيش، يجعل فرص التغيير السياسي أمام مشوار شاق ويحتاج لجهود معقدة واصطفافات تتجاوز التباين الأيديولوجي إلى بناء طرح سياسي براغماتي.

الانتخابات ورفض السياسة “الأردوغانية”

النتائج أفرزت رفضاً للأردوغانية السياسية وكانت بمثابة تصويت على رفض حكمه، والإمعان في إحداث أبعد صدى صوت حتى يرتج جسد السلطة الذي تضخم بفعل توغله على باقي السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في ظل أحكام الطوارئ التي فرضها الرئيس التركي منذ الانقلاب الفاشل والمزعوم منتصف تموز/ يوليو عام 2016.

عمدة إسطنبول أكرم إمام أوغلو يلتقط صوراً مع مؤيديه- “أ.ب”

وفي ما يبدو أن التوغل والتضخم إثر ما راكمه أردوغان من صلاحيات عديدة لتعزيز هيمنته وفرض إرادته في الحكم بعد تحويل النظام في البلاد من برلماني إلى رئاسي وتقليص فرص المعارضة وقوى المجتمع المدني في المشاركة السياسية في بيئة تشاركية تنافسية بآليات ديمقراطية، تجعل الرئيس التركي يشعر بمزيج مرتبك من القلق والهدوء الحذر للتعاطي مع الواقع الجديد. 

والأمر الأكثر فداحة يتمثل في رمزية ما جرى؛ حيث إن ذلك كان تظاهرة علانية ضد النظام السياسي لأردوغان والتصويت رفضاً له لطالما سعى إلى تكريس سلطته وحكم الفرد.

فاز أكرم إمام أوغلو برئاسة بلدية إسطنبول وهو مرشح “حزب الشعب الجمهوري” الذي يملك ناصية المعارضة في تركيا، و”يتقدم بفارق تجاوز مليون صوت بعد إحصاء 96 بالمئة من بطاقات الاقتراع”، بحسب “سكاي نيوز”. 

الخسارة المدوية التي لاحقت حزب أردوغان (العدالة والتنمية) في أنحاء البلاد كافة، هي تتجاوز مسألة التصويت العقابي إلى وجود رغبة محمومة لتغيير النظام الذي أدخل المواطن التركي في دوامات عنف وصراعات خارجية، كان أثرها المباشر على استقرار السياسي والأمني فضلاً عن وضعه الاقتصادي المتأزم، ومن الواضح أن النقطة التي تشغل ذهن السلطة والرئيس التركي هي أن طموحه الذي تم التلميح له بأنه كان يسعى لتغيير الدستور ربما لإطالة أو ضمان مدة حكم جديدة قد تعطلت، وتجمدت فرص حدوث ذلك مؤقتاً أو دائماً على ما يبدو في ظل الأوضاع الجديدة، وقد كان أردوغان قد نجح من إحداث تعديلات تعسفية في الدستور بعد تدشين النظام الجديد الرئاسي، تجعله يقفز للحكم خمسة أعوام وتمتد حتى ولاية ثالثة.

“ديمقراطية إجرائية”

من ثم، يمكن القول إن الديمقراطية التي يتحدث عنها أردوغان واحترامه ظاهرياً لإرادة الناخبين هي ديمقراطية إجرائية لا تتجاوز الأطر الشكلية المتمثلة في صناديق الاقتراع، لكن الديمقراطية أبعد وأعمق من ذهاب مواطن إلى الصندوق من دون أن تكون حركته لا ترافقها هواجس وإكراهات ومحاولات ملء إرادته بالعنف والمخاوف، فالإعلام التركي شهد مساحة غير عادلة في طرح المجموعات المتنافسة بما يكشف عن انحياز للحزب الحاكم على حساب المعارضة فضلاً عن شن الهجوم، ولذا اعتبرت مجموعة مراقبة أوروبية أن الانتخابات التركية جرت في “بيئة مشحونة بالاستقطاب بشكل صارخ”.

ونقلت وكالة “رويترز” للأنباء عن رئيس بعثة المراقبة التي شكلها “مجلس أوروبا” ديفيد إراي، قوله: “كان يوم الانتخابات هادئاً بشكل عام، وتم تنظيمه بطريقة احترافية، مع إقبال كبير على المشاركة يظهر التزاماً قوياً من المواطنين بالإجراءات الديمقراطية”. وذكر نائب رئيس البعثة فلاديمير بريبيليتش: “نرحب بالطبيعة التنافسية لهذه الانتخابات، وتوفر الخيارات لدى الناخبين، لكن ما لاحظناه في الانتخابات المحلية لعام 2024 في تركيا أنها جرت في ظل بيئة مستقطبة بشكل صارخ ولم تدعم الديمقراطية المحلية إلا جزئياً”.

ملاحظات بعثة المراقبة الأوروبية تبدو دقيقة وكاشفة، دقيقة من جهة تعيين التلاعب السياسي لأردوغان بأنه يتبنى الديمقراطية، ويعمد إلى تسويقها للإعلام الغربي، باعتباره ملتزما بمعاييرها، وذلك بخلاف الحقيقة، وكاشفة للآليات التي تعمل في الخفاء بينما تهدم أي بنية ديمقراطية، وتعزل بين المواطن وحريته كما إرادته، من خلال تقويض المؤسسات المدنية، وقمع المعارضة، والأحزاب السياسية، والتضييق على الحريات، وتسييس القضاء وفرض برلمان يكون امتداد للسلطة ويعكس تحالفاتها، عوضاً عن أن يكون له صفة تمثيلية للمجتمع بتبايناته القومية والدينية، ويعكس أصواته المختلفة بما فيها من حقوق سياسية. 

وقال نائب رئيس البعثة الأوروبية إن المخاوف لم تتبدد، موضحاً: “وفقاً لمبادئ مجلس أوروبا المتعلقة بالديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان، هناك حاجة إلى بذل مزيد من الجهود لضمان بيئة سياسية وإعلامية تتسع لقدر أكبر من حرية التعبير وإطار مناسب وقابل للتطبيق تشرف عليه هيئة قضائية مستقلة”.

يبدو أن أردوغان لم يتمالك أعصابه وقد حاول أن تكون هادئة في خطاب الهزيمة وسعى لأن يقول إن ما جرى ليس نهاية كل شيء.

يتفق والرأي ذاته، التقرير الذي أعده “مركز تنمية المجتمع المدني” بدعم من الاتحاد الأوروبي، وقد ألمح إلى القمع الذي تتعرض له منظمات المجتمع المدني بصورة هائلة، وفي التقرير الذي اعتمد على دراسة ميدانية تضمنت أكثر من ألف منظمة غير حكومية خلص إلى نتيجة مفادها أن “نطاق عمل المجتمع المدني يخضع لقيود متزايدة في تركيا، في ظل الأنظمة الجديدة والضغط المتنامي من الدولة”.

ضرورة مشاركة المجتمع المدني

وقال باحث بالمركز الذي يقع مقره في أنقرة مراد أوزجيليبي، إن هناك عملية استهداف مقصودة ومتعمدة تطاول المنظمات التي لها بالدفاع عن الحقوق الأساسية، والاستهداف عادة ما يبدأ بشن هجوم إعلامي للتشنيع أو التشويه على دور الجمعية أو المنظمة ثم مداهمة مقرها بدعوى التفتيش الإداري الذي ينتهي بغرامات أو محاكمة قضائية للإغلاق النهائي. 

وقال أوزجيليبي: “المنظمات المصنفة على أنها معارضة للسلطة تخضع لمزيد من عمليات التفتيش التي تؤدي إلى فرض عقوبات عليها. وهذا يدفع العديد منها إلى ممارسة رقابة ذاتية”.

ووصل عدد المنظمات التي جرى إغلاقها نحو ألف وخمسمائة، وذلك منذ الانقلاب الفاشل والمزعوم في عام 2016، وقال الباحث بالمركز :بالإضافة إلى العقوبات، تستخدم الإجراءات الجنائية ضد مسؤولي منظمات غير حكومية كوسيلة لترهيب المجتمع المدني ككل”. وقد تحدث عن قرار الحكومة الذي ألزم في عام 2020 الجمعيات والمنظمات بالمجتمع المدني بضرورة الإبلاغ عن هوية أفرادها، الأمر الذي تسبب بحسب أوزجيليبي في “انخفاض عدد أعضاء الجمعيات من 12 إلى 8 ملايين في تركيا”، حيث “يخشى الناس من تسجيل أسمائهم، خصوصاً إذا كانوا أعضاء في منظمات تعمل في مجالات تعتبر حساسة، مثل الدفاع عن المثليين”.

وقال رئيس المركز الذي أعد التقرير بدعم من الاتحاد الأوروبي ليفينت كوركات إن “الديموقراطية غير ممكنة إلا بوجود مجتمع مدني قوي”. حيث إن “هناك العديد من الفجوات في ما يتعلق بمشاركة المجتمع المدني في تركيا”. 

أحد المشاركين بالانتخابات المحلية التركية يحمل ورقة الاقتراع عليها علامة على “حزب الشعب الجمهوري”- “أ.ب”

التضخم تجاوز 64 بالمئة والليرة تواصل سقوطها وتصل لمستويات في التدني بنحو 32 ليرة مقابل الدولار، بما يفرض انعكاسات على المواطن من الناحيتين السياسية والاجتماعية، وبقدر ارتفاع معدلات الفقر وتراجع القدرة الشرائية مع الزيادة المطردة للأسعار التي تضاعفت مع زيارة سعر الفائدة لـ50 بالمئة وكذا أسعار المحروقات، تآكلت الشرائح المحتمل تصويتها لأردوغان وتراجعت الكتل التصويتية لتصب جميعها في صالح المعارضة.

ورغم كل ذلك، يبدو أن أردوغان لم يتمالك أعصابه وقد حاول أن تكون هادئة في خطاب الهزيمة وسعى لأن يقول إن ما جرى ليس نهاية كل شيء، حيث إن قمعه وتعسفه ظهر بوحشية ضد أحد رؤساء البلديات المنتمي لحزب “المساواة وديمقراطية الشعوب” (ديم) المؤيد للكُرد، حيث حقق المرشح الكُردي بمدينة فان/ وان، عبد الله زيدان، 55.5 في المئة من الأصوات بينما لم يحصل مرشح الحزب الحاكم سوى على 27.2 بالمئة.

وضمن عمليات تسييس القضاء، فإن وزارة العدل وجهت رسالة قبل نحو خمس دقائق من إغلاق المكاتب وقبل يومين من التصويت، للاعتراض على مرشح الحزب المؤيد للكُرد، ثم قضت محكمة بعدم أحقيته في الترشح، وقال الحزب الكُردي في بيان: “يجب العدول عن هذا القرار الخاطئ فوراً. هذه المبادرة، التي تتجاهل إرادة سكان مدينة فان/ وان، غير قانونية”، وتابع: “هذا القرار هو استمرار لعملية الانقلاب السياسي التي بدأت بتدخل الحكومة. وقد اعترض محامونا على القرار. وندعو المجلس الأعلى للانتخابات إلى إنهاء هذا الخروج عن القانون والاعتراف بإرادة شعبنا”. 

ومنعت السلطات التركية رئيس البلدية الذي انتخب حديثاً، وينتمي لحزب “ديم”، من تولي منصبه، مما أدى إلى التقدم بطعون قانونية وتنديد من المعارضة. هذا بالإضافة إلى إعلان السلطات التركية عن إعادة الانتخابات في منطقة أخرى لحقت الهزيمة فيها بـ”حزب العدالة والتنمية”.

ويمثل الطعن الذي سيتقدم به حزب “ديم”، ثالث أكبر حزب في البرلمان والذي حقق أداء جيداً في جنوب شرق البلاد الذي تقطنه أغلبية كُردية، أكبر خلاف على نتائج الانتخابات المحلية التي أجريت يوم الأحد الفائت ومني فيها “حزب العدالة والتنمية” بهزيمة ساحقة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات