تسعى روسيا إلى تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، وتقوم برعايتها بدءا من إعلان الرئيس التركي رغبة بلاده في الانفتاح على سوريا، إذ إن الوساطة الروسية في إعادة العلاقات من مصلحة موسكو التي تريد توسيع نفوذها في المنطقة، فيما أن تركيا تريد الضغط على الكُرد والقضاء على مخاوفها من قيام دولة كردية.
لكن هذه المساعي اصطدمت بشروط الرئيس السوري بشار الأسد، الذي أكد استعداده للقاءٍ مع أردوغان “إذا كان ذلك يحقق مصلحة”، موضحاً أن المشكلة “ليست في اللقاء بحدّ ذاته؛ وإنما في مضمونه”، الأمر الذي استدعى دعوة الأسد إلى موسكو ولقائه مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، مؤخراً.
إحدى التكهّنات تدور حول أن بوتين طلب حضور الأسد للاتفاق على ضرورة إتمام عقد اللقاء مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وإنهاء هذه المعضلة دون طرح أية شروط مسبقة، حيث ذكر الأسد قبل عدة أيام أنه لا نيّة له بلقاء أردوغان دون موافقة أنقرة المسبقة على الانسحاب من شمال سوريا، بحسب ما ورد في تحليل لـ “الحل نت“.
ورغم عدم التقدم الفعلي لعودة العلاقات، إلا أن روسيا ماضية في الانفتاح مع تركيا ضمن الأراضي السورية، وهذا كان واضحاً في الاجتماع الأخير بين وفدَي أنقرة ودمشق في سراقب بإدلب في تموز/ يوليو المنصرم.
دوافع روسيا
لم تتوقف روسيا عن محاولاتها الحثيثة لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين أنقرة ودمشق منذ سنوات، لكن هذه المرة يبدو أن موسكو تضع كامل ثقلها في هذا الملف لإنهائه، وهذا يعود إلى قدرة الأخيرة بالضغط على دمشق للقبول بالمبادرة التركية وتقريب وجهات النظر، إذ تسعى موسكو أيضاً إلى تحقيق أهدافها في المنطقة والالتفات إلى مصالحها الأخرى.
بحسب المحلل السياسي عامر السبايلة، فإن هناك هدف روسي ليس بجديد من التطبيع مع تركيا باعتبار أن هذه قد تكون أهم مراحل إغلاق الأزمة في سوريا؛ لأن أساس الأزمة اليوم هو من تركيا، في مناطق الشمال السوري، فهذا أحد أهم الأمور التي تعتبره موسكو أنه يرفع عن كاهلها الكثير من الضغط في سوريا وتجعلها تتعامل مع سوريا أكثر استقراراً وتركز تحدياتها في المناطق التي ترغب فيها ومناطق نفوذها في الساحل والبحر الأبيض المتوسط.
“الهدف الثاني، أن تركيا بلد مهم جدا بالنسبة لروسيا، إذ لا بدّ دائماً من الحفاظ على علاقة جيدة معها، لعدة أسباب. أولاً، لأنها مدخل أوروبا وعضو في حلف شمال الأطلسي، وعلاقة أنقرة مع الولايات المتحدة، لذا فهي بلد مؤثر فعلياً في تغيير مواقفه بالنسبة لروسيا، إذ تسعى لأن تكون تركيا أقرب إلى صفها وترى مصالح حقيقية معها، وهو بالنسبة لموسكو إنجاز مهم ترغب بالحفاظ عليه دائماً”، يضيف السبايلة لـ “الحل نت”.
لدى موسكو مصالح عديدة من التطبيع بين دمشق وأنقرة، إذ إن هذه المصالحة إن تمَّت، ستكون بمثابة ورقة رابحة لها من جميع النواحي، إن كانت اقتصادية أو سياسية أو عسكرية، حيث ستعزز روسيا موقفها من خلال تمتين علاقاتها مع تركيا وإضفاء نوع من التوازن مع القوى الأخرى في المنطقة، خاصة واشنطن، وتعزيز موقفها الجيوسياسي، ناهيك عن تخفيف الأعباء عليها والتركيز على حربها في أوكرانيا والتمدد في القارة الإفريقية.
بحسب حديث مدير “مركز ستراتيجكس للدراسات”، حازم الضمور لـ “الحل نت”، فإن الوساطة الروسية بين الدولتين لا تُعد أمراً حديثاً أو جديداً، إذ بدأت مع انطلاق مسار “أستانا” عام 2017 وأخذت مسارات مختلفة بعد اندلاع الحرب العسكرية الروسية على أوكرانيا وتطوراتها؛ حيث أظهرت موسكو سعياً ملحوظاً لتحقيق التهدئة طويلة الأمد في مناطق انتشارها في سوريا، من أجل التفرّغ للحرب التي تواجه فيها دعماً غربياً متواصلاً لأوكرانيا.
دوافع التقارب بين الدولتين متعددة، فمنها ما يتعلق برغبة روسيا بتغيير الواقع الميداني في الشمال السوري، خاصة في ضوء انشغالها بمجريات الحرب في أوكرانيا، وحاجتها إلى تنشيط دبلوماسيتها في الشرق الأوسط، وتأكيد تمسّكها بالموقف المعلن عن مشاركتها في الأزمة منذ العام 2015، إلى جانب رغبة سوريا في استكمال مسار الانفتاح الإقليمي خاصة بعد استعادة مقعدها في جامعة الدول العربية في 7 أيار/ مايو 2023، وفق ورقة موقف لـ “ستراتيجكس“.
هل تضغط موسكو على دمشق؟
على الرغم من ثقل موسكو السياسي في الملف السوري وقدرتها على الضغط على دمشق، إلا أن محاولاتها السابقة في إعادة العلاقات لم تجدِ نفعاً، لكن روسيا في هذه المرحلة بحاجة ماسة إلى تقريب وجهات النظر بين البلدين، من باب توطيد العلاقات مع تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي “الناتو” والقريبة من أوروبا.
وفق الباحث الضمور، فإن المسار الحالي يتعدى الجوانب الأمنية والعسكرية حيث “شهدنا دخول القادة السياسيين على الخط وتصريحاتهم الراغبة بالمصالحة، لكن قدرة الدول الراعية للمصالحة على تحقيق اختراق مرتبط بالمصالح المشتركة مع الدولتين ونقاط الالتقاء، وأتوقع أن روسيا تمتلك مزيجاً لا بأس به من الأوراق مع الدولتين”.
بلا شك فإن موسكو ستكون اللاعب الأبرز في عملية تطبيع العلاقات وهذا كان واضحاً في الرسائل المتبادلة بين أنقرة ودمشق خلال لقاء الممثل الخاص للرئيس الروسي ألكسندر لافرنتييف مع الأسد في 26 حزيران/ يونيو الفائت بدمشق، حيث أكد الأسد خلال اللقاء انفتاح “دمشق على جميع المبادرات المرتبطة بالعلاقة بين سوريا وتركيا والمستندة إلى سيادة الدولة السورية على كامل أراضيها، ومحاربة كل أشكال الإرهاب وتنظيماته”، وهذا كان رسالة روسية أيضا إلى تركيا، للتأكيد على دور موسكو المحوري في هذا الملف.
الزيارة الروسية إلى سوريا، لم تكن الأخيرة، إذ زار وزير الخارجية سيرغي لافروف دمشق بعد أن أدلى الأسد بتصريحات صحفية منتصف الشهر المنصرم، أعرب فيها عن ترحيبه بمبادرات أردوغان للقاء معه، ولكن بشروط، قائلا “نحن إيجابيون تجاه أي مبادرة، لكن هذا لا يعني أن نذهب من دون قواعد. اللقاء وسيلة ونحن بحاجة لقواعد ومرجعيات عمل. هناك لقاء يترتب مع المستوى الأمني من بعض الوسطاء وكنا إيجابيين”.
زيارة لافروف كانت بمناسبة الذكرى الـ 80 للعلاقات الدبلوماسية بين موسكو ودمشق، لكن الدكتور عامر السبايلة يرى أن زيارة لافروف إلى دمشق تأتي ضمن رغبة روسيا بالضغط على دمشق لتقديم تنازلات والعبور التدريجي باتجاه هذه العلاقة، باعتبار أن الظروف اليوم متشكلة لإنجاز أي اتفاق، أبرزها فيما يتعلق بالإدارة الأميركية والانتخابات القادمة، وعدم وضوح رؤية الولايات المتحدة ورغبتها الموجودة بالانسحاب العسكري مستقبلاً من سوريا. “إذاً هناك عدة أمور تضغط على الروسي ليتحرك ويجعله يؤمن أنه يمكن أن يقوم اليوم بإنجاز من هذا النوع”، وفق السبايلة.
سر الرغبة الروسية
هذه ليست المحاولة الروسية الأولى للمُضي قُدماً في عملية عودة العلاقات بين البلدين الجارين، إذ إن موسكو كانت سبَّاقة بكسر القطيعة بين دمشق وأنقرة منذ عام 2011، حيث عُقدت محادثات في موسكو في كانون الأول/ ديسمبر 2022، بين وزراء الدفاع السوري والتركي والروسي، والذي كان أول اجتماع على المستوى الوزاري، بينما توسّطت روسيا في اجتماعات بين مسؤولين سوريين وأتراك العام الماضي.
وحول إمكانية عقد اجتماع مرتقب بين أردوغان والأسد في العاصمة الروسية، لم يؤكد المتحدث باسم “الكرملين” دميتري بيسكوف، عقد مثل هذا الاجتماع، لكنه قال إن روسيا ترغب في أن تحسّن تركيا وسوريا علاقاتهما.
بينما قال بيسكوف، وفق “وكالة رويترز“، إن “مسألة تيسير إجراء اتصالات بعينها، بين ممثلين أتراك وسوريين على مختلف المستويات، مدرجة بالفعل على جدول الأعمال”. وأضاف أن “الكثير من الدول، وقطعاً روسيا التي تلعب دوراً مهماَ في المنطقة، مهتمة بمساعدة البلدين على إقامة العلاقات. هذا مهم جداً للمنطقة بأسرها”.
بحسب الباحث حازم الضمور، فإن موسكو تريد تعظيم المشتركات بين الدولتين، “لكننا نرى أن هناك ملفات حساسة لا يمكن الوصول فيها إلى تسوية بسهولة؛ فمثلاً الوجود التركي في الأراضي السورية، والذي تنظر له أنقرة من متطلبات أمنها القومي، وتعتبره دمشق احتلالاً، يجب إزالته كشرط لأي محادثات، بالإضافة للمستقبل الإداري والاجتماعي للشمال السوري، ومصير الجماعات المسلحة المعارضة؛ خاصة تلك المصنّفة في قوائم الإرهاب الأميركية مثل “هيئة تحرير الشام”، وكيف يمكن التخلّص منها وإلى أين سيتم نقلها، وهل ستنصاع “الجبهة” لهذه التسوية، أم سنرى نموذج “طالبان” جديد في بلاد الشام ومن مصلحة من ذلك؟”
التحديات الحقيقية، هي حجم التنازلات التي يمكن لتركيا أن تقدمها بالنسبة لسوريا، لهذا سنبقى نراوح في هذه النقطة إلى أن تتبلور صورة أوضح بالنسبة للأسد، لأن التنازل بهذه الطريقة يعتقد السوري أنه يقدم خدمات مجانية أيضا للتركي، باعتبار أنه تعايش مع الوضع في مناطق الشمال السوري وأن المشكلة الحقيقية أصبحت لدى تركيا التي باتت معنية بإيجاد حلول أكثر من الحكومة السورية التي تعايشت مع هذا الواقع، وفق السبايلة.
على الرغم من ذلك، فإن التمهيد الروسي لعودة العلاقات يجري على قدم وساق، حيث تعمل روسيا على الانفتاح مع تركيا ضمن الأراضي السورية، حيث عُقد اجتماع روسي تركي في 17 تموز/ يوليو المنصرم في سراقب شرق إدلب، وفق ما ذكر “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، الذي أشار إلى أن المجتمعين ناقشوا عدة ملفات، من بينها المعابر الداخلية وفتح الطرقات بين مناطق النظام والفصائل برعاية تركية – روسية، إضافة إلى التصعيد العسكري المتبادل والمتكرر بين الفصائل في إدلب وقوات الحكومة السورية، والقصف الذي تتعرض له النقاط التركية بشكل مستمر.
ويبقى المشهد الآن غير واضح، خاصة في الحالة السورية، إذ إن حاجة دمشق إلى التطبيع مع أنقرة لا تبدو مُلحّة في الوقت الحالي، لذلك قد تحافظ على سقف مطالبها، ناهيك عن الموقف الأميركي من التطبيع وقدرة واشنطن على الضغط على أنقرة، إضافة إلى عدم رغبة طهران في هذا التقارب، الذي سيقوّض مصالحها في المنطقة.
بناءً على ما سبق، فإن طريق تطبيع العلاقات بين سوريا وتركيا غير سلِس، لكن روسيا ستضع ثقلها لإغلاق هذا الملف وترتيب تموضعها في الشرق الأوسط، خشية على مصالحها من حالة عدم استقرارٍ قادمة، لذلك ستضغط على دمشق للقبول بالوضع الراهن مع الحصول على ضمانات مستقبلية.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.