لقد مثّلت الفلسفة الحديثة الغربية مناسبة لرفع التحدي أمام أي اطلاقية، حيث عرفت نوعاً من سقوط الحدود أو تهميشها وتأجيل مساءلتها إلى حين أو حتى تغيبها أحياناً، هذه الحدود هي التي شكّلت أساس المفاهيم الحداثية مما جعل المعنى بلا تسييج مفهومي قد يطوق معناها ويحدد دلالتها بالشكل المضبوط كما هو الشأن في الحقل الديني، إزاحة الحدود قصد فتح أفق إمكانية المطالبة بتحقيق اللامتحقق وإمكانية إعلاء الفعل الإنساني الدنيوي.
وصحيح أن هذه النظرة تم مراجعتها في الفكر المعاصر، لأنها ذهبت أبعد من ممكنات الحدود المؤطرة للأزمنة الحديثة وخلقت بالمقابل تراجعاً قيمياً وأخلاقياً بسبب تراجع الوازع الديني، إلا أنها برهنت على فاعلية الفضول البشري كمحرك في التعاطي مع هذا العالم، في حين أن ما نعيشه في سياق ثقافتنا الإسلامية يختلف بشكل ما عن مسار الفاعلية الغربية، إذ لا يرتبط الأمر باختلاف ديني فقط بل أيضاً بثقافة مغايرة، ففي السياق العربي الإسلامي تقوم في الغالب المقاربة الثقافوية على نسج حجاب تفسيري شمولي أساسه تفسير كل شيء في المجتمع والدولة انطلاقاً من الثقافة المهيمنة عليها، وغالباً ما تختزل الثقافة في المجتمعات العربية الإسلامية إلى الدين الإسلامي، فما هو مدلول الفعل الإنساني الدنيوي ضمن الثقافة الإسلامية؟
مدلول الفعل الإنساني الدنيوي
رغم أن مطلب الحياة في التوجه الديني الإسلامي يحثّ على أولوية هذا المطلب، إلا أنه في خضم ما أصبحت ترمز له الثقافة الإسلامية صار يهمش تحت ضغط أو غطاء القضاء والقدر ووجوب تقبل كل الوضعيات الدنيوية باعتبارها امتحاناً يؤجر عليه. إذ تعيش الثقافة الإسلامية الراهنة على وقع احتضان تجليات الحداثة رغم حسّ الامتعاض والرفض الذي يصاحب هذا الاحتضان، حيث لا وجود لبديل عن ذلك.
كما أن النمطية المعيشية التي فرضتها الحداثة أتاحت أريحية حياتية تستجيب لأي طموح بشري مهما كان تدينه، فهذه الثقافة أنتجت ذهنية ارتكاسية بالأخص فيما يتعلق بذهنية المسلم بغض النظر عن طبيعة أو درجة أو أيديولوجية تدينه، ذهنية يحكمها في الغالب منطق المراجعة الذاتية السلبية التي يرسمها فاعل الشعور بالذنب خصوصاً فيما يتعلق بالعمل الدنيوي، شعور ملخصه التقصير المستدام إزاء الواجب الإلهي دنيوياً، فالحياة الدنيوية لاغية بلا قيمة مادمنا فيها، فهي بالمرتبة الثانية لا ترقى أمام أولوية التهيؤ للحياة الأخرى، حيث يظل المسلم يعيش ازدواجية ما بين التمتع بنعم الحياة والشعور بالذنب الناتج عن هذا التمتع، كأننا أمام حالة جلد ذات مستمرة.
وبالتالي هذا يخلق اغتراباً ذاتياً مستديماً يصعب التخلص منه، إذ يرتبط مفهوم الخلاص هنا بالعودة لنموذج معين من التدين، فالعودة هنا بالضرورة تستدعي تغيب مظاهر التمتع الدنيوية الراهنة لصالح الالتزام الديني في تصوره الماضوي.
ولذلك، فإن هذا يفرض قيوداً ذهنياً وواقعية تعمل على تسييج أو تقييد الفعل الدنيوي، وتجدر الإشارة هنا إلى أن التساؤل حول محددات هذا التدين ومحركاته وضوابطه تغيب عند العامة ليحضر كبديل عنها النموذج المسرب أو المتوافق عليه مجتمعياً، مما يجعل من المطلب الديني مطلب تبريري صرف يرسم بالمقابل علاقة مرضية تقزم قدرات وإمكانات المريد وفق رؤية هي بالأساس لادنيوية، مادام أن الفعل الدنيوي مقرون بالجرم المصحوب بالشعور بالذنب مما يفقده طعم الحياة، فيطمح أو يمني النفس بحياة أخرى، وهو ما يربطه بالآخرة أو الجزاء الآخروي الموعود، هي أشبه بعلاقة عمودية تستلهم مقومات العبودية الوثنية القائمة على الخنوع الاختياري التي ترفض الانسلاخ عن سيدها كما تتصوره هي.
الحاضن النفسي
قد يعكس هذا الشعور نوعاً من الحاضن النفسي الذي يساعد على الأخص فئة أو طبقة معينة من الناس على تحمل أعباء الحياة، لكنه أيضاً مطية لتعاظم السلطة المطلقة أو الشمولية، إذ يساهم بشكل كبير على تقبل مطبات أو المآلات غير المتوقعة وراء أفعالنا ومصائرنا، مما يجعلنا أمام جانبين: الإيجابي والسلبي لهذا الحاضن النفسي، الأول يساهم في التخفيف من البؤس المعيشي حيث لا يغيب الأمل بل يرفعه أو يعمل على تأجيل بلوغه نحو الخلاص الأخروي بما هو الجزاء الأفضل.
أما السلبي فيرتبط بما قد نسميه انكماش معيشي/ حياتي هو أقرب إلى حالة اكتئاب أو تطبع مع الوضع الناتج عن الشعور بالذنب تحت لافتة القضاء والقدر، وحب المصير الذي سطرته الإرادة الإلهية لخير عباده. كأننا أمام رسم الحدود الدينية داخل الإطار الديني المحدد مسبقاً، حيث يحضر هاجس الخوف من رفع الحدود مخافة ارتكاب جرم ديني لايغتفر، مما يغيب مفهوم الفضول المعرفي بما هو محرك لعجلة المسار التاريخي البشري، فنصير أمام ترادف دلالي ما بين الفضول المعرفي وارتكاب الذنب الديني، مما يخلق فوبيا التغيير في نفوس المريدين.
إن هذا النهج الثقافوي يخلق بنية معجمية مغايرة ومغلقة على ذاتها ترتبط بشكل كبير بما لا ينبغي أن يكون أكثر من تعلقها بما ينبغي أن يكون وماهو كائن، كأننا أمام رقابة مستمرة وضمير تأديبي لاينام، رقابة أشبه بعملية جلد الذات بشكل مستدام، فيصير العالم مجرد وجود مؤقت أو معبر إجباري اضطراري يمكن التعايش والتطبيع مع إشكالاته دون الحاجة إلى حلها خارج التصورات الدينية الجاهزة التي تحاول قدر الإمكان رسم حدود داخل الحدود المرسومة قبلا مخافة أن يرفع التحدي وينتفتح أفق العقل البشري خارج التسييجات المسبقة التي اتخذت شكلاً تقديسياً يصعب تحديه أو تخطيه.
في حين أن العمل الدنيوي يتطلب وجود مسار منفتح نحو آفاق لا يحكمها سوى الفضول البشري المتجدد والمتقد نحو الإبداع، هذا الأمر لا يدخل في باب التعارض مع المطلب الديني/ بقدر ما يدخل في إطار المطلب الخاص بالتعاطي مع شروط الوجود في هذا العالم، التي تستوجب عملية رفع التحدي أمام حدود صارت مع الوقت حدوداً مقدسة تكسيرها يوازي الانصفاف في الجانب اللاغ للدين، هذا التحدي الخاص بمنطق أو ذهنية الفعل الدنيوي بناء على رفع الحدود، أو التسييجات المسبقة لتصوراتنا حول الفعل البشري في هذا العالم، يجب التعامل معه بما هو فعل مبارك وليس مدنّسا يستوجب التطهير وتقديم القربان جرّاء فاعليته الدنيوية.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
الأكثر قراءة

وعود حكومية بلا تنفيذ.. هل توقفت بوادر حلول الأزمات السورية؟

وزير النقل السوري يتحدث عن آليات جديدة لتسعير السيارات.. ماذا قال؟

وزير الداخلية السوري: التعاون مع روسيا يخدم دمشق

وزارة الداخلية دفعت محمد الشعار إلى تسليم نفسه.. ماذا قالت؟

وثّقَ تعذيب السوريين بسجون الأسد.. تفاصيل جديدة عن “قيصر”

واشنطن تتحدث عن سحب قواتها من سوريا.. و”قسد” تؤكد عدم تلقيها خططا رسمية
المزيد من مقالات حول قراءات معمقة

فرص إنهاء حرب غزة.. ودلالات تهريب إيران السلاح للضفة الغربية

نساء “داعش”.. رحم التنظيم الإرهابي وولادة قذائف النار

نهاية “حماس” في قطر: الحسابات الخطأ تؤزم مستقبل الحركة السياسي

الآخر في العقل الإسلاموي.. الانعزالية وسياسة العنف

تاريخ الإسلام السياسي في المغرب.. بين مرحلتي “الربيع العربي”

الجماعات الجهادية والاستهلاك السياسي للقرآن

إيران والقوى الإسلاموية والجماعات الجهادية.. بين الوصاية والتعاون والتوظيف
