تُعتبر مشكلة تهريب المخدرات بكل أنواعها عبر الحدود العراقية من أخطر التحديات التي تواجه العراق والمنطقة بشكل عام. وقد شهدت هذه المشكلة تصاعدًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، مما أثار قلقًا كبيرًا لدى الحكومات والمنظمات الدولية. وساعدت العديد من العوامل على تفاقم هذه المشكلة، بدءًا من الوضع الأمني غير المستقر، الذي منح التنظيمات الإرهابية والفصائل المسلحة وبعض دول الجوار مجالًا أكبر لتهريب المخدرات إلى الداخل العراقي.
إضافة إلى ذلك، فإن امتلاك العراق حدودًا طويلة ووعرة، يصعب السيطرة عليها، خاصة مع الدول المجاورة، يسهم في تسهيل عمليات التهريب. إلى جانب ذلك، يشكل الفساد شبكة متورطة في تسهيل هذه العمليات. كما أن الأزمات الاقتصادية الكبرى التي يعاني منها المجتمع العراقي جعلت من تجارة المخدرات مصدرًا سريعًا للدخل.
اختفاء “كبتاغون” الأسد مع سقوطه
أعلنت الهيئة الوطنية لمكافحة المخدرات العراقية، الثلاثاء الماضي، أن حالات تهريب “الكبتاغون” على طول الحدود العراقية مع سوريا تراجعت بشكل كبير أو تكاد تكون قد اختفت منذ انهيار نظام بشار الأسد. وقال عضو الفريق الوطني لمكافحة المخدرات، حيدر القريشي، لـ”الحرة”: إن سقوط نظام الأسد أدى إلى انقطاع الطريق الرئيسي لتهريب الكبتاغون إلى العراق.
وأضاف القريشي: “السلطات العراقية لم تتخذ أي إجراءات للقبض على تجار المخدرات بعد سقوط نظام بشار الأسد”. وأكد القريشي أن سوريا كانت المصدر الأول للمخدرات غير المشروعة، قائلاً: “إن مادة الكبتاغون التي دخلت العراق من سوريا تشكل نحو 90 بالمئة من الكمية المنتشرة في العراق”.
تتهم الحكومات العربية والغربية دمشق بإنتاج عقار “الكبتاغون”، حيث تعتبر حدودها بوابات لدخول المخدرات إلى البلدان المجاورة، بما في ذلك العراق. وكان نظام الأسد يعمل على تنظيم تهريب “الكبتاغون” إلى دول الخليج العربي عبر شبكات متعددة الجنسيات، إذ يُعتبر “الكبتاغون” من المخدرات التي تسبب الإدمان وتدر أرباحًا كبيرة.
شاع استخدام “الكبتاغون” خلال الحرب في سوريا بعد عام 2011. واشتُهر بأنه “مخدّر الجهاديين” أو “كوكايين الفقراء”، إذ يسهم في زيادة الانتباه والتركيز ويؤخر الشعور بالنعاس والجوع، ما يفسر شعبيته بين المقاتلين الذين كانوا بحاجة إلى البقاء في حالة يقظة وتأهب.
وأوضح القريشي أن الجهات المختصة ضبطت خلال النصف الأول من العام الجاري 18 مليون حبة كبتاغون، وألقت القبض على أكثر من 6,000 شخص مرتبطين بالاتجار بالمخدرات. وأضاف أنه خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ضبطت وكالة الأمن الوطني العراقية أكثر من 500 ألف حبة كبتاغون مخبأة داخل سيارة محملة بالخضروات.
ويعلق الدكتور أنمار السراي، الباحث المختص في الشأن العراقي، في حديثه مع “الحل نت”، قائلاً: “صحيح أن سوريا الأسد كانت المنفذ الأول لدخول الكبتاغون إلى العراق، حيث كانت توجد وما زالت شبكات تهريب المخدرات على الحدود المشتركة بين سوريا والعراق. عمل الأسد على استخدام العراق كسوق واسع لتسويق منتجاته السامة. إلا أنه يمكننا القول إنه منذ سقوط الأسد أُغلقت الحدود العراقية مع سوريا، مما جعل تهريب المخدرات أصعب بكثير. ومع ذلك، لا يمكن الجزم بأن تهريب الكبتاغون أصبح معدومًا، خاصة أن المنافذ غير الرسمية ما زالت تشكل تهديدًا رغم أنها ذات تأمين عسكري عالٍ خوفًا من الجماعات المرتبطة بداعش والقاعدة”.
وأشار السراي، إلى أن مسؤولية تهريب “الكبتاغون” تقع على عاتق الحكومة العراقية ونظام الأسد في سوريا، إلا أن أحزاب السلطة في العراق تلعب دورًا كبيرًا في دعم انتشار المخدرات في البلاد. فعلى سبيل المثال، في بعض المدن الجنوبية من العراق، حيث تُمنع المواد الكحولية، نجد رواجًا لتجارة المخدرات، وكأن البديل للكحوليات هو المخدرات.
وأوضح السراي أنه في الآونة الأخيرة، ظهرت هذه الظاهرة بشكل واضح في بغداد، حيث تزامن إغلاق أماكن بيع الكحول مع انتشار أكبر للمخدرات، وهو ما يُعزى بشكل مباشر إلى أخطاء في سياسات الحكومة والأحزاب السياسية.
“الكبتاغون” أداة ضغط للأسد
أعلنت السلطات العراقية في آذار/مارس عام 2023 ضبط 3 ملايين حبة “كبتاغون” في منفذ القائم الحدودي مع سوريا، وسط تكثيف العمليات الأمنية لمواجهة انتشار هذه المادة. وفي الشهر نفسه، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا عقوبات على قائمة من الأشخاص المرتبطين بحكومة الأسد، بما في ذلك اثنان من أبناء عمومته، لتورطهم في تجارة المخدرات.

وقال تحقيق أجرته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) إنه توصل إلى أدلة تشير إلى تورط مسؤولين سوريين كبار آخرين، بالإضافة إلى أولئك الذين أُدرجت أسماؤهم بالفعل على القائمة السوداء. وهو المعنى ذاته الذي أكده القريشي، حيث أشار إلى وجود سياسيين “متنفذين” و”عصابات” مسلحة تدير عمليات تهريب المخدرات وتوزيعها في العراق وتصديرها إلى تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي.
وعلى الرغم من إنكار نظام الأسد المتكرر للمعلومات التي تفيد بصناعته “الكبتاغون”، إلا أن مقاطع فيديو عديدة كُشفت بعد سقوطه، أظهرت وجود مصانع تعمل بإشراف شقيقه ماهر الأسد.
ورغم من المخاطر الكبيرة التي يشكلها “الكبتاغون” على الأمن والسلام العربي والدولي، إلا أن هناك خطرًا أكبر يتمثل في استخدام نظام الأسد وحلفائه الاتجار بالكبتاغون كورقة ضغط على الدول العربية. هدف النظام من هذا الضغط هو إعادة سوريا إلى الحظيرة العربية وانتزاع تنازلات تسمح له بتعزيز موقعه بعد ثلاثة عشر عامًا من الصراع.
لكن حتى هذا الأمر لم يكن كافيًا للحد من إمدادات “الكبتاغون”، إذ إن إنتاج هذه المادة كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بمصالح مجموعات نافذة في سوريا، بما فيها كبار المسؤولين في القيادة. ومن أجل ضمان تعاون نظام الأسد، ينبغي أن تكون التنازلات الخليجية كبيرة، وأن تلبي حاجاته الماسة إلى الموارد المالية والمساعدات اللازمة لإعادة إعمار سوريا كما كان يحلم، فضلًا عن الدعم السياسي في وجه المطالب الغربية بتغيير النظام.
كما أن الأسد اعتمد على الاتجار بالكبتاغون كمصدر رئيس لتوفير العملة الصعبة. وهذا يتفق إلى حد كبير مع ما أشار إليه مصدرنا الخاص، إذ قال: “نظام الأسد كان يستخدم الكبتاغون كأداة ضغط سياسية ليس فقط على العراق وإنما على جميع دول العالم. حيث تحولت العراق والأردن وتركيا إلى محطات عبور لمنتجاته من المخدرات التي غزا بها العالم. وهذه إحدى الاستراتيجيات التي يستخدمها النظام. فقد عمل على تصدير العديد من الأزمات والكوارث البشرية مثل تصدير الإرهاب والقصف العشوائي الذي أدى إلى ملف اللاجئين واستخدامه كورقة ضغط على المجتمع الدولي. ثم بدأ في استخدام استراتيجية تهريب المخدرات منذ عام 2018 كأداة سياسية يهدد بها أعداءه. ومما هو معروف للجميع أن خط تهريب الكبتاغون من سوريا إلى العراق كان تحت إشراف ماهر الأسد بشكل مباشر”.
وأضاف المصدر: “حتى أن ماهر الأسد الآن في ضيافة شخصية نافذة وكبيرة في محافظة السليمانية التابعة لإقليم كردستان شمال العراق. وهذه الشخصية السياسية كانت شريكة له في عمليات تهريب المخدرات من سوريا إلى العراق وإلى العالم”.
وعود ومحاولات كاذبة للأسد
في الماضي، قدم الأسد العديد من الوعود لكل من العراق والأردن بشأن التعاون للتخلص من تجارة المخدرات، إلا أن هذه الوعود كانت صعبة التحقيق. فقد كشفت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أن قيمة تجارة “الكبتاغون” في سوريا تُقدر بحوالي ثلاثة أضعاف تجارة كارتلات المخدرات المكسيكية مجتمعة.
وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي كانت تعاني منها سوريا، خصوصًا في ظل الضغط الذي يرزح تحته اقتصادها بفعل العقوبات الأميركية والأوروبية، كان من المستبعد أن يتخلى النظام عن صناعة تدر مليارات الدولارات. يضاف إلى ذلك أن الأسد وشركاءه اعتمدوا اعتمادًا كبيرًا على عائدات تجارة “الكبتاغون” للحفاظ على ولاء الوحدات العسكرية والميليشيات، وهو ولاء كان عاملًا أساسيًا في بقاء النظام.
إذًا، لم تكن القيادة السورية لتضحي بهذه التجارة دون تأمين مصادر تمويل بديلة في ذلك الوقت. وحتى لو أراد نظام الأسد بالفعل كبح إنتاج “الكبتاغون” وتوزيعه، لم تكن هناك ضمانات بأنه قادر على ذلك بصورة فعالة. فقد كان سيواجه صعوبات في ضبط جميع الجهات المتورطة في تجارة “الكبتاغون”، لأن هذه الشبكة واسعة النطاق وتضم الكثير من اللاعبين الخارجين عن سيطرته.
من ناحية أخرى، لا تمتلك العراق قوة ضغط كافية تمارسها على الأسد لوقف دخول “الكبتاغون” إلى أراضيها. ففي محافظة الأنبار، غربي العراق، نفذت السلطات العراقية عملية أمنية جديدة لمكافحة تهريب المخدرات في نهاية شباط/فبراير 2024، حيث ضبطت 80 كيلوغرامًا من مادة “الكبتاغون” المخدرة.
وهذا يدل على أن التخلص من تجارة “الكبتاغون” التي تدفقت إلى دول العالم لم يكن ممكنًا إلا بسقوط الأسد ونظامه.
“الكريستال” الإيراني إلى الواجهة
مع احتمالية تقليل تدفق كميات “الكبتاغون” إلى الأراضي العراقية، ينشأ احتمال آخر يتمثل في أن تقليل كميات “الكبتاغون” قد يصب في صالح زيادة تدفق مادة “الكريستال” الإيرانية. ففي الوقت الذي أعلنت فيه الهيئة الوطنية لمكافحة المخدرات العراقية عن تراجع تدفق “الكبتاغون” السوري، أعلنت القوات الأمنية العراقية، الأحد الماضي، عن اعتقال مسافرتين، إحداهما عراقية والأخرى أجنبية، بتهمة محاولتهما تهريب أكثر من كيلوغرام من مادة الميثامفيتامين الكريستالية عبر منفذ الشلامجة الحدودي الرئيسي بين العراق وإيران، جنوب البصرة.
وأكدت وزارة الداخلية في بيان لها: “نجحت مديرية حدود الشلامجة في اعتراض وضبط أكثر من كيلوغرام من مادة الكريستال ميثامفيتامين المخدرة، والتي تم إخفاؤها بطريقة احترافية في محاولة تهريبها إلى داخل البلاد”.
تستفيد قوات “الحرس الثوري” الإيراني ووكلاؤها من تجارة المخدرات غير المشروعة، مثل الميثامفيتامين، من خلال إضعاف مجتمعات الدول المجاورة وتوفير تجارة مربحة، ولكنها مميتة.
ويؤكد السراي: “تكمن الخطورة الأولى في غياب الإحصائيات الدقيقة سواء عن الكميات المتدفقة عبر الحدود العراقية الإيرانية لمادة الكريستال، أو حتى الإحصائيات المبدئية التي تشير إلى عدد الأشخاص المدمنين عليه. أما الخطورة الثانية فتتمثل في طبيعة الكريستال نفسه، فهو عبارة عن مادة سائلة يتم استنشاقها بالحرارة، ويُعد الأكثر رواجًا في العراق؛ لأنه من المرة الأولى يتحول الإنسان معه إلى مدمن”.
ويظهر تقرير لمكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات أن “حوالي 40% من المخدرات المستوردة إلى إيران تبقى في هذا البلد، بينما تذهب الـ60% المتبقية إلى العراق وتركيا وأذربيجان، وأخيرًا إلى أوروبا”.
وجاء في تقرير سري للأمم المتحدة، نشره موقع “ويكيليكس” نقلًا عن تقرير السفارة الأميركية، أن “الحكومة الإيرانية تعتبر أكبر تاجر مخدرات في العالم”.
وإيران لها أهدافها من هذه التجارة التي تتمثل في:
1- الحفاظ على نفوذها في المنطقة العربية: تجارة المخدرات غير المشروعة هي إحدى الوسائل التي تستخدمها إيران لتحقيق ذلك.
2- القضاء على المعارضين السياسيين: استهداف المعارضين الإيرانيين في الخارج وخلق جوٍّ من عدم الأمان النفسي لديهم.
3- تمويل الميليشيات المدعومة: توفير الأموال اللازمة لدعم الميليشيات التابعة لإيران في المنطقة.
وأخيرًا، إذا كان الشعب السوري قد تمكن من إسقاط الأسد ونظامه، فإن الأسد ترك ميراثًا ثقيلًا ليس فقط لسوريا وشعبها، وإنما لكل دول الجوار الممتدة عبر الحدود مع سوريا، كالعراق ولبنان والأردن، التي تحولت، هي وغيرها، إلى مراكز لتصدير “الكبتاغون”. وإذا كانت سوريا تحتاج إلى عقود للتخلص من بقايا طغيان الأسد، فإن العواصم التي أغرقها “الكبتاغون” تحتاج إلى العقود ذاتها للتخلص من آثاره.
- “سيحاكمون”.. الشرع يرفض الطلب الجزائري بتسليم المقاتلين الجزائريين في صفوف الأسد
- انعكاسات محتملة.. ما مردود قرار تركيا رفع القيود عن الواردات السورية؟
- الشرع يتحدث عن أسباب رحلته إلى العراق وانضمامه “للقاعدة”
- “دعمنا لسوريا مستمر حتى مع تغيير النظام”.. موسكو تغازل دمشق
- رغم رفع جزء من العقوبات.. لماذا تفشل الإدارة السورية في جذب استثمارات جديدة؟
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
مقالات ذات صلة

العلاقات السورية العراقية: ماذا طلب السوداني من دمشق؟

روسيا في سوريا: مصير مجهول وفرص ضعيفة للبقاء

عودة أم فشل جديد: ماذا وراء التحركات الإيرانية في أوراسيا؟

طهران: ندعم أي حكومة يؤيدها السوريون.. والشرع يزور تركيا غداً
الأكثر قراءة

وعود حكومية بلا تنفيذ.. هل توقفت بوادر حلول الأزمات السورية؟

وزير النقل السوري يتحدث عن آليات جديدة لتسعير السيارات.. ماذا قال؟

وزير الداخلية السوري: التعاون مع روسيا يخدم دمشق

وزارة الداخلية دفعت محمد الشعار إلى تسليم نفسه.. ماذا قالت؟

وثّقَ تعذيب السوريين بسجون الأسد.. تفاصيل جديدة عن “قيصر”

واشنطن تتحدث عن سحب قواتها من سوريا.. و”قسد” تؤكد عدم تلقيها خططا رسمية
المزيد من مقالات حول في العمق

عن ضرورة انفكاك دمشق عن موسكو

الإرث الحضاري بشرق سوريا.. بين تهميش الأسد وتخريب “داعش”

روسيا في سوريا: مصير مجهول وفرص ضعيفة للبقاء

التعليم في شرق سوريا.. عقود من التهميش الممنهج

عودة أم فشل جديد: ماذا وراء التحركات الإيرانية في أوراسيا؟

فصائل إيران المسلحة: قنابل موقوتة في العراق

الزيارة الخارجية الأولى للرئيس الشرع إلى السعودية: رسائل دولية وملفات على أجندتها
