جاءت التطورات المتسارعة في سوريا منذ بدأت فصائل “المعارضة السورية” تعيد تشكيل خرائط النفوذ من جديد في المناطق التي حازها النظام السوري بدمشق، بداية من تموضعها في حلب ثم حماة وبعض مناطق في ريف حمص، لتكشف عن زلزال مدو في داخل بنية نظام بشار الأسد، حيث إن مرحلة خفض التصعيد التي سادت لسنوات ورسمت الحدود السياسية والميدانية، تشهد تحولات جمّة، غير أنها تفصح في المقابل عن احتمالات تباين في مواقف القوى، لا سيما روسيا، التي منحت حليفها بدمشق هذا البقاء. 

غض الطرف من قبل روسيا عن تلك التحولات الميدانية المتسارعة، يكشف عن جملة من الاعتبارات في سياقها السياسي الإقليمي، فضلا عن الوضع الداخلي والمحلي بسوريا، فمن جهة، هذا التحرك الذي قاده أبو محمد الجولاني زعيم “هيئة تحرير الشام”، يبدو أنه يتخطى حدود المناورة التكتيكية وتزداد من حوله اعتبارات العمل الاستراتيجي الذي قد ينبني من ورائه أفق سياسي. ذلك ما يمكن إيضاحه رغم ضعف التصريحات وندرة المعلومات الرسمية، بل إن المؤشرات في ظل محدودية هذه الأمور كافة، ترجح أن ثمة تسريع من وتيرة بدء عمل تسوية في سوريا، وطرح القوى المحتمل جلوسها على طاولة التفاوض والبناء، ومن ثم، شروع كل طرف في أن يباشر باتجاه بناء تصوراته وتقديم رؤيته ومقاربته.

“سقوط قوات الأسد لم يكن مفاجئا ولكن تراجع الدعم الروسي كان بذاته مسألة تستحق الفحص والانتباه ولهذا علينا ملاحظة الأيام القادمة عميقا وهل ستحافظ موسكو على جغرافيا دمشق كورقة تفاوض حاسمة أم كان رفض بوتين لقاء الأسد مؤخرا إشارة لانتهاء دوره”.

وقد نقلت “بلومبيرغ” عن مصادر في “الكرملين” أنه لا خطة لإنقاذ الأسد لدى روسيا، أو منع انهيار نظامه أمام تقدم الفصائل إلى دمشق. ونقل الموقع عن المصدر قوله: “موسكو لا تتوقع أي خطة ما دام الجيش السوري يترك مواقعه”. 

بالتالي، تذهب المؤشرات إلى أن مياه كثيرة قد جرت في نهر السياسة السورية، واللافت أنها قد تسللت من بين أطراف “الأسد” وقد تجاهل نداءات عديدة للاستدارة نحو التسوية، وفض نزاعات عديدة، منها التطبيع مع تركيا وطي صفحة الخلافات. 

وتظل الاحتمالات والسيناريوهات كافة مفتوحة في ظل تسارع الأحداث وغموض بعض ما يجري نظرا لشح المعلومات المتوفرة من قبل القوى الفاعلة في المشهد السوري، وما إذا كان ما يجري له مرجعية إقليمية أو دولية، فضلا عن ما سوف يترتب على ذلك من تداعيات سياسية وأمنية وحقوقية ودستورية، تضمن لكافة المكونات في سوريا مساواة مدنية ومواطنية ليس فيها إهدار لحقوقهم على مستوى التمثيل السياسي والقانوني. 

ضغط “غير مسبوق” على الأسد

وهذه المرة الأولى منذ 14 عاما التي يتكبد فيها النظام السوري خسائر على يد فصائل “المعارضة السورية”، خلال أسبوع واحد فقط. فهجمات فصائل “المعارضة” في شمال سوريا ومن ثم التوجه نحو عمق سوريا، والاستيلاء على كبرى المدن السورية، من حلب إلى حماة والآن تركيز المعارك على حمص وسط البلاد، في غضون أيام معدودة، وانهيار خطوط قوات الجيش السوري الأمامية الواحدة تلو الأخرى، يؤشر إلى أن بقاء نظام بشار الأسد موضع شك وتساؤل. ويمكن القول، إن هذه التطورات الدراماتيكية في سوريا، لم يكن لولا وجود اتفاق خفي بين اللاعبين الدوليين المنخرطين في سوريا، تركيا وروسيا والولايات المتحدة.

حرق صورة الرئيس السوري بشار الأسد من قبل فصائل “المعارضة السورية”- “أ ف ب”

بالنظر إلى انهيار قوات النظام السوري بهذه السرعة وفي كبرى المدن السورية، نجد أن هذا لم يأت من فراغ، فنظام الأسد لم يحقق “انتصار” على القوى المعارضة خلال عام 2015 لولا التدخل الروسي بعد الإيراني، وصحيح أن موسكو وطهران أخذا بيد الأسد عاليا ليقول لحاضنته والعالم أنه “انتصر” على “الإرهاب” كما يصف معارضيه، إلا أنهما لم يتمكنا من الاستمرار في دعم الأسد، خاصة اقتصاديا، ولهذا السبب أصبح نحو 90 بالمئة من سكان المناطق الخاضعة لحكم نظام دمشق تحت خط الفقر. ولولا لجوء الأسد إلى عمليات تهريب “حبوب الكبتاغون” لتغذية مؤسساته وجيشه، لما كان قادرا على رفد اقتصاده الذي احتمى به لتوفير موارده المختلفة، بما فيها الأمنية والعسكرية.

ومع ذلك، فإن حكمه بقي ضعيفا ولم يتمكن من إقناع السوريين بمستقبل جيد ينتظر البلاد، رغم عمليات “التطبيع” التي جرت معه وعودته إلى “جامعة الدول العربية”، وكل ذلك كان بسبب تراجع الدعم الإيراني والروسي تدريجيا ولا سيما في الوقت الراهن، ولهذا السبب أصبح موقفه اليوم أضعف من أي وقت مضى.

لماذا الآن؟

قد يتساءل المرء لماذا تحركت فصائل “المعارضة السورية”، وبضوء أخضر تركي، بل وبدعم عسكري واستخباراتي تركي وفق مراقبين، الآن؟

الإجابة ربما: هجمات فصائل “المعارضة السورية” جاءت في وقت صعب ومأزوم على إيران التي تعاني صعوبات عديدة نتيجة تقويض وكلائها في المنطقة، وحلحلة وجودهم في مناطق نفوذ مختلفة بين سوريا ولبنان، وذلك جرّاء انهاك حليفته “حزب الله” في لبنان، وحركة “حماس” في قطاع غزة على يد إسرائيل.

كما أن روسيا باتت منهكة من الحرب الأوكرانية، خاصة بعد هجمات كييف المباغتة على موسكو، وبالصواريخ الأميركية. بينما تهدف مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مطلع العام المقبل إلى تقليص الصراع والبدء في تسوية بشأن الأزمة على حدودها وفي مواجهة “حلف شمال الأطلسي” (الناتو).

وهنا يبدو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وجد أن الوقت مناسب أكثر من أي وقت مضى للتدخل في تغيير خارطة النفوذ بسوريا، ولا سيما بعد ممانعة بشار الأسد وعدم الاستجابة لدعواته للتطبيع وإيجاد حلّ سياسي لسوريا يتوافق عليه جميع السوريين.

تحرك تركيا المفاجئ الآن، يبدو أنه جاء بتنسيق وبموافقة الولايات المتحدة ضمنا، فبعد اجتماع “أستانا” الأخير تغيرت كل مجريات الأمور، إذ كان من الواضح عدم التوافق بين الدول الضامنة، وهنا يبدو أن تركيا نجحت في إقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، للتخلي عن بشار الأسد المرهون لقرار إيران.

لا شك أن غض روسيا الطرف عن تقدم فصائل “المعارضة السورية” ضد قوات النظام السوري، يشير إلى وجود اتفاقات ضمنية بين تركيا وروسيا، وهو ما يشكل ضغطا مزدوجا على الأسد للخضوع لحلّ سياسي شامل للبلاد، أو تركه وحده مع إيران.

ويبدو أن هذا الضغط التركي الروسي جاء مصحوبا بتوافق واشنطن وإسرائيل عليه، اللتين تراقبان الحدود اللبنانية مع سوريا من جهة، والحدود العراقية مع سوريا من جهة أخرى، وذلك لمنع حشد أي دعم من الفصائل العراقية المسلحة أو “حزب الله” اللبناني لدعم الأسد، والأحداث على الأرض تبين صحة الفرضيات.

لقاء سابق جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره السوري، بشار الأسد- “وكالات”

ويقول مصدر ديبلوماسي عربي لـ”الحل نت”، “تتعدد الرؤى التي ينبغي النظر من خلالها للأزمة في سوريا وذلك ارتباطا بتعدد الفاعلين في تطور الأحداث ميدانيا”.

بيد أنه من اللافت أن روسيا التي بدت خلال الأيام الأخيرة تنفض يدها عن بشار الأسد وتناقش مستقبل وجودها في الجغرافيا السورية بعد نظام الأسد الابن وجدت نفسها في معادلة مركبة مع تركيا وإيران وعليها أن تبحث عن نقطة توازن واقعية تدفعها لإدارة ملف سوريا مع الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، بحسب المصدر الديبلوماسي.

ماذا لو رضخ الأسد؟

تصريح رجب طيب أردوغان اليوم بأن دمشق الهدف التالي للفصائل بعد حلب وحماة وحمص، يؤكد بأن ثمة ضغط على الأسد للرضوخ لحل سياسي.

وبالتالي، نحن أمام عدة سيناريوهات، فإذا قبل الأسد بالبدء بحلّ سياسي لسوريا وانخراط كافة القوى السورية في العملية الانتقالية السياسية للبلاد، فإن ذلك سيحقق عدة أهداف مشتركة بين تركيا وروسيا والدول العربية، وأخيرا الولايات المتحدة، فكيف ذلك؟

حلب في 5 ديسمبر 2024، بعد أيام على سيطرة الفصائل، بقيادة “هيئة تحرير الشام”، على المدينة الواقعة في شمال سوريا- “أ ف ب”

أولا، تركيا حتى الآن تترك الباب مفتوحا أمام الأسد للتوصل إلى حلّ سياسي لسوريا، وهذا واضح من تصريحات أردوغان والمسؤولين الأتراك. ومبتغى أردوغان من ذلك هو إشراك فصائل “المعارضة السورية” الموالية له في إدارة البلاد، خاصة في المناطق السنية (حلب وحماة وحمص، وربما العاصمة دمشق)، وبالتالي تكون له يد كبيرة في القرار السوري، فضلا عن عودة اللاجئين السوريين بتركيا إلى هذه المناطق والذين يبلغ عددهم حوالي 4 ملايين.

هدف تركيا الآخر هو فرض “طوق سني” من خلال إدارة الفصائل للمدن السورية ذات الغالبية السنية، حول “الإدارة الذاتية” لشمال شرقي سوريا، أي وضعهم كـ”ذئب” لعدم تفكير الأكراد بإنشاء أي مشروع كُردي في مناطق سيطرتهم.

ولا شك أن هذا المشروع الذي يفكر فيه أردوغان قد جاء برضا الولايات المتحدة، التي هنا تُرضي مخاوف أردوغان القومية من إقامة مشروع كُردي “انفصالي” من جهة، وتضع قوات سوريا الديمقراطية “قسد” أمام الأمر، وهو محاورة فصائل “المعارضة” لإدارة البلاد وفي الوقت عينه سيبقى “قسد” على استعداد لقتال تنظيم “داعش” الإرهابي مع التحالف الدولي. وتصريح صالح مسلم الرئيس السابق لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي PYD” في مقابلة مع “العربية”، على أن “الإدارة الذاتية” مستعدة للحوار مع “هيئة تحرير الشام”، ومع تركيا أيضا والمطالبة بعقد حوار سوري-سوري، ربما جواب كافي على هذه الفرضية.

أما روسيا فإن تخليها عن الأسد يمثل ضغطا عليه للقبول بالبدء بحلّ سياسي، وهدف روسيا من ذلك، كما ذكرنا آنفا، هو “التفاوض مع الولايات المتحدة بشأن أوكرانيا من جهة”، وشدّ تركيا إلى صفها، بغية تلقي الدعم منها في حال استمرار الحرب بأوكرانيا، و”ربما” قد تلقى بوتين وعودا “إيجابية” من دول الخليج التي تريد إيجاد حلّ سريع للأزمة السورية، في حال تخليه عن الأسد.

والدول العربية ولا سيما الخليجية، ففي حال قبول الأسد بالبدء بحلّ سياسي، والذي حتما سيظهر ذلك في اجتماع “أستانا” القادم بالدوحة، سترحب بذلك، فهي من جهة يهمها إيجاد حلّ لجميع السوريين، ومن جهة أخرى تريد إنهاء النفوذ الإيراني بسوريا، والأهم من كل ذلك، وضع حد لعمليات تهريب “الكبتاغون”.

وأخيرا، بشار الأسد، في حال موافقته الانفكاك عن محور إيران، فإن الدول العربية ستتوسط له مع الدول الغربية لمناقشة ملف العقوبات على سوريا ودعم اقتصاده، وإعادة تعويمه دوليا إلى حد ما.

سؤال أخير بشأن شرعية “الفصائل” وسوريا

في ضوء كل ذلك، إذا رفض الأسد القبول بحلّ سياسي شامل، فإنه سيسقط حتما، وسط غياب دعم روسي، ومن ثم ستحل فصائل “المعارضة السورية” محل النظام السوري، لكن يبقى هناك تساؤل هام ومباشر ولا بد من طرحه هنا: هل ستقبل الدول الإقليمية والدولية بإعطاء الشرعية لهذه الفصائل، وبقيادة أبو محمد الجولاني الراديكالي (أحمد الشرع)، رغم ترويجه لنفسه ولمشروعه الجديد وتصريحه بأنه سيحل تنظيمه من بنيته العقائدية والعسكرية، خاصة بعد خطابه الذي طمأن فيه السفارات الدولية بدمشق بـ”خطاب مدني”، أم أن سوريا ستكون على شفا حرب أهلية جديدة؟

مقاتلون من فصائل “المعارضة السورية” يحملون أسلحة أمام مبنى محافظ حماة أثناء تجمعهم بعد أن استولوا على المدينة، 5 ديسمبر/كانون الأول 2024- “محمود حسانو/ رويترز”

وبالعودة إلى حديث المصدر الدبلوماسي العربي، فإن “سقوط قوات بشار الأسد لم يكن مفاجئا ولكن تراجع الدعم الروسي كان بذاته مسألة تستحق الفحص والانتباه ولهذا علينا ملاحظة الأيام القادمة عميقا وهل ستحافظ موسكو على جغرافيا دمشق كورقة تفاوض حاسمة أم كان رفض بوتين لقاء الأسد مؤخرا إشارة لانتهاء دوره؟”.

يواجه بشار الأسد تحديات معقدة أكثر مما كان عليه في عام 2015، عندما كان نظامه على وشك الانهيار، وأنقذته طهران وموسكو آنذاك، لكن البلدين الآن منهكتان وبحاجة إلى مفاوضات مع الدول الغربية لحل أزماتهما. وبالتالي، على من سيعوّل الأسد؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات