يبدو أن مشهد العلاقة بين تركيا ورعايتها للإسلام السياسي لن ينحسر، لكنه بات يمثّل عبئاً وخسارة تقوّض وضع أنقرة الجيوسياسي، ومن الواضح أن القضية الفلسطينية التي تناور طهران كما الأولى من خلال ورقة الدّين وتوظيف الحركات الإسلاموية في إطار أهدافها السياسية والإقليمية لم تعد بالنسبة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان كما في السابق.
فمع اندلاع “طوفان الأقصى” بدا أن دور أردوغان في الوساطة ضعيفٌ ومحدود، بينما تقوم مصر وقطر بمهام التسوية بين حركة “حماس” وإسرائيل. ثم كان استهداف قادة “حماس” في الخارج ومنها لبنان بمثابة رسالة تحذيرية لتركيا.
ومع محاولة تركيا التقارب مع مصر مؤخراً، وهي ليست المرة الأولى لكن الإعلان عن زيارة أردوغان في غضون الأيام المقبلة يجعل هناك انفراجة جادة على ضوء المشهد الإقليمي، الأمر الذي يجعل فرص الإسلام السياسي بتركيا ضعيفة وتتلاشى بل من المتوقع أن تبدأ تضييقات عديدة كما حصل في السابق عندما بدأت أنقرة مع القاهرة ما عُرف بالمباحثات الاستكشافية قبل نحو عامين وترتّب عليها إبلاغ القنوات المحسوبة على جماعة “الإخوان المسلمين” بالحدّ من التغطية السياسية، وتناول الشأن السياسي المصري والاكتفاء بالشؤون الثقافية والاجتماعية، والتوقّف عن الهجوم والتنابذ.
أهداف أردوغان من التقارب مع مصر
إذاً، يبدو أن أفق التعاون الجديد الذي يلح عليه أردوغان تجاه مصر ورغبته في إزاحة سنوات الخصومة التي بدأها نتيجة دفاعه المستميت وتأييده للرئيس المنتمي لجماعة الإخوان المصنفة في مصر وعدد من الدول العربية بأنها “إرهابية”، والإعلان عن تسليم مصر مسيّرات قتالية تركية، سوف تجعل حركة الإخوان ونشاط التيارات المحسوبة عليهم وارتباطاتهم بأنقرة تخضع لقيود جمّة.
ومن هنا، تسترد القاهرة بأوسع مدى نشاطها الإقليمي المركزي في الملف الفلسطيني وتعمم رؤيتها الواسعة التي تضمن السلام بعيداً عن التوظيف البراغماتي لرصيد حزب أو حاكم يحلم بـ”الخلافة” و”الزعامة” الدينية المسيسة.
وفق الإعلام الرسمي في تركيا، فقد ألتقى رئيس المخابرات التركية إبراهيم كالين برئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في الدوحة. وهذا اللقاء الأول في إحدى دول الوساطة مع مصر بعد فترة خفوت تام وسكون كبير للدور التركي، وتبادل الطرفان مسألة الرهائن الإسرائيليين الذين تحتجزهم “حماس” وجهود وقف إطلاق النار في قطاع غزة. فضلاً عن المساعدات الإنسانية التي ينبغي وصولها للفلسطينيين. كما وشدد الطرفان على ضرورة “تدشين الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس” باعتبار ذلك صمام أمان الاستقرار.
وهنا ينبغي القول إن مساعي الرئيس التركي طول فترة الحرب والصراع بين الحركة الفلسطينية الإسلاموية المصنّفة على “قوائم الإرهاب” وإسرائيل لوقف الأزمة أو التهدئة، والدخول في وساطة سياسية، انتهت إلى لا شيء وليس فقط الفشل، أي أن مواقفه لم تكن تحقّق أي أفق حتى لو كان محدوداً ويمكن البناء عليه.
ولذلك، ظل أردوغان حتى الانعطافة السياسية تجاه مصر والانفتاح عليها بعد فترة من الهجوم والقطيعة نتيجة اصطفافه مع جماعة “الإخوان المسلمين” ودعم الإسلاميين، لا يتحرك خطوة للأمام خارج مساحة الهجوم الشعبوي على إسرائيل بوصفها “دولة إرهابية” وفي المقابل يعتبر عناصر حركة “حماس”، “مقاتلين من أجل الحرية”.
سياسة تركيا الجديدة “فاشلة”!
مقامرة أردوغان باءت بالفشل. هذا عنوان مختصر لما تبدو عليه السياسة التركية الآن وفي خطواتها الجديدة. فالاعتماد على الإسلام السياسي كونه يؤدي دوراً وظيفياً تسبب في أعباء، ويشير الكاتب التركي و الزميل غير المقيم بالمعهد الأطلسي، رتش أوتزن، إلى أنه أردوغان حاول بمساع عديد أن يكون صاحب التوازن الجيوسياسي الرائد في العالم، لكنه فشل وافتقر إلى التوازن في الصراع في غزة؟
ويجيب أوتزن عن هذا الفشل من خلال فحص وكشف عدّة عوامل ومرتكزات منها الموقف الجغرافي لتركيا والتي يصفها بأنها “قوة متوسطة الحجم بين أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا وأوراسيا، وهو ما يستلزم المرونة في التعامل مع كل الجيران” ومع تحوّل تركيا من سياسة “صفر مشكلات” والتّخلي عن “الثقافة الاستراتيجية التركية، التي أعطت الأولوية على مدى أجيال عديدة للسعي اتفاقات السلام، والترتيبات التجارية، وغيرها من تحقيق النتائج الجيوسياسية بواسطة القدرات التفاوضية التي تتم على مهل وبصورتها البراغماتية” سقطت القدرة على الثبات والتوازن.
يضيف أوتزن: “الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين كان انعكاسه في سياسة تركيا كاشفاً عمق تخلي أردوغان عن سياسة أنقرة الاستراتيجية بشأن التهدئة والسلام و”صفر مشاكل”. خلال الحرب الحالية في غزة، كما حدث خلال أزمة غزة 2008-2009، تخلّى أردوغان عن الخطاب الحذر والتعامل مع طرفي الصراع واختار بدلاً من ذلك إلقاء ثقله بأغلبية ساحقة خلف جانب واحد”، أي حركة “حماس”.
والسؤال هنا الآن، وفق ما يقول الكاتب التركي، هل تملك تركيا والرئيس أردوغان القدرة على استعادة التوازن الجيوسياسي، فيقول: “تقدم حرب روسيا على أوكرانيا أوضح مثال على نمط أردوغان في التوازن. فمن ناحية، قدمت أنقرة التزامات جادة وجوهرية بشأن السيادة الأوكرانية. وقد شملت هذه الخطوات خطوات قانونية وخطابية مثل عدم الاعتراف بضم روسيا لشبه جزيرة القرم وانتقاد الغزوات الروسية في عامي 2014 و2022. كما تضمنت أيضاً دعماً عسكرياً قوياً وتوفير مساعدات قبل وقت طويل من استعداد القوى الغربية لتقديم مثل هذه المساعدات”.
أظهر أردوغان، أكثر من الرؤساء أو رؤساء الوزراء الأتراك السابقين، اهتماماً عميقاً وشخصياً بالقضية الفلسطينية، وهو اهتمام له دلالات دينية وتاريخية جعلت من الصعب الحفاظ على موقف متوازن. منذ عام 2009، جعلت هذه العوامل تحقيق التوازن التركي مستحيلاً.
ومن ناحية أخرى، حرص أردوغان على الحفاظ على العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع موسكو خلال الحرب في أوكرانيا. لقد أيدت أنقرة إدانة الجمعية العامة للأمم المتحدة لروسيا، لكنها لم تدعم العقوبات الواسعة والعميقة التي فرضتها الولايات المتحدة و”الاتحاد الأوروبي”.
وقد عارض أردوغان الجهود الغربية الرامية إلى عزل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دبلوماسياً، واستمر في إشراكه في مجموعة متنوعة من القضايا. وقد زادت التجارة الثنائية التركية الروسية منذ الغزو الروسي لأوكرانيا واسع النطاق.
إن الجهود الدبلوماسية التركية للتوسّط في إنهاء الحرب الروسية في أوكرانيا، والتي تعكس موقف أنقرة الفريد باعتبارها القوة الوحيدة التي احتفظت بعلاقات الثقة مع الجانبين، لم تسفر بعد عن نتائج حاسمة. نجح أردوغان في التفاوض على ترتيبات أكثر محدودية بين الجانبين، بما في ذلك عدة جولات من تبادل الأسرى واتفاق تصدير الحبوب الذي خفف أسعار الحبوب العالمية وساعد المزارعين الأوكرانيين خلال العام الذي دخل فيه الاتفاق حيز التنفيذ، على الرغم من فشله في المحاولات. لتحقيق تمديد أو متابعة صفقة الحبوب.
وبشكل عام، يمكن وصف النهج التركي بأنه نوع من “الحياد المؤيد لأوكرانيا” الذي حمى المصالح الاقتصادية والسياسية التركية وساعد في الحفاظ على توازن عسكري تقريبي يتجنب الانهيار الأوكراني.
الفشل في تحقيق دور “الضامن الأمني”
خلال العقد الأول من حكم “حزب العدالة والتنمية” الذي بدأ في عام 2002، حافظت تركيا على علاقات إيجابية مع إسرائيل على الرغم من الانتقادات اللاذعة لمعاملة إسرائيل للفلسطينيين خلال الانتفاضة الثانية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وزار رئيس الوزراء آنذاك أردوغان إسرائيل في عام 2005، وفي أواخر عام 2008، عملت أنقرة كوسيط في محادثات السلام الاستكشافية بين سوريا وإسرائيل. وتستمر السياسة التركية في تحقيق التوازن بين التعامل بين السلطة الفلسطينية الأكثر اعتدالاً، والتي تميل إلى التعاون مع إسرائيل، وحركة “حماس” الأكثر تشدداً.
ومع ذلك، أظهر أردوغان، أكثر من الرؤساء أو رؤساء الوزراء الأتراك السابقين، اهتماماً عميقاً وشخصياً بالقضية الفلسطينية، وهو اهتمام له دلالات دينية وتاريخية جعلت من الصعب الحفاظ على موقف متوازن. منذ عام 2009، جعلت هذه العوامل تحقيق التوازن التركي مستحيلاً.
وتسبب ذلك في تقويض احتمالات قيام تركيا بدور الوساطة أو تحقيق الاستقرار بين إسرائيل والفلسطينيين. ويفاقم ذلك العناصر الإسلاموية في حزب أردوغان وارتباطاتهم الخارجية بآخرين من ذات التيار المتشدد والذي تنعكس صلاتهم على صناعة السياسة التركية بهذا الشأن.
خلال الأسبوعين الأولين من الأزمة الحالية، حافظ أردوغان على درجة من الحياد البناء، وفق ما يقول الكاتب التركي بالمعهد الأطلسي، ثم قدم عروضاً للتوسط وإلزام بلاده بدور “الضامن الأمني”، وسعى جاهداً للحفاظ على اتصالات مفتوحة مع كلا الجانبين. جرت مفاوضات بوساطة مصر وقطر.
وتبدو علاقات البلدين الأخيرين أكثر عمقاً وفاعلية مع “حماس” الآن بعد أن طردت تركيا قيادة “حماس”- وهو ما فعلته أنقرة في وقت سابق من الصراع عندما كانت أكثر توازناً- فيما كانت الدوحة والقاهرة أكثر حرصاً في إخفاء مواقفها العلانية وعدم الانجرار وراء التصريحات الصحفية الصاخبة بشأن الصراع وإدارة الأزمة بشكل عملي وسياسي وبراغماتي.
وتسببت في المقابل خطابات أردوغان التحريضية والتعبوية إلى “خفض الثقة بين النُّخب السياسية الإسرائيلية والأميركية بأن تركيا لا يمكنها أن تكون عادلة أو طرف وازن للتوسط في الصراع، كما فعلت في مناطق الصراع الأخرى، أو للعب دور رئيسي في تحقيق الاستقرار في غزة بعد الصراع”.
- عاصمة سياسية واقتصادية للمعارضة: ما مكاسب السيطرة على حلب؟
- عمل عسكري على القرى السبع بدير الزور.. ما دور “التحالف الدولي”؟
- “قلوب مكسورة”.. معتصم النهار وجيني إسبر يتفاعلان مع أحداث حلب
- انهيار كبير لليرة السورية أمام الدولار في حلب
- واشنطن: على سوريا تغيير سلوكها.. وطهران تلمح لعقد جولة “أستانا” بالدوحة
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.