مع الفترة الصحوية التي شهدها الخليج، وعانى من آثارها وتحدياتها، قبل عقود، وبلغت أبرز محطاتها وذروتها في حصار الكعبة على يد مجموعة جهيمان العتيبي، وهي تنتمي لما يُعرف بالسلفية المحتسبة، فإن مستوى آخر من الانتباه والتعاطي مع ورقة الإسلام السياسي، قد تغير. ومنذ تاريخ الحصار نهاية السبعينات، الأمر الذي اضطر المملكة العربية السعودية إلى إصدار فتوى لاقتحام الكعبة والتعامل الأمني بالطيران الأميركي مع الجماعة المتمردة نظراً للحساسية الدينية وتعقيدات الحدث الطارئ، فإن شعوراً تسلل إلى مفاصل الحكّام بالخليج مفاده أن الإسلامويين يشكّلون تهديداً حقيقياً وجاداً على المجتمع والحُكم.

ولهذا، تحول الموقف تجاه القوى الإسلاموية تدريجياً حتى انتهى إلى تحييد تام، بل وانتهاج سياسات تقلص من نفوذها، وتعمّد إلى مراجعة أي مناهج تروج لأفكارها.

الإمارات والسعودية ومعاداة السلفية

يمكن القول إن السعودية مع محطة ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، هي الأكثر جرأة في التعاطي مع ملف الإسلام السياسي، حيث كان الأمير الشاب صريحاً في قوله، إن التحالف المؤقت مع الإسلام السياسي تزامن في فترة لحاجة مُلحّة ارتبطت بالعِداء مع “الاتحاد السوفييتي”، الأمر الذي يقوم بنبذه وتخطئته، ثم يؤكد أن الوقت الراهن ومستجداته بحاجة إلى نسخة جديدة من الإسلام، تتفادى أي توظيف سياسي، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، وقال بن سلمان: “كثير من الأحاديث المتواترة عن النبي (محمد) لم تثبت، وهي سبب الانقسام في العالم الإسلامي”. 

وتابع في حوار مع مجلة “ذا أتلانتك“: “هذا هو المصدر الأساسي للانقسام في العالم الإسلامي، بين المسلمين المتطرفين وبقية المسلمين، فهنالك عشرات الآلاف من الأحاديث، والغالبية العظمى منها لم تُثبت، ويستخدمها العديد من الناس كوسيلة لتبرير أفعالهم، فعلى سبيل المثال، تنظيما القاعدة وداعش، يستخدمان الأحاديث النبوية الضعيفة جداً، التي لم تثبت صحتها، لإثبات وجهة نظرهم”، وفقاً لما نقلته “وكالة الأنباء السعودية الرسمية” (واس).

مقابلة لولي العهد، الأمير محمد بن سلمان مع التلفزيون السعودي- “سي إن إن”

وبخلاف السعودية التي شهد موقفها الانفتاحي الأخير عبر “هيئة الترفيه” ومعاداة النسخة الأصولية والسلفية من الإسلام، فإن الإمارات التي لديها موقف واضح ومباشر وقديم ضد جماعة “الإخوان” والتوظيف السياسي للدّين، دائماً ما تواجه مؤامرات ومحاولات جمّة للصعود في مجتمعها الهادي الذي يسعى إلى أن يحافظ على التنوع ومساحات التسامح في بيئاته المختلفة على المستوى الديني والقومي والمذهبي، من دون إثارة أي نعرات طائفية أو جهوية متشددة. 

وبين الحين والآخر، تكتشف الأجهزة الأمنية الإماراتية تكتلاتٍ لجماعة “الإخوان” سرّية، تحاول التموضع وبناء حواضن لها، بغية التخريب، أو تعطيل السياسات الإماراتية. 

والعِداء بين الطرفين قديم، ليس بسبب الموقف التاريخي من الإسلامويين، وعدم تهيئة أي ظروف تسمح لهم بالدعوة أو العمل الحركي، إنما كذلك لوجود سياسات واستراتيجيات راسخة تعززها فكرة “وثيقة الأخوّة الإنسانية”، ويتم تعميمها بوسائط مختلفة في الإعلام والتعليم والثقافة، تستأصل أفكارهم وتمنع أدبياتهم من الوصول لفئات عديدة.

وتفاقمت المواقف بين “الإخوان” ودولة الإمارات، آخرها حرب غزة، وقبلها سوابق عديدة، بداية من “اتفاقات إبراهام” ومروراً بالحرب في اليمن، وفترة حكم “الإخوان” بمصر التي لم تتجاوز العام، والتناقضات التي جعلت أبو ظبي على النقيض من مصالح الجماعة الإسلاموية إقليمياً، وقد تأزمت الأمور لدرجة حدوث قطيعة خليجية بين دول الرباعي (وتصنيفهم للإخوان كجماعة إرهابية) وقطر التي ظلت توفر ملاذات آمنة ورعاية سياسية وأمنية ومنصاتها الإعلامية لقادة “الإخوان”. فيما تواصل جماعة “الإخوان” ولجانها الإلكترونية الهجوم على الإمارات وسياساتها، وسبق لمجلس التعاون الخليجي أن دان هجوم الأمين العام السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الشيخ يوسف القرضاوي عام 2014 والمحسوب على جماعة “الإخوان” ويقيم في قطر، ووصل الأمر حدّاً باستدعاء الخارجية الإماراتية السفير القطري.

تنظيم سرّي لـ “لإخوان” بالإمارات

ومع حرب غزة، استأنف “الإخوان” وذبابهم الإلكتروني الهجوم على البلدان العربية والخليجية المعارضة لحركة “حماس”، أو التي لديها مواقف معادية لهم وسياساتهم، وترويج الشائعات ضدها، كما حدث مع الإمارات ومصر. كما سبق لحركة “حماس” أن شنّت هجوماً على وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد الذي طالب فيها تصنيف “حماس” كمنظمة إرهابية، عام 2021، واعتبرت الحركة هذه التصريحات “تتنافى مع قيم العروبة وجميع المفاهيم القومية، و تتسق مع الدعاية الإسرائيلية، وتصطدم مع توجهات الجمهور العربي الداعم للمقاومة في فلسطين”.

ولهذا، لا يبدو غريباً أن تعلن النيابة العامة في الإمارات، المرة تلو الأخرى وعبر فترات متتالية، إيجاد تنظيمات سرّية لـ “لإخوان”، تنشط أو تحاول النشاط، وتمارس مهامها التخريبية، حيث إن دول الخليج، ومنها أبو ظبي، تظل على رأس أولويات الجماعة الإسلاموية وتستهدفها. 

يمكن القول إن الإمارات تواجه أشرس حملة على وجه الخصوص من جماعة “الإخوان” وقوى الإسلام السياسي، إذ إن فُرص الاعتدال في المواقف لا تبدو قائمة، في حين تفجر التباينات والاختلافات الاستراتيجية الأزمات، ولا تجعل هناك أي فرصة للتهدئة أو المرونة والبراغماتية.

وبحسب “وكالة الأنباء الإماراتية”، فإن التحقيقات كشفت عن وجود جماعة سرية جديدة، تم تشكيلها من قبل أشخاص يعيشون خارج البلاد، وينتسبون إلى تنظيم “دعوة الإصلاح”، والذي يُعدّ فرعا لتنظيم “الإخوان” المصنف على قوائم الإرهاب.  وقالت الوكالة الإماراتية الرسمية إنه بـ”متابعة جهاز أمن الدولة للهاربين من مختلف إمارات الدولة ممن صدرت ضدهم أحكام غيابية عام 2013، أسفرت عن رصد مجموعتين من أعضاء التنظيم تلاقوا في الخارج، وآخرين استقطوبهم فانضموا إليهم وشكّلوا تنظيماً جديداً”.

وكشفت التحقيقات الإماراتية أن أعضاء الجماعة المكتشفة حديثاً والسّرية قد “تلّقوا أموالاً من التنظيم في الإمارات ومن جماعات وتنظيمات إرهابية أخرى خارج الدولة”. كما انتهت التحقيقات، إلى أن “التنظيم أقام تحالفات مع جماعات وتنظيمات إرهابية أخرى، للعمل معها من خلال قطاعات إعلامية واقتصادية وتعليمية، سعياً إلى تقوية صلته بها، ولتوفير جانب من التمويل، وتثبيت وجود التنظيم، وتعزيز أدوات حمايته في الخارج، وتحقيق أهدافه”. 

وقالت وكالة أنباء الإمارات الرسمية إن “مجموعة التنظيم” في إحدى الدول، التي لم يتم الإفصاح عنها، “ارتبطت بالعديد من واجهات التنظيمات الإرهابية التي تتخذ شكل منظمات خيرية أو فكرية، وقنوات تلفزيونية”. لافتة إلى أن “أعضاء التنظيم الهاربين تواصلوا فيما بينهم في اجتماعات تنظيمية سرية عبر تطبيقات على شبكة الإنترنت، وفى زيارات متبادلة بين أفراد المجموعتين”. فيما شملت اعترافات “متهم” معتقل من أعضاء التنظيم السري والجديد “بيان هيكل التنظيم ونشاطه، وأدوار أعضائه في العمل على تهديد الاستقرار، وقيادة حملات التشويه وخطاب الكراهية … وبث الفتنة بين أبناء الوطن، وتمويل الإرهاب وغسل الأموال، والتعاون مع أجهزة استخبارات أجنبية”. 

أطلقت دولة الإمارات بالتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية “مركز صواب”، وهو مبادرة تفاعلية للتراسل الإلكتروني، تهدف إلى دعم جهود التحالف الدولي في حربه ضد التطرف والإرهاب- “وكالة عمون”

كما وشدد التقرير على  أن فريقاً من أعضاء النيابة العامة يقود “تحقيقات مكثفة لكشف الحقيقة بشأن بعض التفاصيل التي تضمنها اعتراف المتهم المقبوض، وتحريات جهاز أمن الدولة”، مرجحاً أن الكشف عن المزيد من التفاصيل عقب الانتهاء من التحقيقات.

وسبق للسلطات الإماراتية أن أعلنت عن تنظيم آخر تم الكشف عنه قبل شهور، بينما قضت محكمةٌ في الإمارات حزيران/ يونيو الماضي بالسجن المؤبد لنحو 43 شخصاً بتهمة إنشاء وإدارة تنظيم بغرض ارتكاب أعمال “إرهابية”. 

مطلع العام، تم تأجيل النظر في قضيةٍ تطال أشخاص وكيانات متّهمين بقضايا إرهاب وغسيل الأموال المتحصلة من “جنايات إنشاء وتأسيس تنظيم سري إرهابي”، وذلك حتى الاستماع لمرافعة النيابة العامة. وقالت وكالة الأنباء الإماراتية إن الاتهامات طاولت 5 متهمين و6 شركات يديرونها. إذ قام النائب العام الإماراتي المستشار الدكتور حمد سيف الشامسي، بإحالة 84 متهماً، غالبيتهم من “جماعة الإخوان” لمحكمة أمن الدولة بغرض محاكمتهم على أساس تورّطهم في تدشين تنظيم سرّي آخر وارتكاب أعمال عنف وإرهاب.

التصدي للفكر الإخواني 

يوضح “المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات”، بأنه قد سعت كلٌّ من الإمارات والسعودية ومصر لأن تكون منارتاتٍ للفكر الإسلامي الثقافي المعتدل والمنفتح على العالم العربي والإسلامي والغربي، الأمر الذي يقلق تنظيم “الإخوان المسلمين” والتنظيمات الإرهابية المتطرفة الأخرى التي تخرّجت من المدرسة “الإخوانية”. 

تمتلك كلٌّ من الإمارات والسعودية إمكانيات وقدرات سياسية واقتصادية وثقافية تقف بالمرصاد للفكر “الإخواني” وتتصدى له منذ سنوات عديدة، مما أدى بالتنظيم “الإخواني” إلى خلق الإشاعات والتضليل الإعلامي والتهجّم على ما يمتّ بصلة للإمارات والسعودية وجهودهما في مكافحة الإرهاب والتطرف في المنطقة، ما اعتبره تنظيم “الإخوان” بمثابة تهديد وجودي مباشر لهم ولإيديولوجيتهم المتطرفة. وقامت دولة الإمارات بتعزيز مؤسسات وطنية، بوسائل منها التعاون الدولي، لبناء القدرات ومنع العنف ومكافحة الإرهاب.

وفي سبيل ذلك اعتمدت على المراكز التالية؛ المعهد الدولي للتسامح، إذ يهدف المعهد الدولي للتسامح الذي أطلقته دولة الإمارات إلى بثّ روح التسامح في المجتمع، وتعزيز مكانة دولة الإمارات إقليمياً ودولياً كنموذج في التسامح، وترسيخ ثقافة الانفتاح والحوار الحضاري، ونبذ التعصب والتطرف والانغلاق الفكري، وكل مظاهر التمييز بين الناس بسبب الدين أو الجنس أو العِرق أو اللون أو اللغة، كما يقول “المركز الأوروبي”، ثم مركز “هداية” لمكافحة التطرف العنيف، حيث يعمل المركز على بناء الشراكات مع مؤسسات عدة تعمل في مجال مكافحة التطرف العنيف، ويركز على مجالات مهمة مثل: الدبلوماسية الرياضية والثقافية، ومكافحة التطرف العنيف عبر المناهج التربوية، ونبذ الراديكالية في السجون، ودعم ضحايا الإرهاب. 

وأخيراً فقد أطلقت دولة الإمارات العربية المتحدة بالتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية “مركز صواب”، وهو مبادرة تفاعلية للتراسل الإلكتروني، تهدف إلى دعم جهود التحالف الدولي في حربه ضد التطرف والإرهاب. يتطلع المركز إلى إيصال أصوات الملايين من المسلمين وغير المسلمين في جميع أنحاء العالم ممن يرفضون، ويقفون ضد الممارسات الإرهابية، والأفكار الكاذبة والمضللة التي يروّجها أفراد التنظيم. كما يعمل “مركز صواب” على تسخير وسائل الاتصال والإعلام الاجتماعي على شبكة الإنترنت من أجل تصويب الأفكار الخاطئة ووضعها في منظورها الصحيح، وإتاحة مجال أوسع لإسماع الأصوات المعتدلة التي غالباً ما تضيع وسط ضجيج الأفكار المغلوطة التي يروجها أصحاب الفكر المتطرف.

تقف قوى الإسلام السياسي بالمرصاد لسياسات الإمارات التي تقوّض من فرصها ومصالحها الخارجية، وهي لا تتصل بغزة فقط، إنما تطال اليمن التي تتباين المصالح الإماراتية فيها، وكذا في سوريا ولبنان.

ويمكن القول إن الإمارات تواجه أشرس حملة على وجه الخصوص من جماعة “الإخوان” وقوى الإسلام السياسي، إذ إن فُرص الاعتدال في المواقف لا تبدو قائمة، في حين تفجر التباينات والاختلافات الاستراتيجية الأزمات، ولا تجعل هناك أي فرصة للتهدئة أو المرونة والبراغماتية.

فعلى المستوى المحلي، تخوض أبو ظبي مقاربة للعِداء مع الإسلام السياسي بنسختيه السُّنية والشيعية، وتتولى الإعلان عن نموذج إنساني في الدين يقوم على التعايش بين الأفراد من دون التصنيفات الضيقة القائمة على الهوية والدّين، كما هو واضح من “وثيقة الأخوة الإنسانية”، وهنا ننتقل لما هو إقليمي ومرتبط بالسياسة المحلية، وتتمثل في “اتفاقات إبراهام” التي لا تخرج عن الإطار ذاته بينما تسعى إلى بلورة صيغة ومقاربة إقليمية لتصفير المشاكل وتجسير الصلات على أساس من التفاهم بين الدول والشعوب، والوصول بالقضية الفلسطينية إلى نقطة آمنة عبر حلّ الدولتين وتنفيذ القرارات الدولية، وقطع الطريق على اليمين المتطرف في إسرائيل بأن ينهي المسألة، كما يعطّل مشاريع اختطاف القضية بيد إيران ووكلائها وحلفائهم السّنة في “حماس” و”الجماعة الإسلامية” بلبنان. 

بالتالي، تقف قوى الإسلام السياسي بالمرصاد لهذه السياسات التي تقوّض من فرصها ومصالحها الخارجية، وهي لا تتصل بغزة فقط، إنما تطال اليمن التي تتباين المصالح الإماراتية فيها مع طرفي الأزمة (السني والشيعي المسلحين) “الحوثي” و”الإخوان”، وكذا في سوريا ولبنان.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات