الحرب في غزة لها انعكاسات عديدة في السياسة كما في العلاقات الإقليمية والدولية، فضلا عن التداعيات الميدانية التي تعيد تشكيل التوازنات الجيوسياسية والاستراتيجية. ومن بين تلك التداعيات، التي أفرزتها حرب السابع من تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي بين حركة “حماس” وإسرائيل، هي تلك الملاسنات المتكررة بين تركيا وإسرائيل، وكذا تصاعد التصريحات العدائية، التي، للوهلة الأولى، تبعث بتصورات عن اندلاع حرب وشيكة بين الطرفين، ووصول الوضع المتأزم إلى انفجار قد يقود إلى حرب.

غير أن الأمور كافة تراوح مكانها ولا تتجاوز الحروب مستوى التغريدات  والتصريحات الفجة. في حين أن المفاجأة الأخيرة كانت في وجود أتراك يهود بين صفوف الجيش الإسرائيلي، بل ويحمل المقاتلين الأتراك الجنسية التركية. 

أكدت عدة مصادر في تركيا مشاركة أربعة آلاف مقاتل من أصول تركية ويحملون جوازات سفر مزدوجة (التركية إلى جانب الإسرائيلية)، شاركوا في الحرب بغزة إلى جانب القوات الإسرائيلية، بينما قضى حوالي 65 منهم، وتعرض حوالي 110 لإصابات بدرجات متفاوتة.

ولئن لم تقم الحكومة التركية بخطوات عملية سياسية أو اقتصادية، تتناسب حجم وعيدها وصخب تصريحاتها الإعلامية ضد إسرائيل، فإنها كذلك لم تتخذ أي مواقف ضد الأتراك الحاملين لجنسيتها وبما يصطف مع مواقفها المؤيدة لحركة “حماس”، وتقديم سياساتها باعتبارها الحامل الموضوعي لقضية فلسطين.

أتراك يهود مع حرب إسرائيل!

ومنذ اندلاع الحرب بتطوراتها كانت التصريحات التركية حذرة، ولم تكن كما العادة في حوادث وأزمات سابقة تبادر بالتصعيد، بيد أن اللافت هو إلى جانب الحذر وتفادي التصعيد، المراوغة في القرارات الصعبة التي اتخذتها أنقرة ضد إسرائيل، مثل وقف الصادرات والضغط الاقتصادي لإرغام تل أبيب على وقف الحرب في غزة. 

وقد شكك مراقبون في إمكانية حدوث ذلك لما ستتعرض له التجارة التركية والعلاقات أو على وجه أدق الشراكة الاستراتيجية بين الطرفين إلى أزمة فادحة، وخسائر لا يتحملها أي من الطرفين. 

وبحسب عدة مصادر صحفية، منها الصحف التركية المعارضة، فهناك ما يربو على أربعة آلاف مقاتل من أصول تركية ويحملون جوازات سفر مزدوجة (التركية إلى جانب الإسرائيلية)، شاركوا في الحرب بغزة إلى جانب القوات الإسرائيلية، بينما قضى حوالي 65 منهم، وتعرض حوالي 110 لإصابات بدرجات متفاوتة. 

أكدت عدة مصادر في تركيا هذه الأرقام المتداولة عن مشاركة الأتراك الإسرائيليين في حرب غزة- “إنترنت”

وبحسب صحيفة “تركيا”، فهناك 20 ألف مواطن مزدوج الجنسية لديه الجنسية التركية والإسرائيلية يقيم بتركيا، ويتضاعف العدد ليصل نحو 250,000 بإسرائيل. فيما ترجح الصحيفة أن هناك أدوار استراتيجية ومهمة تقع على عاتق الأتراك في الجيش الإسرائيلي وتتجاوز المهام القتالية على الجبهات، حيث إن مسؤولية إدارة نظام القبة الحديدية تقع على عاتق جنرال إسرائيلي تركي.

وقد أكدت عدة مصادر في تركيا هذه الأرقام المتداولة عن مشاركة الأتراك الإسرائيليين في حرب غزة ضمن الجيش الإسرائيلي، وفق ما أعلن رئيس “حزب هدى بار”، زكريا يابيجي أوغلو، والذي هاجم بضراوة السماح للأتراك الإسرائيليين العودة إلى موطنهم الأصلي تركيا والقبول بهم.

وتحت ضغوط واستقطابات عديدة، ناقش البرلمان التركي مشروع قانون بخصوص سحب الجنسية ومصادر الممتلكات من مزدوجي الجنسية في تركيا وتحديدا من المنضمين للجيش الإسرائيلي. 

وصحيح أن المناقشة لم تسفر عن نتائج بالكلية غير محاولة حقن الغضب ومنع تصاعد الهجوم على الحكومة التركية و”حزب العدالة والتنمية”، ومعارضة صمتها على هذا الأمر في ظل وقوفها المعارض لما تصفه بـ”حرب الإبادة” على غزة من قبل إسرائيل، فاللافت أن الدعوى بالبرلمان قدمها “حزب هدى بار” وهو حزب كُردي إسلامي معارض، وذلك من خلال ممثله في البرلمان هدى بار سيركان رامانلي. وقد اتهم النائب الكُردي الجهات القانونية والقضائية بعد تفعيل بنود القانون ضد مشاركة الأتراك في الحرب ضمن الجيش الإسرائيلي.

وقال إن “قانون العقوبات التركي يتضمن عقوبات لهذه الجرائم، لكن التحقيقات لا تبدأ إلا بطلب من وزير العدل، وحتى الآن، لم يتقدم وزير العدل بأي طلب بهذا الشأن منذ تسعة أشهر”. ولهذا أوضح أن المشروع الذي قدم مقترحه للبرلمان للمناقشة، يشمل “إمكانية بدء التحقيقات بقرار من البرلمان، وليس فقط بطلب من وزير العدل”.

تركيا تزود إسرائيل بـ”الذخيرة”

في هذا السياق، فإن الضغوط التركية على إسرائيل كما يروج في المنصات الإعلامية والبيانات الرسمية، هي مجرد وسيلة لـ”رفع العتب” أو ذر الرماد في العيون نتيجة العلاقات القائمة والخفية بين الطرفين بخلاف ما هو ظاهر ومعلن، وذلك في ما يخص الشراكات الاستراتيجية في مجال التجارة والتصنيع وتبادل السلع الحيوية والضرورية، بالإضافة إلى الحصول على الصناعات الثقيلة ومواد الصلب والذخيرة والسلاح.

تتناقض بيانات تركيا مع مواقفها العملية والسياسية، فخلال الشهرين الأولين من العام الحالي، بلغت صادرات تركيا لإسرائيل من الذخائر والأسلحة قيمة 90 ألف دولار- “إنترنت”

وبينما صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنه “حتى يتم تحقيق سلام شامل ومستدام في فلسطين، لن توافق تركيا على أي محاولات للتعاون مع إسرائيل داخل الحلف”، وذلك في قمة “حلف الشمال الأطلسي” (الناتو)، فقد سبقتها حملة على منصات التواصل الاجتماعي، تتهم أنقرة بتزويد إسرائيل بالذخيرة. 

ورغم النفي التركي، خاصة مع نشر صورة لشظية إحدى القنابل محفور عليها بالانكليزية “مصنوع في تركيا”، فإن البيانات الرسمية الصادرة عن هيئة الإحصاء التركية تؤكد عدم تعطل مسار الصادرة التركية لإسرائيل، ومنها الذخائر والبارود وقطع الأسلحة، وذلك منذ مطلع العام الجاري.

كما أن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قد صرح قبل أيام، انضمام بلاده إلى اثنتين وخمسين دولة بعثوا رسالة مشتركة للأمم المتحدة بغرض وقف توريد وتسليم الأسلحة إلى إسرائيل. وتطالب بـ”اتخاذ إجراءات فورية لوقف توريد أو نقل الأسلحة والذخائر والأعتدة المرتبطة بإسرائيل، قوة الاحتلال، في كل الحالات التي تكون هناك أسباب معقولة للاشتباه في أنّها يمكن أن تُستخدم في الأراضي الفلسطينية المحتلّة”. 

الأمر الذي تسبب في عودة حرب التصريحات من جديد، حيث اتهمت إسرائيل أنقرة بـ”الخبث”. وقال السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة داني دانون: “ماذا يمكن أن نتوقّع غير ذلك من دولة دافعُ تحركاتها هو الخبث الهادف إلى خلق نزاعات، مدعومة من دول محور الشرّ”. وأضاف “هذا تحرّك جديد مثير للسخرية من قبل محور الشرّ ضد إسرائيل على الساحة الدولية”.

“حرب إعلامية”!

فيما تتناقض بيانات تركيا مع مواقفها العملية والسياسية مع ما تشير له البيانات الرسمية لهيئة الإحصاء التركية، إلى أنه خلال الشهرين الأولين من العام الحالي، بلغت صادرات تركيا لإسرائيل من الذخائر والأسلحة قيمة 90 ألف دولار، وذلك بحسب أرقام وثقتها قاعدة بيانات إحصاءات التجارة الخارجية. ووصلت قيمة الصادرات من المواد المتفجرة والبارود نحو 60 ألف دولار.

أما الصادرات الكيميائية، وتشمل مواد إطفاء الحريق والمطهرات وغيرهما، مليون و300 ألف دولار. مع الأخذ في الحسبان أن هناك من يرى وجود انخفاض في الصادرات، لكن البيانات الرسمية وإن كانت تؤكد استمرار العلاقات التجارية والصادرات في ظل إعلان الرئيس التركي تجميد ذلك ونفي التعاون حتى وقف الحرب، فالقاعدة الرسمية تبدو محل تشكيك في ظل خلط الأوراق نتيجة الاستقطاب السياسي، والحملات الإعلامية المختلفة التي تعتمد على التضليل. ويبقى الثابت هو أن الحرب الإعلامية بين تركيا وإسرائيل تخفي دفء العلاقات بالكواليس.

إذاً، تبدو متانة العلاقات بين تركيا وإسرائيل واضحة، وقادرة على تخطي الأزمات العرضية بينهما حيث لا تتجاوز السقف الإعلامي والبيانات والتغريدات، ولا يصل الصراع إلى درجة الإيلام في المرتكزات الاستراتيجية بالمحاور الرئيسية في الاقتصاد مثلا، أو إتخاذ قرارات قانونية ودستورية بشأن مزدوجي الجنسية على أراضيها أو المشاركين في الحرب ضمن أداء الخدمة العسكرية بإسرائيل. 

ولا يعد ذلك بجديد، حيث إن الشراكة الاستراتيجية بين البلدين أظهرت في سنوات الأزمات قوة وثباتا، تمثل في تضاعف الصادرات في الفترة بين عامي 2011 و2022، وذلك من 2.3 مليار دولار إلى 7.03 مليار دولار. ولم يختلف الأمر مع حرب غزة، حتى مع حظر التجارة والقرارات بخصوص منع الصادرات، حيث توثق وزارة النقل في إحصائياتها، نحو سبعمئة سفينة تركية قد رست في الموانئ الإسرائيلية منذ اندلاع الحرب في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي، وتقول في تقريرها الصادر مطلع العام الحالي، أنه بمعدل 8 سفن يومية، خلال هذه الفترة، لم تنقطع السفن بحمولاتها من السلع الاستراتيجية كالنفط والمنسوجات والصلب.

تمرير الصادرات عبر الضفة الغربية!

ومع أن صادرات تركيا إلى الأراضي الفلسطينية عبر إسرائيل قد قفزت بنحو ستة أمثال في أول تسعة أشهر من العام الحالي إلى 571.2 مليون دولار، وذلك بعد خمسة أشهر من وقف أنقرة التجارة مع إسرائيل احتجاجا على حرب غزة، فإن صحيفة “العرب” اللندنية، ترى في ذلك مثار تساؤل حول “هذه الزيادة الكبيرة؛ وتقول: “كيف يمكن أن يتضاعف طلب الفلسطينيين في الضفة الغربية على الصادرات التركية في ظل الظروف الأمنية الصعبة وما تتركه من تأثير سلبي على قدرات الاستهلاك، أم أن الأمر مجرد حيلة للتغطية على قرار تركيا حظر التصدير إلى إسرائيل كموقف تضامني مع غزة؟”.

كشف الصحفي التركي ميتين جيهان، أن سفينة نجل أردوغان رست في ميناء أشدود الإسرائيلي بين 14 و18 أكتوبر، بينما رست سفينة نجل بن علي يلدريم في ميناء حيفا الإسرائيلي بين 16 أكتوبر و7 نوفمبر الجاري.

وتابعت: “وما يلاحظ أن الصادرات التركية زادت كثيرا بعد دخول حظر التجارة مع إسرائيل حيز التنفيذ وارتفعت بنسبة 526 بالمئة، في حين أن العكس هو ما كان متوقعا؛ أي أن تشهد تلك الصادرات حالة من التراجع والركود. وكشفت بيانات مجلس المصدرين الأتراك أن الصادرات التركية إلى الأراضي الفلسطينية قفزت بنسبة 35 بالمئة إلى 49.4 مليون دولار في أول أربعة أشهر من العام”.

وعليه، بعث النائب البرلماني التركي المعارض مصطفى ينر أوغلو مطلع الأسبوع، باستجواب بخصوص تضاعف الصادرات للأراضي الفلسطينية، رغم حظر التجارة، واستمرار حركة السفن لإسرائيل، مشددا على ضرورة أن يضطلع وزير التجارة عمر بولات بمهامه في فض هذا الالتباس والغموض، والإجابة على المعلومات المتواترة بشأن استمرار التجارة مع إسرائيل بشكل خفي وغير معلن بواسطة شركات فلسطينية، ضمن حيل أخرى لإخفاء وصولها إلى إسرائيل، مثل تدوين البضائع في وثائق الشحن بأن مسارها الأراضي الفلسطينية بينما هي في الحقيقة ترسو في إسرائيل.

استمرار العلاقات التجارية

وبحسب خبراء في الشأن التركي، فقد تعقبوا اضطلاع نجلي الرئيس التركي بعمليات الشحن البحري لإسرائيل، من خلال شركاتهما المعنية بالنقل البحري، وذلك ما أكده الصحفي التركي ميتين جيهان، موضحا أن ثمة سفن وصلت لميناء أشدود بين يومي 14و18 تشرين الأول/ أكتوبر.

وكانت عدة أخبار وبيانات سابقة أوضحت أن العمليات التجارية والنقل البحري بين البلدين لم تنقطع رغم تصريحات الرئيس التركي العدائية لما وصفه بـ”مجازة إسرائيلية” في غزة، واعتبروا أن حيل عديدة تجري لاستمرار التبادل التجاري والمصالح الاقتصادية بين البلدين كمحاولة للتحايل كذلك على قرارات الحظر والمنع التي سبق وتم إصدارها بهذا الشأن.

وعلى الرغم من تأكيد وزير التجارة التركي عمر بولات، أن “النظام الجمركي مغلق تماما أمام التجارة مع إسرائيل”، وأن “أنقرة ستواصل تلبية احتياجات الشعب الفلسطيني ودعم قضيته العادلة على الصعيد الاقتصادي”، فإن ذلك لا يبدو صحيحا.

وقال بولات في منشور على منصة “إكس”، ردا على ادعاءات استمرار العلاقات التجارية بين تركيا وإسرائيل، إن الحكومة التركية قررت في الثاني من أيار/ مايو الماضي تعليق جميع عمليات التصدير والاستيراد مع إسرائيل بشكل كامل حتى إعلان وقف إطلاق النار الدائم والسماح بتدفق المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة دون انقطاع.

اعترفت شركتا نجلي أردوغان وبن علي يلدريم باستمرار التجارة مع إسرائيل- “إنترنت”

وزعم بولات أنه لم يتم تسجيل أي بيان جمركي للتصدير أو الاستيراد من تركيا إلى إسرائيل بعد هذا التاريخ، وكذلك لم تصل أي شحنات من إسرائيل إلى تركيا.

وقال الصحفي التركي، ميتين جيهان، إن سفينة أخرى لابن رئيس الحكومة التركي السابق بن علي يلدريم رست في ميناء حيفا الإسرائيلي في الفترة بين يومي 16 تشرين الأول/ أكتوبر و7 تشرين الثاني/ نوفمبر العام الحالي. لافتا إلى أن ما كشف عنه موثق في السجلات الرسمية لحركة النقل البحري.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات