مرة جديدة، باغت أحد قيادات جماعة “الإخوان” المصنفة على قوائم الإرهاب في مصر وعدد من البلدان العربية، بوجود مبادرة بشأن “التسوية” على حد تعبيره، والتي يتم تداولها في الإعلام بـ”حديث المصالحة” مع النظام المصري. 

مبادرة القيادي بالجماعة الإسلاموية، حلمي الجزار، على قناة “بي بي سي عربية“، ليست الأولى من نوعها، كما يمكن وصفها بـ”الموسمية” وقد رصد مراقبون وصول عدد المبادرات لنحو المئة. الرقم الذي يحمل مبالغة واضحة، ويكشف عن رغبة محمومة من الجماعة لإيجاد وسيلة بهدف حل المعضلة والأزمة التي طاولتهم في مصر، سياسيا وتنظيميا وحتى على المستوى الشعبي. 

وهي موسمية لكونها تتزامن في توقيتات لافتة لإعطاء تصورات مزعومة عن سياق تتعين فيه نداءات “الإخوان المسلمين” بالعودة للمشهد السياسي، ووجود تفاهمات من وراء ذلك، مثل زيارة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي إلى تركيا، واحتمالية أن تكون ثمة وساطة من الأخيرة لذلك، وقد كان لهذا مماثل عام 2021، مع مبادرة أو “حوار” طالب بها قادة آخرون بوساطة تركية وقطرية وفي ظل سياق مختلف انتهازي وهو وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، والاعتقاد بأن النظام في مصر قد يرضخ مع وصول الديمقراطيين بواشنطن إذعانا لبعض الضغوط التي قد يشكلها الأخير على القاهرة.

غير أن المبادرات الإخوانية كافة، تعاطت معها القاهرة بتجاهل شديد، مرة، وحذر ودقة واضحين، مرة أخرى. فرغم محاولات حلمي الجزار أن تكون مقاربته سياسية، ويقدم تطمينات عدة بشكل مباشر وغير مباشر سواء للنظام في مصر أو الأطراف الخارجية والمجتمع الدولي، فضلا عن القوى السياسية المدنية، إلا أن السوابق التاريخية ما تزال تفضح أكاذيب “الإخوان” في مرحلة “الاستضعاف” والتي تختلف في لحظة “التمكين” التي تتحول فيها مواقفهم من المشاركة بالسياسة إلى المغالبة والانفراد بكل شيء، واعتباره استحقاقا لا ينازعهم فيه أحد. 

“الإخوان” يتملصون من جرائمهم

لم يتمكن الجزار وغيره من تبديد تاريخ صعود الجماعة في الحكم بمصر في سنة مشؤومة، مارسوا فيها الجمع وتشكيل ميلشيات لتهديد المدنيين وخصومهم والاعتداء على المحتجين السياسيين، الأمر الذي وصل ذروته مع اعتصام “رابعة العدوية” المسلح، حيث إن وفرة السلاح في يد المعتصمين وجذب قادة وأفراد الجماعات الإسلاموية المتشددة، والتهديد باستدعاء آخرين من تنظيمات “القاعدة” و”داعش”، يفضح الارتباطات الخارجية للجماعة والاستقواء بهؤلاء ضد كل من يهدد استحقاقاتهم السياسية حتى لو نتج عن ذلك ضحايا من المدنيين والعسكريين في جهاز الدولة الأمني.

حلمي الجزار رئيس القسم السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في مصر- “بي بي سي عربية”

ورغم نفي الجزار في إطار طرح تسويته أو المصالحة السياسية في مصر أن تكون الجماعة متورطة في أعمال عنف وذلك في معرض إجابته عن سؤال بشأن ما جرى في “رابعة العدوية”، إلا أن الوثائق المصورة ومقاطع الفيديو ما تزال تفضح اضطلاع “الإخوان” بالعنف، كما أن إجابته الفضفاضة ذهبت بعيدا عن طبيعة السؤال المحدد بشأن واقعة الاعتصام قبل نحو عقد تقريبا، واتجه إلى أن تاريخ الجماعة ليس فيه أي حمولة عنف. 

وجانب الوثائق التاريخية التي تؤكد وجود رديف تنظيمي معني فقط بالاغتيالات والعنف المسلح المعرف بـ”الجهاز السري/ التنظيم الخاص”، فإن القيادي بجماعة “الإخوان” محمد البلتاجي لم يتردد في مقطع فيديو مسجل أن يقول على منصة رابعة أو بالأحرى يهدد بأن “ما يجري في سيناء ردا على هذا الانقلاب العسكري سيتوقف في الثانية التي يعلن فيها عبد الفتاح السيسي أنه تراجع عن الانقلاب ورده لأهله والرئيس يعود لسلطاته”. 

وكان يقصد التفجيرات والهجمات المسلحة على كمائن الجيش وخط الغاز الطبيعي بواسطة ما يعرف بـ”ولاية سيناء” التابع لتنظيم “داعش”، والتي نجح الجيش المصري في القضاء عليه واستأصل شأفته تماما.

وعلى هذا، فإن حديث المصالحة لجماعة “الإخوان”، يواجه عدة معضلات، سياسية وقانونية واجتماعية وأمنية. فمن الناحية السياسية، فإن المشهد السياسي بمصر ولدى القوى المدنية ما تزال ترفض عودتهم، بينما لا ترى في سجنائهم معتقلين سياسيين أو محبوسين على ذمة قضايا رأي إنما هم بمثابة موقوفين جنائيين نظرا لطبيعة الاتهامات والجرائم المتورطين فيها، وهي أعمال عنف، وقد سبق للقوى السياسية أن عبرت عن مواقفها لجريدة “الأهرام” الرسمية بمصر، ووصفوا المصالحة بـ”مضيعة للوقت”. 

ومن الناحية القانونية، فإن توفيق أوضاع الجماعة يبدو صعبا ومعقدا بل مستحيلا في ظل تصنيفهم كجماعة إخوانية، بالتالي، لا يمكن توفير مشروعية لعملهم الاجتماعي أو الخيري والتنموي التقليدي ناهيك عن السياسي.

تآكل حواضن “الإخوان”

كما أن حواضن الجماعة تبدو متآكلة وتعاني من التفكك، في ظل ما بعثت به تجربة الحكم من إحباطات عديدة، منها فشل وعودهم الانتخابية في تحقيق الرفاه الاجتماعي أو العدالة. ناهيك عن قطاعات ليست بالقليلة من المجتمع المصري نبذت “الإخوان” مع تورطهم بالعنف وتعمدهم بالدماء خاصة في صفوف المدنيين والجيش.

ضمن ما يمكن اعتباره رسائل تطمين، زعم حلمي الجزار أن الجماعة ستتوقف عن العمل السياسي لمدة 15 عاما، وهو ما يصطدم بسوابق لهم أكدوا فيها مثلا عدم مشاركتهم في الانتخابات عقب “الربيع العربي” ثم انخرطوا فيها.

وقد رد الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، قبل أعوام، تحديدا 2017 في مقابلة مع قناة “فرانس 24” بخصوص إمكانية تحقق هذه المبادرات، وقال: “الإجابة عند الشعب المصري مش عندي أنا، الشعب المصري في حالة غضب شديد، ويجب على الآخرين وضع ذلك في الاعتبار”. وبعدها بعام تقريبا أكد السيسي في حوار مع صحيفة كويتية على الأمر ذاته، نافيا أن يجد “الإخوان” أي ممر أو جيب للعودة خلال فترة حكمه ووجوده بالسلطة، مؤكدا رفض المجتمع لهم “لأن فكر الإخوان غير قابل للحياة ويتصادم معها”. وعام 2020، ذكر في ندوة تثقيفية بالقوات المسلحة: “لا تصالح مع من يريدون هدم مصر، ومع من يؤذي شعب مصر”.

ومن الناحية التنظيمية، فإن الجماعة لم تعد قسما تنظيميا متجانسا إنما تعاني في ظل شتاتها من انقسام واضح، والمعروف بـ”جبهة إسطنبول” و”جبهة لندن”. بالتالي، فإن قواعد الجماعة متفرقة بين الجماعتين وربما هناك تمردات عديدة، نظرا لوجود مواقف متباينة بعضها لا يرغب بالمصالحة ويرى أن الحكم يتعين عودة للإخوان وتصحيح المسار الانقلابي الذي حدث!. 

ويبقى السؤال حول أي كتلة تنظيمية للجماعة تسعى لتوفيق أوضاعها وتسوية موقفها مع مصر، وما رد فعل الكتلة الأخرى، فضلا عن ردود فعل القواعد واستجابتهم. وبعد الوصول لأجوبة حول تلك الأسئلة الصعبة التي تحدد مآلات الجماعة الإسلاموية، تبقى محاولاتها شاقة لجهة تبديد مخاوف المجتمع المدني في مصر.

ليست المرة الأولى وربما لن تكون الأخيرة التي تسعى فيها إحدى كتل الجماعة الهاربة بالخارج البحث عن حل لأزمتها- “أ ف ب”

ولذلك، فإن حلمي الجزار حاول الالتفاف على السؤال بشأن الانقسام التنظيمي كما اتهام “الإخوان” بالعنف، وقال إنه مجرد “خلاف على تفسير اللوائح الإدارية” و”في طريقه للانحسار”. وتابع: “لا يوجد تنافس حقيقي ولا مساواة بين مجموعة فلان أو علان، وهم كلهم بالمناسبة لا يختلفون في المبدأ ولا في المنهج الذي هو منهج الإسلام الصحيح”. 

الادعاء بالتوقف عن العمل

وضمن ما يمكن اعتباره رسائل تطمين، زعم الجزار أن الجماعة ستتوقف عن العمل السياسي لمدة 15 عاما، وهو ما يصطدم بسوابق لهم أكدوا فيها مثلا عدم مشاركتهم في الانتخابات عقب “الربيع العربي” ثم انخرطوا فيها، وزعموا أنها فقط ستكون مشاركة حتى تحولت إلى مغالبة وصعدوا بتحالفات مشبوهة لتحقيق أغلبية ومن دون مشاركة قوى المجتمع المدني أو فتح حوار مهم، بل عمدوا إلى تهميشهم.

ذلك أن الجماعة في مرحلة ما بعد “الربيع العربي” تسلل إليهم شعور قوى بـ”التمكين”، ما جعل إغراءات السلطة والوصول للحكم تداعب خيالاتهم ويكون الهدف فقط هو القفز لتحقيق الحلم القديم في السلطة. وبخلاف مرحلة الاستضعاف التي يلجأ فيها “الإخوان” إلى الاعتدال والحديث السياسي وطلب الانخراط الديمقراطي التعددي مع باقي القوى، ففي مرحلة القوى والتمكين، يصعد خطاب “لإخوان” كما في أدبياتهم والتي يعترف بأن “لا حزبية في الإسلام”، وأن “الإسلام هو دين الوحدة في كل شيء، فضلا عن أن الأمة الواحدة والشعب الواحد لا يقر نظام الحزبية ولا يرضاه”.

كما يقول المرشد المؤسس حسن البنا، وهو يطرح مقاربة شمولية للإسلام لا تسمح للآخرين بالانخراط في المجال العام بعيدا عن الإسلام السياسي وبالنسخة التي يتم إقرارها في أدبياتهم على طريقة “الولي الفقيه” في إيران والذي يهمش حتى الأطراف الإسلاموية التي تتخذ مواقف مغايرة عن أفهامهم ورؤاهم النظرية في الفقه والسياسة.

في المحصلة، ليست المرة الأولى وربما لن تكون الأخيرة التي تسعى فيها إحدى كتل الجماعة الهاربة بالخارج البحث عن حل لأزمتها، وتقديم تنازلات من عينة “عدم المنافسة على السلطة”، والتخلي عن السياسة لنحو 15 عاما، والتأكيد على أن “الإخوان” هم “جزء أصيل من الشعب المصري تدافع عن حقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في كل ميدان، ولا تتخلى عنه كواجب شرعي ووطني”، وفي مقابل ذلك المطالبة بـ”العفو عنها مقابل تخليها عن العمل السياسي تماما وإطلاق سراح المعتقلين من عناصر الجماعة بالسجون المصرية”. غير أن التحديات تعيق الوصول للنتيجة في نهاية المطاف، وتباعد بين أي إمكانيات أو احتمالات قريبة للتسوية والمصالحة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات