في الأعوام التي أعقبت سقوط نظام البعث بالعراق، ظلت البلاد تشهد حالة من التفلت السياسي والأمني، بينما دخل لاعبون، منهم النظام الإيراني، ليبحث في هذا الفراغ وسقوط الدولة التي جعلها صدام حسين متمثلة في جهازه الحزبي، ولم تكن هناك بدائل سياسية بل بدائل طائفية مريرة. 

وفي هذه البيئة المتشجنة نتيجة العامل الطائفي والمذهبي المشحون بالاستقطاب والتاريخ الدموي، بدا وكأن الإسلام السياسي، بشقيه السني والشيعي، يملك حواضن عديدة، وفي مواجهة بعضهما البعض وأصابع كل طرف على الزناد. 

ولم يتلاشى هذا المشهد الذي بلغ ذروته في ظهور “دولة الخلافة” المزعومة لتنظيم “داعش” الإرهابي، رغم هزيمة الأخير، وهيمنة الميلشيات الشيعية التابعة لإيران وهي من قوى الأمر الواقع التي تتمفصل سياسيا وأمنيا ببغداد. فبين الحين والآخر تظهر خلايا التنظيم الإرهابي في جيوب عديدة داخل العراق، وتعلن الأجهزة الأمنية القضاء على بعض العناصر والقيادات الخطيرة.

واشنطن.. ضرورة البقاء لعدم عودة “داعش”

ومع هذا، تشكل القوى الولائية في العراق ضغوط عديدة لجهة إخراج “قوات التحالف” رغم وجودها الاستشاري لمواجهة الإرهاب، غير أن طهران ومن خلال ممثليها السياسيين بالبرلمان والحكومة والأجهزة الأمنية، تواصل حملاتها الدعائية فضلا عن هجماتها الميدانية التي تطاول الأرتال العسكرية والقواعد الأميركية لإرغام واشنطن على الانسحاب.

تبدو إدارة عدة أطراف داخل العراق لمسألة الانسحاب الأميركي كونها ورقة ضغط، تقودها طهران من خلال أذرعها في مواجهة واشنطن- “وكالات”

وحديث الانسحاب من العراق تعتريه التباسات عديدة حيث يخضع وفق رؤى القوى الميلشياوية المدعومة من “الحرس الثوري” الإيراني إلى مبدأ الخروج النهائي والتام من الأراضي العراقية، بينما لا يتم تحديد طبيعة أو ماهية الخروج والاتفاقات الجارية حوله، حيث إن الحوار الاستراتيجي الذي بدأ بين بغداد وواشنطن في فترة حكومة مصطفى الكاظمي، كان قد أسفر عن إنهاء المهام القتالية مع الاحتفاظ بالقواعد الأميركية باعتبارها قواعد عراقية وتخضع للقانون العراقي للاضطلاع بمسؤولياتها التشاركية في حرب ضد “داعش”. فضلا عن نقل المعدات العسكرية من عربات ومدرعات وغيرها لملكية الجيش العراقي.

وكان قرار الانسحاب قد اتُخذ في عهد الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، غير أن ثمة انقساما بين وزارة الخارجية و”البيت الأبيض” من جهة، اللذين يؤيدان سحب جميع القوات القتالية من العراق، ووزارة الدفاع، وكبار القادة العسكريين من جهة ثانية، الذين يرون ضرورة الإبقاء على ما يكفي من القوات الأميركية في قاعدتي “عين الأسد” في الأنبار، و”مطار أربيل الدولي” في أربيل، لمواجهة المتغيرات، وتنامي نشاطات تنظيم “داعش”، لا سيما أن قاعدة “عين الأسد” تعد قاعدة استراتيجية للولايات المتحدة، لما فيها من تسهيلات عسكرية متقدمة، يمكن استخدامها كبديل استراتيجي للقواعد، التي انسحبت منها، مؤخرا، في قطر وأفغانستان.

وقد انسحب الجيش الأميركي من قاعدة “باغرام” الجوية في أفغانستان، وأغلق كلا من معسكر “السيلية” الرئيسي في قطر تموز/ يوليو عام 2021، ومعسكر السيلية الجنوبي، ونقطة إمداد بالذخيرة تسمى “فالكون”، وقد قلصت الولايات المتحدة عديد جنودها عند تشكيل “التحالف الدولي” في عام 2014 من 5200 إلى نحو 2500 جندي، ومدرب، ومستشار، ولا يزالون في العراق، ضمن مهمة “التحالف الدولي” المكلفة بالحرب على تنظيم “داعش” الإرهابي وستنتهي هذه المهمة، بنهاية العام، وتتحول إلى مهام التدريب والاستشارة، حسبما يوضح الباحث العراقي مهند العزاوي في دراسته المعنونة بـ” الانسحاب الأميركي وتعقيدات الواقع العراقي” بمركز “تريندز” للبحوث والاستشارات.

من ثم، تبدو إدارة عدة أطراف داخل العراق لمسألة الانسحاب الأميركي كونها ورقة ضغط، تقودها طهران من خلال أذرعها في مواجهة واشنطن. حيث إن هذا الوجود الأميركي عمليا لا يتخطى في تلك الفترة الجانب الاستشاري في المسائل الاستخبارية والدعم اللوجيستي والتدريب لمواجهة تنظيم “داعش” الإرهابي. 

استمرار هجمات “داعش”

كما أن الحسابات المتعلقة بالانسحاب الأميركي هي سياسية، لافتا إلى أن رفع وتيرة استعمال تلك الورقة يجيء في لحظات تفاقم الأزمات بين طهران وواشنطن، سواء في مرحلة الاتفاق النووي أو مع اندلاع حرب غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي. فما تزال المخابرات العراقية تكشف عن عمليات تعقبها لقادة “داعش”، وهي تتم بجهود القوات الأميركية، فمؤخرا نجح الجهاز في قتل ستة أفراد، منهم قادة بالتنظيم الإرهابي، بواسطة طائرات “إف16” في محافظة كركوك، شمال بغداد.

وفي بيان يوم أمس الخميس للمخابرات العراقية، أوضح أنه “بجهد فني ومراقبة وتخطيط (خلية الاستهداف) في (قيادة العمليات المشتركة)، نفذ صقور الجو بواسطة طائرات (إف16) 3 ضربات موجعة، أسفرت عن قتل مفرزة إرهابية تتكون من 6 عناصر من (داعش)”.

ليس ثمة شك أن الوضع في العراق بحاجة قصوى وملحة إلى عدم الذهاب في فراغ أمني، كما سبق وحدث في أفغانستان وعدة مناطق بإفريقيا تحديدا الساحل وغرب إفريقيا، حيث إن خروج أميركا وفرنسا من عدة مناطق رافقه صعود “داعش” على نحو أقوى، فضلا عن جماعات جهادية أخرى.

وأوضح البيان أن القوات العراقية نفذت بعد الضربة الجوية “عملية مداهمة وتفتيش للمكان المستهدف، وتم العثور على جثث الإرهابيين، وعدد من الأحزمة الناسفة والأسلحة والمعدات الفنية وهواتف مختلفة كانت تُستخدم من قبلهم”. وقال: “جهاز المخابرات الوطني العراقي نفذ هذه العملية بعمل استخباري دقيق بعد سلسلة عمليات نوعية كسرت ظهر الإرهاب وقتلت قياداته”.

كما أشار إلى أن “المتابعة الاستخبارية لمدة شهرين أسفرت عن مقتل كل من: الإرهابي عمر صلاح نعمة المكنى (أبو خطاب) أحد أخطر قيادات (داعش) وآمر ما يسمى قاطع البو حمدان في (ولاية كركوك)، والإرهابي عثمان أبو عبد، وكذلك الإرهابي عز الدين هشام”. 

ولا تعد العملية الأخيرة هي الأولى من نوعها، ففي آب/ أغسطس الماضي، نجح الجهاز ذاته بالتنسيق والتعاون مع قوات “التحالف الدولي” في القضاء على ستة من قادة التنظيم الإرهابي بمحافظة الأنباء، وهي العمليات التي تصفها الحكومة العراقية بـ”تنظيف حواضن داعش”، وقد تزامن معها توقيف عنصر إرهابي بالتنظيم مختص بعمليات تفخيخ السيارات.

نجح جهاز الأمن العراقي بالتنسيق والتعاون مع قوات “التحالف الدولي” في القضاء على ستة من قادة ا”لتنظيم الإرهابي بمحافظة الأنباء”داعش”- “إنترنت”

وقبل نحو أسبوع، تبدو عمليات مواجهة “داعش” مكثفة في العراق لا سيما أن تقارير أميركية تكشف عن تضاعف عمليات التنظيم الإرهابي، واستمرار تهديداته المحلية والخارجية، وقد جاءت عملية “وثبة الأسود” للجيش الجمعة الماضية، في صحراء الأنبار لتكشف عن دور قوات التحالف “الإسنادي” في مجابهة الإرهابي، وفق ما عبر عنه بيان الجيش، والذي قال إن العملية انطلقت “لاستهداف مقرات ومضافات قيادات داعش الإرهابية، وتبعتها ثلاث عمليات برية وإنزال للقوات المحمولة جوا بتخطيط وإشراف قيادة العمليات المشتركة… وبإسناد من القوة الجوية وطيران الجيش والجهد الفني لمستشاري التحالف الدولي”.

وأوضح أن “جميع العمليات أسفرت عن نتائج مهمة وكبيرة، وقتل معظم قيادات عصابات داعش الإرهابية من مستوى الخط الأول، والاستيلاء على أسلحة ومعاداة ومواد لوجستية وفنية وحواسيب وهواتف، وتفجير أكثر من 10 أحزمة ناسفة، وعدد من العبوات والمتفجرات تحت السيطرة، وتدمير وحرق 7 عجلات مختلفة كانت تستخدم من قبل قيادات داعش الإرهابية”. 

وأكد أن العملية تمت “… في سلسلة من الاجتماعات الأمنية لمطاردة قيادات داعش الإرهابية المنهزمة، وعلى ضوء معلومات استخبارية دقيقة وعمل فني وميداني مستمر من جهاز المخابرات الوطني العراقي، وبإسناد فني ولوجستي وتبادل للمعلومات الاستخبارية من قبل مستشاري التحالف الدولي، وبتنسيق ومتابعة من قيادة العمليات المشتركة”.

وبحسب قيادة العمليات المشتركة فإنه “بعد إجراء فحص DNA على 14 جثة لقتلى داعش الإرهابي خلال هذه العمليات، تم التعرف على القيادات الإرهابية المجرمة، وهم كلا من: الإرهابي أبو صديق أو أبو مسلم واسمه الحقيقي: أحمد حامد حسين عبدالجليل زوين – نائب والي العراق، والإرهابي منصور أبو علي التونسي واسمه الحقيقي: عمر بن سويح بن سالم قارة ما يسمى أمير التصنيع والتطوير والملف الكيميائي، والإرهابي أبو همام واسمه الحقيقي: سعد محمد ناصر ما يسمى والي الأنبار، والمجرم الإرهابي شاكر هراط النجدي ما يسمى المسؤول العسكري لداعش في الأنبار، والإرهابي أبو عبد حنوب أو أبو عبدالرحمن واسمه الحقيقي: معمر مهدي خلف حسين ما يسمى والي الجنوب، والإرهابي وقاص واسمه الحقيقي: علي رباح رجا ما يسمى مسؤول التواصل، بالإضافة إلى مسؤول ملف الاقتصاد والأموال لولاية الأنبار”.

“معضلة الفراغ”

إذاً، ليس ثمة شك أن الوضع في العراق بحاجة قصوى وملحة إلى عدم الذهاب في فراغ أمني، كما سبق وحدث في أفغانستان وعدة مناطق بإفريقيا تحديدا الساحل وغرب إفريقيا، حيث إن خروج أميركا وفرنسا من عدة مناطق رافقه صعود “داعش” على نحو أقوى، فضلا عن جماعات جهادية أخرى، مثلما هو الحال في النيجر وبوركينا فاسو ومالي.

وعدا عن كون تداعيات الانسحاب سوف يستدعي احتمالا أن يملأ الفراغ كيانات إرهابية وميلشيات مسلحة وجماعات جهادية في ظل ضعف بنى الدولة والهياكل الحكومية، لا سيما أن المناطق الحدودية والمتاخمة للعراق، خاصة سوريا وإيران، تكاد أن تكون خريطة انتشار لفلول التنظيم الإرهابي، وتقع هذه المناطق لسيطرة القوى الولائية المدعومة من طهران ما يفاقم الوضع الأمني وسيولته ويوفر بيئات حاضنة للإرهاب.

عندما حررت قوات الجيش العراقي بالتعاون مع “التحالف الدولي” مدينة الموصل من تنظيم “داعش” الإرهابي- “أ ف ب”

وبحسب وزارة الداخلية العراقية، فقد قضى مهرب سلاح وإصابة آخر أثناء توقيقه في ديالى المتاخمة لإيران، أمس الخميس. وكانت “الداخلية” قد أعلنت في وقت سابق أنها تواصل العمل على بناء مخافر ونصب أبراج مراقبة كونكريتية وكاميرات حرارية؛ للحد من عمليات التهريب والتسلل عبر محافظة السليمانية الحدودية مع إيران، بحسب “الشرق الأوسط” اللندنية.

ومطلع الشهر أيلول/ سبتمبر الجاري، أوضحت صحيفة “نيويورك تايمز” نقلا عن مسؤولين عراقيين وأميركيين بأن كثافة العمليات المشتركة التي تعنى بمواجهة وتصفية تنظيم “داعش” الإرهابي إنما تكشف عن حجم ونطاق التهديدات التي يمثلها وضرورة استمرار العمليات ضده، وقد التنظيم الإرهابي مسؤوليته عن 153 هجوما إرهابيا بسوريا والعراق في النصف الأول من عام 2024، حسبما ذكرت القيادة المركزية الأميركية. 

وصرح مدير برامج سوريا ومكافحة الإرهاب في “معهد الشرق الأوسط” تشارلز ليستر بأن “الملاذات الآمنة القديمة لداعش، في صحراء الأنبار، ستحتاج إلى المتابعة بشكل مستمر، إذا كنا نريد تجنب تسرب داعش من سوريا إلى العراق في النهاية”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة