تزعم الجماعات الجهادية أنها “يد الله” في الأرض وأنها تنطلق من القرآن وتعاليمه، وأن أفعالها أومر إلهيةٌ غير قابلةٍ للنقاش الإنساني، وأنها في حالة تماهٍ تامةٍ مع الله. وتقدم نفسها بوصفها حارسة العقيدة والموكلة بنشرها في الأرض، ومن خلال خطابهم فإنه يجئ عادة بصيغة الأمر الإلهي (قتل فلان بأمر الله، قتل عدو الله..)، ومطعماً عادة بآيات قرآنية وأحاديث نبوية، لتقدم هذا الفعل بوصفه فعلاً ربانياً تم فقط على يدهم.
وهذا الزعم يطرح التساؤل حول ما إذا كانت هذه الجماعات تتحرك حسب النص الذي تزعم أنه تنطلق منه، أم أنها تستهلكه لغاياتها السياسية؟ والدين حسب ما يذكر المفكر المصري نصر حامد أبو زيد إذا دخل في مجال السياسة أضحى وقوداً يحترق لتسير به القاطرة السياسية، فهل كان النص هكذا بالنسبة للجماعات الجهادية؟
الجماعات الجهادية.. النص أم الواقع؟
إن النص في ذاته أي نص لا يملك أي سلطة، إلا السلطة المعرفية، التي يُسهم أفق القارئ وواقعه بنصيب وافر في بنائها؛ فالنص إذا قرأه عقل منفتح أصبح نصاً منفتحاً يحمل العديد من العلاقات والدلالات، أما إذا قرأه عقل ضيق كان النص ضيقاً مغلقاً ينطق بما ينطق به العقل؛ فالعقل المغلق يرى أفكاره يقينية لا تقبل المناقشة، بل إن الأمر يصل الى عَدّ أفكاره في حالة تطابق مع النص، ومن ثم تكون ذات طابع إلهي، يمثل تجاوزه كفراً مباحاً، وهو الممثل عن الذات الإلهية.
لا ريب في أن الواقع يمثل السلطة التي من خلالها يتم صياغة المفردات والمفاهيم المكونة لبنية النص (أي نص) والخطاب، ويرى نصر أبو زيد، أن الواقع يساهم بدور كبير في عملية إعادة قراءة النص وتأويله؛ فالواقع له دور في فرض مفردات الخطاب- حيث إنه يفرض مفرداته التي تكون مفهومة بالنسبة إليه- وله سلطان لا يمكن إغفاله في العملية التأويلية؛ وعليه يعد من القصور الفكري اليوم، الحديث عن كون العنف نبتا دينياً؛ نابعاً من النصوص، أو مختصاً بدين معين، أو فئة معينة؛ لأنه يعبر عن منظور فكري أحادي الجانب والرؤية. فتاريخ العنف أسبق من ظهور المعتقدات الدينية والاجتماعية، ويقدم ((رفائيل ليمكين Raphael Lamkin)) رؤية للتاريخ الإنساني، مفادها أن الإبادة بين الجماعات، وجرائم القتل الفردية قد حدثت في الماضي، وتستمر في الحدوث، تحت مسميات عدة أكثرها قناعة وسمّوا المسميات الدينية كالحرب المقدسة، ونصرة الدين، ومعارك في سبيل الإله… إلخ.
ويمثل العنف موقف اجتماعي يقف وراءه اعتبارات سياسية، واجتماعية، ونفسية، مما يعني أنها ظاهرة أنثروبولوجية كونية، لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات، وإن كان لكل نمط اجتماعي خصوصيته، ولا ينفي هذا أن المجتمع بما هو مجتمع يمثل نظاماً من اللامساواة والظلم؛ بيد أن الدين عادة ما استخدمه لتبرير العنف، فبالعمل بالمنهج الأركيولوجي للتاريخ الإنساني، نصل إلى نتائج مفادها أن جميع الديانات تم استخدامها لتبرير العنف في فترة ما من فترات التاريخ.
وإذا كانت هذه الجماعات تعمل جميعها بموجب القرآن، فكيف تكفر كل جماعة الأخرى بالنص عينه؟ فعلى لسان “أبو الليث المصري” جاءت إدانة زعيم تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري، مبرراً ذلك بأن أفكاره باتت تتفق مع المشروع العلماني، في كتابهم” الرد القاصف على شيوخ القاعدة الخوالف” وصفه تنظيم “داعش” بالمرتد قائلين: “لا زال المرتد الظواهري في غيه ضلالاته”.
الواقع المهزوم والذات المتخيلة
في حال الوضع الإسلامي، يعاني البعد الاجتماعي من الانهزام والتأخر تجاه الحالات الاجتماعية التي يعيشها العالم من حوله، ويظهر هذا في محاولة التقليد والتشبه بالمجتمعات الغربية الطاغية على المجتمع العربي/ الإسلامي، التي تنم عن الانبهار بالمجتمعات الغربية. أما على الصعيد السياسي، فالعالم الإسلامي عاجز عن الندية للعالم الغربي، ويعرف من الانسحاب والإقصاء أكثر مما يعرف من المشاركة. وتفضي حالة الانهزام العامة التي يعانيها المجتمع الإسلامي، والعجز عن تحقق الذات (بما هي منجز بشري يضفي المعنى على الحياة) إلى رفض الراهن، فكينونة الذات المسلمة ليست في الراهن، فهؤلاء لا يمثلون المسلمين ولا الإسلام، ولكن الذات متمثلة في الماضي، وعلينا فرضها وعودتها من جديد.
زعمت تيارات الإسلام السياسي أن ميل الدولة نحو التحديث وطرح الحكم السياسي الدنيوي يمثل هزيمة للإسلام بوصفه ديناً ونظاماً للحياة.
وتقدم التيارات المتطرفة والعنيفة نفسها بوصفها تمثل العودة إلى الدين المفتقد داخل خضم الحياة العامة، ومن ثم إلى قيم العدالة الغائبة داخل المجتمع. وأن التشدد ما هو إلا غلو في العقيدة، وهذا أمر غير معيب ومستحسن داخل المتخيل الإسلامي؛ مما يسر عملية تعمقها وانتشارها داخل المجتمع الإسلامي، فضلاً عن عمليات الإقصاء السياسية التي تمارسها النظم الحاكمة (تحت مسميات عدة وبطرائق مختلفة) التي جعلت من الجماعات الإسلامية ملاذاً للفئات المستبعدة داخل الحياة الاجتماعية والسياسية.
ولكن يظل التساؤل عن فترة تحقق الذات الإسلامية ومن ثم تطبيقها، وتأتي الإجابات مشتتة بين الخلافة العثمانية، وأوهام الريادة، حيث كان عدد العلماء يساوي صفراً، وعصر الخلفاء الطوباوي؛ أي ما قبل الدولة وبناء الحضارة، فالمتخيل الإسلامي يميل إلى تاريخ منتقى، متخيل، خالٍ من النزعات الإنسانية، والانحيازات البشرية الطبيعية، فالذات الإسلامية – في نظر العقل السلفي- تحققت في تاريخ شطبت منه كل المشاهد التي قتل فيها الصحابة بعضهم، وقتل فيها مبشرون بالجنة مبشرين آخرين، وخلفاء قتلوا خلفاء، يريدون تاريخاً متخيلاً، يريدون ذاتاً متخيلة.
الجماعات المالكة للإسلام
ترى الجماعات الجهادية أنها مالكة الإسلام وحق قيادة الآخر للاعتقاد، أو قتله، وبما أنها مالكة للإسلام فلها حق إضفاء الشرعية على المنجزات الفكرية، والعلمية، والسياسية، والأخلاقية والتاريخية… ويمكننا القول بما أنها تتحدث باسم الذات الإلهية، فإن لها الحق لإضفاء الشرعية على كل المنجزات البشرية، أو سحبها منها، ومن ثم تكون هي الأجدر بالوصاية على العالم وتسعى إلى تغيير العالم وفرض رؤيتها على كافة الأصعدة.
يرى الشيخ يوسف القرضاوي وهو أحد المنظرين للجماعات المتطرفة والإرهابية أننا نعيش جاهلية أخرى، سادها الطغيان على السلطان الإلهي، كما سادها العمار المادي والخراب الإنساني، وحكم الله تجاه هذه المجتمعات وفقاً لزعمه، هي مجتمعات كافرة لتعميرهم الأرض وتخريب الإنسان؛ لهذا أخذها الله أخذ عزيز مقتدر؛ ومن ثم فنحن في حاجة للدعوة بالعودة إلى الإسلام.
ويقدم القرضاوي الحل الإسلامي بوصفه الحل الطبيعي الذي تفرضه قوانين الطبيعة في مقابل الحلول الأخرى المصطنعة! ولا يقف هذا الحل عند حدود المشكلات التي يعاني منها المجتمع العربي والإسلامي، ولكنها تمثل حلولاً لما تعانيه البشرية من عبثية وتخبط وضياع؛ وذلك لأنها نابعة من مصدر إلهي كما يدعي القرضاوي ومن قبله قطب؛ ومن ثم يكون لدعاة الأصولية وتيارات الإسلام السياسي الريادة العالمية، وفقا لما يعطونه لأنفسهم من حق الوصاية على العقل البشري، بحسب كتاب ليوسف القرضاوي بعنوان “الإسلام حضارة الغد”، ص 149.
وزعمت تيارات الإسلام السياسي أن ميل الدولة نحو التحديث وطرح الحكم السياسي الدنيوي يمثل هزيمة للإسلام بوصفه ديناً ونظاماً للحياة، وظهرت حركات إسلامية عديدة تسعى للعودة بالإسلام إلى قيادة المجتمع، وأضحت كل جماعة من جماعات الإسلام السياسي مع تعذر صعودها للسلطة تأخذ على نفسها مهمة حراسة الدين، وتطرح نفسها بوصفها وكيلاً حصرياً لله وللسلف، ومن ثم مراقبة المجتمع وزجره، انطلاقا من العصمة التي يتمتع بها الله والسلف، ومن ثم يكون المنتسب إليه والسائر على خطاه يتمتع بهذه العصمة، وبالتالي له حق حراسة العقيدة وقيادة المجتمع.
وتفضي القراءة السابقة لفكر الجماعات الجهادية وأصل العنف بأن العنف عادة فعل سياسي؛ بيد أن فاعليه يلبسونه رداء الدين، فالحديث ليس عن قضية دينية أو عقائدية بقدر ما هو سعي نحو السلطة والتحكم في مصائر البشر، كما أن النص في ذاته –أي نص- في حالة عجز عن توجيه العامل البشري بقدر الواقع الذي يعيشه ولا يمكنه تجاهله، فمهما أعلنت الجماعات انطلاقها من النص لا يعني هذا أبداً أن النص هو العامل الرئيس والمحرك لها.
- الفن وفوبيا الدين في مصر: ما دور “الإخوان”؟
- قضايا احتيال تطاول نائب وزير الدفاع الروسي السابق.. هؤلاء أبرز جنرالات بوتين الفاسدين
- نضال الأحمدية: مافي سوريا وشعبها ما عندو شي وبيسرق!
- التطبيع بين دمشق وأنقرة: طريق وعر أمام أردوغان في ظل تريث الأسد
- تصدع بين الجناحين السلالي والقبلي في جماعة “الحوثي”.. ما علاقة الرزامي؟
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.