في الوقت الذي اعتدنا فيه تصريحات شديدة اللهجة من قادة إيران لا تؤدي دائماً إلى ردود فعل قوية تتناسب معها، أبدى زعماء النظام الإيراني أن لديهم الحق في الرد على الهجوم الإسرائيلي الأخير، لكنهم بدوا وكأنهم اتخذوا لهجة مدروسة، وهو ما يساعد في تخفيف المخاوف من أن كلاً من إسرائيل وإيران قد يخرجان عن السيطرة ويدخلان المنطقة في حرب شاملة.
لكن في الوقت نفسه، فإن إيران ملتزمة بالرد على الهجوم الإسرائيلي، وهو ما يشكل معضلة حقيقية لها، ويجعلها تواجه خيارات كلها صعبة.
تصريحات معتدلة عن حق الرد
قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إن الهجوم الانتقامي على إيران حقق كل أهدافه، بينما صرح مسؤولون إيرانيون وإسرائيليون لصحيفة “نيويورك تايمز” بأن الضربات دمرت أنظمة الدفاع الجوي التي أُقيمت لحماية مواقع الطاقة المهمة، لكنها تجنبت المنشآت نفسها.

وقال نتنياهو في مراسم إحياء ذكرى ضحايا هجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي التي نفذتها حماس: “الهجوم كان دقيقاً وقوياً وحقق أهدافه، يجب على هذا النظام أن يفهم مبدأ بسيطاً: من يؤذينا نؤذيه”.
بينما حذّر الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، من أن بلاده “سترد على أي حماقة بالحكمة والاستراتيجية”. لكن آية الله علي خامنئي، المرشد الأعلى لإيران، والذي يتمتع بسلطة بصفته القائد الأعلى لإصدار أوامر بشن هجمات على إسرائيل، قال في أول تعليقات علنية له حول الهجمات يوم الأحد الماضي: إن الهجوم “لا ينبغي تضخيمه أو التقليل من شأنه” بينما امتنع عن التعهد بالرد الفوري، وهو ما اعتبره البعض رداً مدروساً.
من جانبه، قال الرئيس الإيراني بزشكيان إن إيران “سترد بشكل مناسب” على الهجوم الذي أسفر عن مقتل أربعة جنود على الأقل، مضيفاً أن طهران لا تسعى إلى الحرب، متبنياً نبرة أكثر هدوءاً مقارنة بالتصريحات شديدة اللهجة السابقة، حيث هدد “بتدمير حيفا وتل أبيب” إذا هاجمت إسرائيل إيران، أو “ضرب إسرائيل عشر مرات إذا هاجمت مرة واحدة”.
ويبدو أن الضربات الإسرائيلية كانت أكثر محدودية مما توقعه بعض المراقبين، حيث كشفت تقارير أن الولايات المتحدة مارست ضغوطاً علنية على حكومة نتنياهو لعدم ضرب المنشآت النفطية والنووية، وهي النصيحة التي يبدو أن إسرائيل استجابت لها.
وكانت إيران قد ردت على الضربات الإسرائيلية على أراضيها مرتين بوابل من الصواريخ والطائرات بدون طيار المتفجرة – مرة انتقاماً لهجوم القنصلية في نيسان/أبريل الماضي، ومرة أخرى في أوائل تشرين الأول/أكتوبر بعد مقتل إسماعيل هنية، أحد قادة “حماس”، في غارة في طهران. وكانت الغارة الجوية الإسرائيلية الأخيرة رداً مباشراً على انتقام إيران في أوائل أكتوبر.
الولايات المتحدة توقف دائرة الهجمات
توضح المؤشرات أن الولايات المتحدة تمسك بزمام الأمور في الصراع الدائر بين إسرائيل وإيران، وأن الأمور لم تخرج عن السيطرة بعد، مما يعني أن إيران لن تقوم برد عنيف أو غير محسوب.
وقال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، شون سافيت، إن الولايات المتحدة حثت “إيران على وقف هجماتها على إسرائيل حتى تنتهي هذه الدورة من القتال دون مزيد من التصعيد”.
وأضاف في بيان: “لم تكن الولايات المتحدة مشاركة في هذه العملية. هدفنا هو تسريع الدبلوماسية وتهدئة التوترات في منطقة الشرق الأوسط. نحث إيران على وقف هجماتها على إسرائيل حتى تنتهي هذه الدورة من القتال دون مزيد من التصعيد”، بحسب صحيفة “بوليتيكو”.
وفي وقت سابق من هذا الشهر، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن علناً عن رأيه في كيفية صياغة إسرائيل لضربتها الانتقامية، حيث صرح للصحفيين بأنه لا يعتقد أن إسرائيل يجب أن تضرب المواقع النووية الإيرانية أو البنية التحتية النفطية، لأن استهداف منشآت الطاقة الإيرانية من شأنه أن يرفع أسعار النفط العالمية، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار البنزين في المضخات قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية.
خيارات صعبة أمام إيران
اختارت إسرائيل عدم دفع إيران إلى الزاوية، فشنت ضربات محدودة على أهداف عسكرية بدلاً من شن هجوم أوسع على البنية التحتية للطاقة أو الأهداف المدنية. وأكد بيان المتحدث باسم جيش الدفاع الإسرائيلي وقت الهجوم بشكل واضح، أن الضربات كانت “محددة” واستهدفت مواقع عسكرية فقط.
ورغم أن الأضرار الناجمة عن الهجوم الإسرائيلي كانت واسعة النطاق، فإن حقيقة أن معظم الأضرار كانت بعيدة عن المراكز السكانية واقتصرت على القواعد العسكرية تتيح للإيرانيين مجالاً للقول: إن الضربات لم تكن ناجحة، أو أنهم لا يحتاجون إلى الرد.
القرار بشأن الرد أو عدمه يقع حالياً على عاتق المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي. ورغم حديثه بشكل غامض يوم الأحد، فإن كبار المسؤولين الإيرانيين ظلوا صامتين حتى الآن، إما بسبب الحرج أو خوفاً من تقديم وعود لا يمكنهم الوفاء بها.
إيران الآن بحاجة إلى رد يبدو قوياً ليحافظ على ميزان الردع في الشرق الأوسط؛ فلا يمكن لطهران أن تتجاهل الهجوم الإسرائيلي برد ضعيف. فالرد العسكري من شأنه أن يسمح للقيادة الإيرانية بإظهار القوة ليس فقط لمواطنيها، بل أيضاً لـ “حماس” في غزة و”حزب الله” في لبنان. ولكن في الوقت نفسه، فإن ردّاً قوياً قد يؤدي إلى فتح جولة أخرى من الهجمات من جانب إسرائيل.
حصار طهران
ترى تقديرات، أن طهران قد تقرر عدم الرد بالقوة بشكل مباشر في الوقت الحالي، خاصةً أن القيام بذلك قد يكشف عن نقاط ضعفها ويدعو إسرائيل إلى رد فعل أكثر قوة، وربما يُستخدم “التحجج” بمفاوضات وقف إطلاق النار.
كما يبدو أن البيان الذي أصدره الجيش الإيراني أعطى الجمهورية الإسلامية مجالاً للتراجع عن المزيد من التصعيد، حيث أشار بيان الجيش الإيراني إلى أن وقف إطلاق النار في قطاع غزة ولبنان أكثر أهمية من أي رد انتقامي ضد إسرائيل.

وحالما تقرر الهجوم، فإنه من المتوقع أن يكون وابلًا من الصواريخ المعتادة، والتي لا تُخلف أضرارًا حقيقية على الأرض.
من جانبها، قالت سنام فاكيل، مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مركز “تشاتام هاوس” للأبحاث في لندن: “ستقلل إيران من تأثير الضربات، التي هي في الواقع خطيرة للغاية”، مضيفةً إن إيران “محاصرة” بالقيود العسكرية والاقتصادية، وبالقلق الناجم عن الانتخابات الأميركية وتأثيرها على السياسة الأميركية في المنطقة.
وقال علي فايز، مدير مشروع إيران في مجموعة الأزمات الدولية، والذي يتوقع أن تمتنع إيران عن إطلاق النار في الوقت الحالي: “إن أي محاولة إيرانية للرد ستضطر إلى التعامل مع حقيقة مفادها أن حزب الله، حليفها الأكثر أهمية ضد إسرائيل، قد تعرض للتدهور بشكل كبير، وأن أنظمة الأسلحة التقليدية لديه تم صدها إلى حد كبير مرتين”.
قرار إسرائيل بالتركيز على الأهداف العسكرية البحتة يسمح لإيران بإنقاذ ماء الوجه”.
يوئيل جوزانسكي، عمل سابقًا في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي
أستاذ جامعة “أوتاوا” المتخصص في شؤون إيران والشرق الأوسط، توماس جونو، كتب على موقع “إكس” (تويتر سابقا)، أن حقيقة أن وسائل الإعلام الإيرانية قللت في البداية من أهمية الضربات تشير إلى أن طهران ربما تريد تجنب المزيد من التصعيد. ومع ذلك، فهي عالقة في موقف صعب؛ فإذا ردت، فإنها تخاطر بالتصعيد، حيث يعني ضعفها أنها ستخسر المزيد. مضيفا: “وإذا لم ترد، فإنها ترسل إشارة ضعف”.
أساليب الحرب الهجينة
في هذا الصدد، علقت المحللة الأميركية في مجال حقوق الإنسان والأمن القومي، إيرينا تسوكرمان، لـ “الحل نت”: بأن “الواقع إيران في موقف صعب؛ فقد تستغرق ردودها أسابيع أو أكثر. فقد أدى هجوم إسرائيل إلى تدهور القدرة على إنتاج الوقود اللازم للصواريخ الباليستية، والتي تمتلك إيران عددًا محدودًا منها”. وعلاوة على ذلك، فإن الالتزامات بتزويد روسيا بالصواريخ للحرب في أوكرانيا تحد من قدرتها على إنتاج المزيد، وتشكل تحديًا لها.
وقد تكبدت اثنتان من وكلائها الرئيسيين، “حزب الله” و”حماس”، خسائر عسكرية وبنية تحتية فادحة، مما يعني أن إعادة بنائها قد تستغرق سنوات أو عقودًا، نظرًا لأن القيادة العليا قد تمت تصفيتها. ويتعين على إيران أن “تضبط استعراض القوة الضروري مع البراغماتية لضمان البقاء على المدى الطويل، ومنع الرد العنيف من إسرائيل”.
ورأت تسوكرمان، في حديثها لـ “الحل نت”: أن إيران سوف تنتظر حتى بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية لترى ما قد تنبئ به السنوات الأربع المقبلة. وأوضحت أن لدى إيران العديد من الأساليب تحت تصرفها مثل الهجمات الإلكترونية، وهجمات النبضات الكهرومغناطيسية، وغيرها من أساليب الحرب الهجينة، واستخدام الجواسيس والعملاء الإيرانيين في إسرائيل للتخريب، واستخدام شبكات دعمها في جميع أنحاء العالم لمواصلة تشويه سمعة إسرائيل، والاغتيالات المستهدفة والاختطاف في جميع أنحاء العالم، والتي ستثبت فعاليتها إذا عززت إيران تعاونها الاستخباراتي مع بلدان أخرى، وبالطبع الهجمات الإرهابية ضد أهداف مرتبطة بإسرائيل في الغرب وغيرها من النقاط الضعيفة.
على مدى عقود من الزمن، وبعد سنوات من حروب الظل، كانت هناك مخاوف من وضع تصل فيه إسرائيل وإيران إلى تبادل الهجمات المباشرة. لقد أصبح هذا الأمر واقعًا اليوم، وحتى لو أن الجانبين يحافظان على قواعد الاشتباك، إلا أن الخطوط الحمراء أصبحت غير واضحة، ومن الممكن أن يحدث التهور في أي لحظة، مما قد يؤدي إلى خروج الأمور عن السيطرة.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
مقالات ذات صلة

إسرائيل تواصل التصعيد في جنوبي سوريا.. عمليات برية وغارات جوية

غارات إسرائيلية على منطقة دير علي بريف دمشق.. ماذا استهدفت؟

أبرزها سوريا.. ترامب يُعلّق المساعدات الخارجية الأميركية فما الأسباب؟

السلطات في دمشق تمنع جنسيتين من دخول البلاد
الأكثر قراءة

وعود حكومية بلا تنفيذ.. هل توقفت بوادر حلول الأزمات السورية؟

وزير النقل السوري يتحدث عن آليات جديدة لتسعير السيارات.. ماذا قال؟

وزير الداخلية السوري: التعاون مع روسيا يخدم دمشق

وزارة الداخلية دفعت محمد الشعار إلى تسليم نفسه.. ماذا قالت؟

وثّقَ تعذيب السوريين بسجون الأسد.. تفاصيل جديدة عن “قيصر”

واشنطن تتحدث عن سحب قواتها من سوريا.. و”قسد” تؤكد عدم تلقيها خططا رسمية
المزيد من مقالات حول في العمق

عن ضرورة انفكاك دمشق عن موسكو

الإرث الحضاري بشرق سوريا.. بين تهميش الأسد وتخريب “داعش”

روسيا في سوريا: مصير مجهول وفرص ضعيفة للبقاء

التعليم في شرق سوريا.. عقود من التهميش الممنهج

عودة أم فشل جديد: ماذا وراء التحركات الإيرانية في أوراسيا؟

فصائل إيران المسلحة: قنابل موقوتة في العراق

الزيارة الخارجية الأولى للرئيس الشرع إلى السعودية: رسائل دولية وملفات على أجندتها
