يتنقل تنظيم “داعش” الإرهابي بين عدة مناطق جغرافية، من دون رابط هيكلي أو تنظيمي، في ظل السيولة التي يقع تحت وطأتها إثر الهزيمة التي تكبدها في معركة الباغوز عام 2019، بشمال شرقي سوريا، ونهاية ما عرف بـ”دولة الخلافة” المزعومة. والهجمات المباغتة التي يقوم بها التنظيم الإرهابي في منطقة الساحل الإفريقي وكذا بالبادية السورية فضلاً عن نشاطه في عواصم أوروبية، وقبل فترة وجيزة بروسيا، باعتماد منهج “الذئاب المنفردة”، لها هدف دعائي بقدرته على “البقاء” حسب سرديته القديمة، بل وتنفيذ عمليات هجومية، وجذب مقاتلين جدد أو الحفاظ على الجسم الحركي من الشعور بالتململ أو الإحباط بعد الانحسار والهزيمة.
واختيار المناطق له بعد رئيسي وآخر ثانوي، فالأول هو ارتكاز التنظيم على مناطق بمقدوره الحركة فيها، ومساحات رخوة أمنية، يمكنه التخفي والحصول على الموارد المادية واللوجستية، كما في البادية السورية بمساحاتها الصحراوية الشاسعة، والثاني يتعلق بالجغرافيا السياسية التي يبعث من خلال نشاطه وهجومه الإرهابي فيها رسائل محددة، وهذا ما ينطبق على ما حدث كذلك في هجوم سلطنة عُمان الأخير.
فاستهداف أحد المساجد في عُمان يماثل ما جرى في مصر قبل سنوات عندما هاجم التنظيم الإرهابي مسجد الروضة التابع لإحدى الطرق الصوفية في غرب مدينة العريش بشمال سيناء، وسبق الهجوم الدموي اختطاف ومقتل أحد أقطاب الطريقة الصوفية وذبحه بينما عمره كان يتجاوز التسعين عاماً. وكان الهجوم محاولة للضغط على الدولة المصرية بتحريك الصراعات القديمة بين الحواضن المتطرفة، وتفجير الخلافات المذهبية الدموية، لكن نجحت تصفية التنظيم الذي يسمي نفسه “ولاية سيناء” وانتهت عمليات بواسطة القوات المسلحة المصرية ودعم أبناء سيناء.
بالتالي، يمكن القول إنه إلى جانب اختيار مناطق جغرافية تهيئ للتنظيم مرونة الحركة وتوفير غطاء للتخطيط والتدريب والتنفيذ، فإن الرسالة السياسية هي الأكثر تأثيراً مع ديمومة القدرة على التواجد، فاستهداف عُمان هو تتويج عملياتي لمحاولات الضغط أو تهديد دول الخليج، من انبعاث هجمات “داعش” ضدها، ولا سيما تلك البلدان الخليجية التي بالفعل لها أجندة سياسية معادية للحركات الإسلاموية الجهادية، وكذا تنظيمات الإسلام السياسي، ناهيك عن انخراطها في التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضد “داعش”.
“داعش” يستهدف الخليج
ولذلك، نجد أن عُمان التي عانت مؤخراً من الهجوم الداعشي سبقتها الكويت وكل منهما ضمن التحالف. ولئن كانت الأردن والإمارات على رأس الشركاء الإقليميين في الخليج لمحاربة “داعش”، فكان نصيب الأردن هو حرق الطيار الأردني الشاب، معاذ الكساسبة في مشهد فاشي مازال له أثره النفسي الصعب.
ويمكن القول إن الخليج على قائمة الاستهدافات الداعشية، وذلك لجهة دوره المهم والمؤثر بل المركزي في محاربة “داعش”، لا سيما أن الإمارات تأتي في المرتبة التالية بعد واشنطن على مستوى تنفيذها هجمات بسلاح الجو ضد التنظيم الإرهابي، وذلك بحسب الخارجية الأميركية.
وما يجعل عُمان متأثرة على نحو بالغ أمنياً، بل يتم إضعافها عمداً، هو وجود جماعة “الحوثي” باليمن، الموجود كسلاح في يد طهران جنوب دول الخليج. وبالتالي، فإن الضربات من قبل التنظيمات الإرهابية والمنظمات المسلحة وحصارها سواء من “الحوثي” أو “داعش” إنما يفرض أعباء أمنية وجيواستراتيجية كما يتسبب في حالة استنزافية، لإنجاح الدور الوظيفي لهذا التنظيم أو ذاك في مهمة المشاغلة، وتحقيق الأدوار الإقليمية المطلوبة.
من ثم، فإن الهجوم في عُمان على مسجد شيعي وفي تلك الفترة التي تشهد المجتمعات الشيعية أو البلدان ذات الوجود الشيعي احتفالات ومجالس عزاء بمناسبة “عاشوراء”، يجعل الحادث متزامناً مع توقيت حساس وله هدف ثالث بعد الإشارة للأهداف سالفة الذكر، وهي أيضاً تتماثل مع حادث سيناء في مسجد الروضة، حيث إن الهجوم على الشيعة كما الصوفية إنما يهدف إلى تفجير الصراعات الطائفية في الخليج بين مكوناته. بحيث تتحول المكونات التي تعيش في حالة من الاستقرار والتعايش مع شعورها بالمظلومية وتعمد الاستهداف في مناسبة دينية لها حمولتها التاريخية إلى التنابذ والصراع. وهجوم “داعش” هو محاولة لتراكم عداء مبطن بين المكونات.
اللعب على وتر اللغم الطائفي
وبحسب المعلومات الأمنية الرسمية، فإن الأشخاص الثلاثة الذين نفذوا الهجوم على المسجد بمنطقة الوادي الكبير قضى فيه 6 أشخاص. وقالت شرطة عُمان في بيان إن “الجناة الثلاثة المتورطين في حادث إطلاق النار في الوادي الكبير عُمانيون وهم إخوة، لقوا حتفهم نتيجة إصرارهم على مقاومة رجال الأمن، وقد دلّت إجراءات التحرّيات والتحقيقات بأنهم من المتأثرين بأفكار ضالة”. وتابع البيان: “عبّرت شرطة عُمان السُّلطانية عن شكرها للجميع على متابعتهم واهتمامهم وحرصهم على أمن وسلامة وطنهم”.
وكان التنظيم قد قال إن “المهاجمين الانتحاريين” التابعين لها أطلقوا النار على المصلين في المسجد وتبادلوا إطلاق النار مع قوات الأمن العُمانية حتى الصباح، وفق وكالة أنباء “رويترز”.
و”صدم الحادث دولة تجنبت العنف الطائفي الذي اجتاح بعض دول الشرق الأوسط، بما في ذلك بعض جيران عُمان الغنية بالنفط، بعد أن أعلن تنظيم داعش قيام “خلافته” في العراق وسوريا قبل عقد من الزمن وسعى إلى التوسع في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية”.
فيما نقلت صحيفة “فايننشال تايمز” عن الباحث في شؤون داعش بـ”منتدى الشرق الأوسط” الأميركي، أيمن التميمي، قوله بأن الهجوم “غير عادي”، موضحاً أنه ليس هناك “أدلة تذكر على وجود نشاط جهادي في البلاد (عُمان) سابقا”. إذ تطاول الشيعة اتهامات بالتكفير من قبل التنظيم الإرهابي وقال التميمي: “يجب مهاجمتهم في جميع أنحاء العالم حيثما أمكن ذلك”.
في المحصلة، مع التطورات الجيوسياسية بالمنطقة المختلفة، وبخاصة بعد عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حركة “حماس” ضد إسرائيل، يسعى “داعش” إلى التموضع من جديد لا سيما في المناطق التي تلامس الأمن الإقليمي، وهو ما يحدث في الخليج كما في سوريا وقبلها في الكويت والسعودية ومصر. بل إن الوضع في الخليج يبدو أكثر تعقيداً وصعوبة لا سيما في اللعب على وتر اللغم الطائفي، لجهة تفكيك الجبهة الداخلية، وهدم الوحدة الوطنية في مقابل توسيع الحاضنة المجتمعية للتطرف بعد تطييفها.
مخاطر “داعش” في الخليج
تجاوُز مخاطر “داعش” الإرهابي الطابع الأمني البحت، وتحوله إلى مصدر تهديد لهوية الدولة الوطنية في البلدان التي يصل إليها، بما فيها دول الخليج، وفق “مركز أسبار”، إذ إنه من الملاحظ أن التنظيم -وخلافاً لتنظيم “القاعدة”- يرتكز إلى “أيديولوجية مذهبية” قوامها اللعب على وتر الانقسام وبثُّ الفتنة الطائفية؛ فالتنظيم أكّد أن هدف أعمال العنف التي قام بها -حتى الآن- في بعض دول الخليج يتمثل في استهداف الشيعة في شبه جزيرة العرب. وقد بدا ذلك جلياً من استهداف تفجيراته الإرهابية مساجد لأبناء المذهب الشيعي في كل من السعودية والكويت.
من بين مخاطر “داعش” المستقبلية في الخليج، هي استهدافها الشباب والفئات المختلفة بالتجنيد من خلال إغراءات تفجير الوتر الطائفي، فضلاً عن اعتمادهم الشبكات العنكبوتية ومنصات التواصل الاجتماعي.
ويردف: “وفي الوقت ذاته، ومن باب التمويه الاستراتيجي يعلن التنظيم بين الحين والآخر عن نيته استهداف مواقع حيوية مثل السفارات الأجنبية، وهذا يعزز ما أعلنت عنه الأجهزة الأمنية السعودية في أيار/ مايو 2015 عن إحباط مخطط لتفجير انتحاري ضد السفارة الأميركية في الرياض. ولا شك أن هذه الأيديولوجية، في حال نجاحها، تنذر بشق الصف الوطني والإضرار باللحمة المجتمعية، ومن ثم تهديد هوية الدولة الوطنية في دول الخليج التي يُعتبر المكون الشيعي أحد أطياف مكونات النسيج المجتمعي فيها”.
ومن منظور استراتيجي أوسع، يتعاظم تهديد تنظيم “داعش” لأمن واستقرار دول الخليج خصوصاً والدول العربية عموماً، إذا أخذنا بعين الاعتبار تقاطع أيديولوجية التنظيم المذهبية مع ما يشير إليه العديد من التقارير والدراسات الغربية، وتؤكده الشواهد العملية على الأرض، من وجود مخططات لتفتيت المنطقة على أسس طائفية ومذهبية وإثنية. وتبدو من الأهمية بمكان في هذا السياق، الإشارة إلى مخطط تنظيم “داعش”، الذي يرمي إلى تقسيم السعودية إلى 5 “ولايات”.
وبحسب مركز الدراسات، فإنه ينبه إلى ضرورة توخي أقصى درجات الحيطة والحذر، والتزام اليقظة الأمنية التامة والمستمرة، خاصة مع تهديد “داعش” باستهداف المكون الشيعي في شبه جزيرة العرب. فضلاً عن زيادة التنسيق الأمني والاستخباراتي بين دول “مجلس التعاون الخليجي” فيما بينها من جهة، وبينها وبين دول الجوار والقوى الكبرى خاصة الولايات المتحدة من جهة أخرى، وذلك فيما يتعلق بالمطلوبين أمنياً، والمشتبه في انتمائهم للتنظيمات المتطرفة؛ من أجل إحباط أية محاولات لزعزعة الأمن الداخلي. ثم تعزيز الوحدة الوطنية، واتخاذ إجراءات قانونية رادعة وحازمة ضد أية محاولات، داخلية أو خارجية، لبث روح الطائفية والتحريض المذهبي.
ومن بين مخاطر “داعش” المستقبلية في الخليج، هي استهدافها الشباب والفئات المختلفة بالتجنيد من خلال إغراءات تفجير الوتر الطائفي، فضلاً عن اعتمادهم الشبكات العنكبوتية ومنصات التواصل الاجتماعي، وقد سبق للسعودية أن قامت بتوقيف أفراد منهم 77 سعودياً شكلوا ما عرف بـ”جند بلاد الحرمين”. وهذا يؤشر إلى وجود خلايا نائمة بالخليج، ونشاط حركي مثير للريبة والقلق، في ظل القدرة على التخفي والكمون ثم المباغتة بشن هجمات إرهابية نشطة.
- مجزرة الكيماوي في دوما 2018.. ما دور روسيا في تضليل منظمة حظر الأسلحة الكيميائية؟
- ثلاث دقائق من الشائعة.. ماذا حدث بعد تداول عودة ماهر الأسد إلى الساحل؟
- بضمنها سوريا.. ترامب يُعلّق المساعدات الخارجية الأميركية فما الأسباب؟
- “إخلاء سبيل المتهمين!”.. تطورات واقعة إشعال النيران بسيارة شقيق عمرو دياب
- تعاون استخباراتي بين واشنطن ودمشق يُحبط هجوماً لـ “داعش” على مرقد السيدة زينب.. تفاصيل
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.