جاء التعديل الأخير لقانون الأحوال الشخصية بالعراق، بما فيه من بنود وإقرارات تسيء لحقوق المرأة، والعديد من المكتسبات التي سبق أن حظيت بها، وهي طفيفة محدودة، لتكون صفعة مدوية.

التعديلات المستحدثة، رغم كونها بدائية وعنيفة، تفضح بنية الحكم الذي يتقاسم الحُكم بالعراق، وهي غارقة في الفساد والمحاصصة الطائفية منذ ما بعد عام 2003 تحديداً. ولهذا تصمد القوى السياسية الساعية لتمرير القانون الخاص بتنظيم الأحوال الشخصية أمام الاحتجاجات الحقوقية المختلفة، وتواصل دورها المشبوه في أن تكون مسائل الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وغيرهما خاضعة لمحاكم طائفية، شيعية، سنية، مسيحية، إيزيدية، صابئية.

قد يُنظر للقانون بتعديلاته الجديدة، بأنها تضع المرأة تحت قهر وعبودية ترجع إلى عصر “الحريم” أو حتى دولة “الخلافة” الداعشية المزعومة، لكن هذا القانون هو استكمالٌ لنفوذ القوى التي تراكم السلطة والنفوذ والثروات، عبر آليات المحاصصة الطائفية وقد تم إقرارها منذ سقوط نظام صدام حسين.

ولا تختلف هذه القبضة العنيفة والخشنة على حقوق النساء عن أنماط الوحشية والهمجية التي تجري ضد معارضي النظام الطائفي الذي تقوده ميلشيات ولائية، مع تمثيل سُنّي لا يقل في قساوته ونظرته العشائرية الضيقة عن سابقه، بل إن كل منهما يتخطى الخلافات الظاهرية في مقابل الحفاظ على دفء المصالح التي تجمعهما. من ثم، لا تبدو ثمة معارضة للقانون الجديد من أي طرف يشارك في تشكيل النظام السياسي بالعراق، لا سيما مع الأحاديث والتلميحات المتداولة بأن الثقب الذي سيمر منه القانون سيليه جيب أوسع لإخراج قانون “العفو العام” بغطاء من القوى السّنية.

اعتداءات على النساء المحتجات ضد القانون

وقد تعرضت النساء في محافظة النجف إلى اعتداءات مهينة بالضرب والسباب أثناء تجمعهم في تظاهرة احتجاجية على قانون الأحوال الشخصية، دان تحالف (188) المناهض لتعديل القانون “الاعتداء السافر” الجسدي واللفظي على وقفة احتجاجية نظّمتها مجموعة نساء يتبعن للتحالف في محافظة النجف، حول رفض تعديل قانون الأحوال الشخصية المطروح بـ”البرلمان العراقي”. وقال في بيان “الاعتداء السافر الجسدي واللفظي على الوقفة الاحتجاجية السلمية لتنسيقية تحالفنا في النجف”. كما أبدى استنكاره “لعدم اتخاذ موقف حازم من قبل القوات الأمنية المتواجدة لحماية الوقفة، ونحمّلهم مسؤولية ما حصل، ونطالب بمحاسبة المتورطين فيه”.

عراقية تحمل لافتة: “لا لتعديل قانون الأحوال الشخصية” خلال احتجاج وسط بغداد- “إ.ب.أ”

وبحسب موقع “رووداو” فقد ألمح البيان إلى أن “هذا الاعتداء، هو استمرار لسياسة محاولات فرض الهيمنة السياسية الطائفية على المجتمع العراقي، وأن ما حدثَ اليوم لا يمت للعراق بعد 2003 ومساعي بناء دولةٍ يُحترم فيها القانون والدستور وحرية التعبير”. مشدداً على أنه “ينبغي على السلطات الثلاث استنكار هذا الاعتداء والوقوف بشدة ضده، بما ينسجم من مسؤولياتهم الدستورية والقانونية”. فيما وثّقت مقاطع الفيديو مشاركة عدد من رجال الدين في الاعتداء على النساء، ولم يبدِ رجال الشرطة أي اعتراض أو منع التعديات الجارية بحق المحتجات.

شنّ هجمات على النساء والاعتداء البالغ والسافر بحقهن، هو تطبيق عملي لصراع الإرادات بالعراق، ومفرداته القوة والبطش في مقابل الإذعان والاستجابة للوصاية الطائفية ببعدها السياسي العشائري العميق، وإدارة تلك المصالح بالحديد والنار، وبقدر ما يملك كل طرف قدرة هائلة في تحويل فائض القوة إلى وسيلة لقمع طائفته وتحويلها إلى كتل متجانسة من دون تمرّد أو أثارة قلق وعدم استقرار. 

ومهمة القانون ظاهرياً هو أن تضحي المرأة بمثابة كائن هش ضعيف ليس له قدرة على الانخراط السياسي أو الاجتماعي، ويتم تغييبه قسراً من المجال العام، لا ينافس السلطة الذكورية الطائفية في شيء. وفي حقيقة الأمر أن القانون استثمارٌ هائل عبر استعمال المرأة لغرض تكريس النظام الطائفي بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والمجتمعية. شرعنة جديدة لامتيازات طائفية تضم للنظام طبقة من رجال الدين تمارس انتفاعها البراغماتي باسم “الشريعة”، وتطوّق بعماماتها فرص الانفكاك من الوضع الطائفي إلى دولة مدنية متطورة، تؤمن بالمواطنة، وتتجاوز هذا الوضع الذي جعل العراق في بيت الطاعة الإيراني بدعاوى مذهبية وذلك بقدر ما ستصبح المرأة في بيت الطاعة للهيمنة الذكورية السلطوية بالدعاوى ذاتها.

ولهذا يرى التحالف المعارض للقانون أنه “انتهاك سافر للدستور والحقوق والحريات الواردة فيه، ويمثل تراجعاً عن الحقوق القانونية التي اكتسبتها المرأة”. و”يقود إلى انقسام مجتمعي طائفي ومذهبي”.

وبحسب سارة صنبر الباحثة في منظمة “هيومن رايتس ووتش”، فإن تفويض المؤسسات الدينية سلطة في تحديد مسائل الزواج والميراث، سوف يؤدي إلى “تقويض مبدأ المساواة بحسب القانون العراقي، بالتعامل مع المرأة على أنها أدنى من الرجل”. 

وتردف: “قد يضفي هذا التعديل شرعية على زواج الفتيات اللاتي لا تتجاوز أعمارهن تسع سنوات، ما يسرق مستقبل عدد لا يحصى منهن”، وقالت صنبر إن “الفتيات مكانهنّ في الملعب وفي المدرسة، وليس في فستان الزفاف”. وتقول إن التعديل “يعيد البلاد إلى الوراء”.

“صراع الإرادات”

وتحت وطأة الهجمات المتلاحقة من قوى مدنية، محلية وأممية، سعى رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني، إلى التهدئة والمناورة لتفويت الفرصة على الأطراف التي تبحث عن التصعيد وخرق النظام الطائفي، وكشف العوار في بنيته السياسية، أو خبيئة أهدافه، وقال في خطاب له أثناء مؤتمر مناهضة العنف ضد المرأة، مطلع الأسبوع، إن حكومته بها تمثيل نَسوي، بما يعني أن حقوق المرأة ليست مهضومة، وهنا ثلاث وزيرات وامرأتان بدرجة وكيل وزارة، فضلاً عن 111 امرأةً بدرجة مدير عام، و47 معاونة مدير عام. 

حتماً، تدفع النساء في ظل الأنظمة الشمولية وبخاصة الدينية الاستبدادية منها الثمن الأكثر فداحة لتكريس حكمها، وفرض هيمنتها، إذ يوضح تاريخ القرون الوسطى الذي سادت فيه نظرة متدنية عن المرأة وقد جرى تهميشها وإهمال أي دور لها، واعتبارها صنو الشيطان ووسيلة للمتعة والغواية.

وقال: “سعينا لتأسيس المجلسِ الأعلى لشؤون المرأة، ليكون بوابة تخطيطية وتنفيذية مباشرة، لكل القرارات المتعلقة بتنمية المرأة. هذا المجلس سيناقش قريباً في ورشة تخصصية كل الملاحظات التي أثيرت بشأن قانون الأحوالِ الشخصية”. موضحاً أن بلاده “تواجه تحديات في خفض نسبة الأمية بين النساء ونعمل على مكافحتها؛ إذ بلغت قبل سنتين 17 بالمئة”.

مناورة شياع السوداني للتهدئة هي لتقليل الصخب وإبداء عقلنة تسمح بتمرير القانون وفرضه كأمر واقع، وتفويت الفرصة على القوى المدنية حتى لا تكثف تحركاتها التعبوية التي ترقى إلى احتجاجات تماثل ما جرى في احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر عام 2019. فرئيس الحكومة الحالي قد جاء إلى المنصب بعد فوز كتلة مقتدى الصدر ووسط تحديات عديدة، غير أن ما جرى من مآلات فرضت القيادي بـ”الإطار التنسيقي” تعبر عن صراع الإرادات الذي سيحدد نتائج القانون، وسيكون المآل هو نفسه كما سبق وجرى مع السوداني، بمعنى تحقيق إرادة القوى المتنفذة سياسياً واجتماعياً وطائفياً، تلك التي تباشر دورها في تعميق الانقسام المذهبي لإيجاد بيئة مواتية لمصالحها في السلطة والحكم رغم سجلها الحقوقي سيء السمعة والفساد الذي يلاحقها، ووجه الطائفية المقيت الذي يلغي التنوع في العراق ويحوله إلى مشهد قائم على النزاع والعنف.

ولهذا برر “الإطار التنسيقي” الذي يضم مجموعة الأحزاب والفصائل الشيعية، أن “مشروع القانون ينظم أموراً تتعلق بالأحوال الخاصة بكل مذهب أو دين ولا يلغي القانون النافذ”، وقد تزامنت دعوته للتعديل مع مناقشته بالبرلمان قضايا منها الانسحاب الأميركي، مشيراً إلى أن “التعديل المزمع لقانون الأحوال الشخصية ينسجم مع الدستور الذي ينصّ على أن العراقيين أحرار في اختياراتهم، بما لا يتعارض مع ثوابت الشريعة وأسس الديمقراطية”.

عراقيون يحتجون في بغداد ضد قانون قد يسمح بتزويج القاصرات- “إ.ب.أ”

واصطفت الأحزاب الشيعية مع التعديلات بقانون الأحوال الشخصية، ومنها “حزب الدعوة” الذي يقوده نوري المالكي، وقال: “الحرية هي سمة أساسية من سمات العهد السياسي الجديد، حيث لم يشهد تاريخ العراق الحديث مثيلاً لها، وهي وليدة تضحيات سخية للعراقيين الأحرار من المكونات كافة”. 

وتابع: “تعديل قانون الأحوال الشخصية جاء ليرسخ حرية الإنسان العراقي بمنحه الحق في تنظيم أحواله الشخصية، وفقاً لما يعتقد؛ إذ إنها جزء رئيسي من الأحكام الشرعية الإسلامية لدى جميع المذاهب بلا استثناء، مثلها مثل أحكام العبادات التي يحرص الإنسان على إبراء ذمته بالالتزام بها، فضلاً عن أن تشريع هذا التعديل يتفق مع السياقات الدستورية والديمقراطية المعمول بها في البلد”. 

وطالب الحزب نواب “البرلمان” بضرورة “إنجاز هذا الاستحقاق، والمبادرة إلى تقديم التوضيحات السليمة حوله، بعيداً عن الدعايات المضادة التي تحمّل القانون شروحاً وأحكاماً لا علاقة له بها، بهدف خلط الأوراق وتشويش الرأي العام وخلق حالة مضادة لجهود تشريعه”. إذ قال النائب والقيادي بالحزب رائد المالكي، إن “أحكام المدونة الشرعية ستتضمن بابين؛ الأول للفقه الجعفري والآخر للفقه السني”. وأوضح أن “مقترح القانون يحافظ على وحدة السلطة القضائية ولا يخلق ازدواجاً في المحاكم، وستكون هناك فقط أحكام القانون 188 وأحكام المدونة، وستطبق المحاكم الحالية كليهما حسب اختيار الشخص عند إبرام عقد زواجه”.

ضحايا تطبيق الشريعة 

حتماً، تدفع النساء في ظل الأنظمة الشمولية وبخاصة الدينية الاستبدادية منها الثمن الأكثر فداحة لتكريس حكمها، وفرض هيمنتها، إذ يوضح تاريخ القرون الوسطى الذي سادت فيه نظرة متدنية عن المرأة وقد جرى تهميشها وإهمال أي دور لها، واعتبارها صنو الشيطان ووسيلة للمتعة والغواية، وفي واقعنا الراهن تتعدد الإحالات السياسية مثل نظام “طالبان” في أفغانستان والملالي في إيران. 

ولا تعد والحال هكذا العراق في وضع استثنائي بل هي تمد الخط على استقامته مع النماذج سالفة الذكر لتصبح دولة الحكم الطائفي، وسلطة تحمي امتيازات فئوية اجتماعية وسياسية بدعوى حماية القيم المذهبية المستمدة من شريعة رجال العمائم أصحاب الهوى والمزاج السياسي الأصولي. فالفتوى الدينية المسيّسة تطيل عمر الحكومات والأنظمة، لطالما شرعنت القتل للخصوم والمعارضة بدعوى “الكفر” و”المروق” و” الإفساد في الأرض”. 

وفي الدائرة الطائفية المتشددة ثمة نماذج عديدة من القتل والتصفية الجسدية بعد عمليات تحريض بأساس دعوي مشبوه، كما حدث مع رهام يعقوب الناشطة العراقية بعد اتهامها بالعمالة لحساب القنصلية الأميركية وهو نفسه كاتم الصوت الذي قضى بسببه آخرون لم يكن آخرهم لقمان سليم في لبنان من القوى الطائفية ذاتها التي تطوق سوريا ولبنان والعراق واليمن.

وبحسب المفكر العراقي رشيد الخيون، فإن عندما تُعلن الأنظمة، تحت هيمنة القوى الدينية المسيسة، تطبيق الشريعة، تكون أول ضحاياها النساء، من سن زواجهنَّ وطلاقهنَّ، نشوزهنَّ، حضانة أولادهنَّ، الاستمتاع بهنَّ، ناهيك عما يقع عليهنَّ من جرائم الشّرف، وأنظمة لا ترى حتى تعليمهنَّ. برزت في العراق بدايةً (9/4/2003) الدَّعواتُ إلى الحجاب، بقهر طالبات الجامعة، واغتيلت واختطفت كثيرات، وبعد مئة عام عادت معارك “السُّفوريين والحجابيين”، التي جرت في عشرينيات القرن الماضي عبر المقالات والقصائد، وانطلق سهم الزمن إلى الأمام، فالمرأة حرّةٌ في رأسها وعقلها، تغطيه أم تكشفه، لكن بعد 100 عام توحش الخطاب.

وفي مقال عنونه بـ”الأحوال الشخصية في العراق.. 100 عام إلى الوراء” في مركز “الاتحاد” للأخبار، ألحّ على أن القوى الدينية لا تملّ من استغلال ما تعتبره “ديمقراطية الأكثرية”، من أجل فرض تشريعاتها على المجتمع، وآخر ذلك لائحة قدمتها (24/7/2024) لإلغاء المادة (57) من قانون الأحوال الشخصية، الخاصة بالحضانة، بجعل المحاكم المدنية مجرد مكاتب للتنفيذ، والأمر والنَّهي للوقفين الشيعي والسني، فصارا ليسا لإدارة أمور العبادة، مساجد وحسينيات وعتبات، وإنما أخذَا مكان الدولة. محذراً من مغبة تدوير عجلات الزمن للوراء وقال: “مَن لم يتأثر بالزمن، يعش خارجه، فإرجاع الناس إلى مذاهبهم، تفكيك اجتماعي وطني، بعذر عدم التعارض مع الإسلام. هل أراد الإسلام غير مصالح العباد؟ وهل تزويج الصغيرات، وقضم حضانة الأم، من المصالح؟ وهل مادة قتل النساء غسلاً للعار (409)، التي بحت الحناجر لإلغائها، هي نصرةٌ للإسلام؟ وهل تفتيت المجتمع بالقانون من الإسلام؟ ومع ذلك يعدون هذا إصلاحاً”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات