جاءت تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أول أمس الجمعة، التي أكد خلالها على الالتزام بحل شامل للأوضاع في سوريا مع احترام سيادتها ووحدة أراضيها، لتثير التساؤلات حول مستقبل الوجود الروسي في سوريا بعد الإطاحة بنظام الأسد، وتواجدها لسنوات في سوريا عملت خلالها على نهب الاقتصاد السوري عبر دعم إطالة أمد الحرب، ومدى قدرة موسكو على التسوية مع الإدارة السورية الجديدة.
تصريحات بوتين بشأن سوريا لم تكن الأولى بعد فترة من التزامه الصمت تجاه تطورات الأوضاع فيها، فبعد مرور أكثر من عشرة أيام من سقوط نظام حليفه بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أكد الرئيس الروسي خلال حضوره مؤتمر صحفي يعقده بشكل سنوي، أن “روسيا لم تُهزم في سوريا بسقوط الأسد”.
روسيا والتسوية مع الإدارة السورية
بوتين أكد أن روسيا حققت أهدافها في سوريا، وهي منع انتشار الإرهاب، مشيرًا إلى أن بلاده قدمت اقتراحات للحكام الجدد في دمشق بشأن بقاء القاعدتين الروسيتين (الجوية في حميميم والبحرية في طرطوس) لإيصال المساعدات الإنسانية إلى سوريا.
فُسرت تصريحات بوتين بأنها إنكار للواقع ووجود سلطة جديدة كانت تقصفها روسيا منذ ما يقرب من عقد من الزمن، وبخلاف خسارتها واحد من أهم حلفائها، يعكس انهيار نظام الأسد سقوط حجر الزاوية للنفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط، وهو الهدف الأول لوجود موسكو في سوريا، بعد سعيها لتوظيفه لخدمة مكانتها الدولية وتأكيد حضورها على مسرح السياسة الدولية.

كانت روسيا بدأت تنفيذ هدفها من خلال الوجود في سوريا منذ عام 2015 بتدخلها لحماية نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد من الانهيار، ومساندته في وجه المعارضة.
وسعى الرئيس بوتين منذ ذلك الوقت إلى تعزيز علاقات التحالف الاستراتيجي مع سوريا باعتبارها بوابة موسكو إلى المياه الدافئة من خلال البحر المتوسط.
مشاريع روسية مُهددة بالفشل
خسارة موسكو دمشق قد تدفعها نحو التسوية مع الإدارة السورية الجديدة، إضافة إلى إحباط بعض طموحاتها بالمنطقة، ومشاريعها في سوريا بالفشل، وهي:
في عام 2015 تمكنت موسكو من توقيع اتفاق مع الحكومة السورية بأن تمنح قواتها الحق في استخدام قاعدة حميميم جنوب شرق مدينة اللاذقية، حتى أن العقد يمكن الروس من استخدامها في كل وقت دون مقابل ولأجل غير مسمى.
في عام 2017 حصدت روسيا أهم ما جنت من مكاسب على الإطلاق، وهو مركز دعم ينتمي لقواتها البحرية بميناء طرطوس وتعتبر النقطة الوحيدة المطلة على البحر الأبيض المتوسط التي تتبع لروسيا وهي مخصصة لإصلاح وتجديد أسطولها البحرية.
وفي عام 2019 أعلن مسؤول روسي بعد زيارته دمشق أن بلاده تعمل على إتمام الأوراق اللازمة لاستئجار مرفأ طرطوس لمدة 49 عاما من الحكومة السورية.
وصادقت حكومة دمشق عام 2021 على اتفاق يمنح شركة كابيتال الروسية حقوق البحث واستخراج النفط في البلوك رقم واحد بالبحر المتوسط.
في مجال الغاز كان من المفترض أن تبدأ شركة زيوس للغاز استخراج الغاز من البلوك البحري رقم 2 بالمياه الإقليمية السورية، بعدما أنجزت عمليات الاستكشاف والتنقيب في هذا الحقل خلال الفترة الماضية.
وركزت روسيا على الساحل السوري بشكل رئيسي ذلك المكان الغني بالفرص الاستثمارية السياحية، حيث وقعت إحدى شركاتها عام 2018 عقدًا استثماريا لمدة 45 عاما.
على ساحل مدينة اللاذقية، تهيمن الشركات الروسية كذلك على قطاع الفوسفات في سوريا، ففي عام 2018 صادق الرئيس المخلوع بشار الأسد على عقد مدته خمسين عامًا تقوم بموجبه شركة روسية باستخراج خام الفوسفات من المناجم الشرقية الضخمة بمدينة تدمر وسط البلاد والتي تقدر احتياطاتها بقيمة 1.8 مليار طن.
حسم سوري وتحول روسي
حسم قائد المرحلة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع، الجدل بشأن مستقبل العلاقات مع روسيا، بالتأكيد على أهمية التعاون مع الروس، خاصة وأن روسيا ثاني أقوى دولة في العالم ولها أهمية كبيرة، ولدمشق مصالح استراتيجية معها.
وفي كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أعلنت حكومة تصريف الأعمال في سوريا، أنها تعيد دراسة العقود التي وقعت مع روسيا خلال فترة حكم الرئيس السابق بشار الأسد، كما أنها تجري عملية جرد للشركات والعقارات التي كان يستولي عليها المقربون من النظام في السابق.

وقال وزير النقل في حكومة تصريف الأعمال السورية بهاء الدين شرم: “نعيد دراسة العقود التي وُقعت مع الجانب الروسي لاستثمار الموانئ في سوريا”، ويأتي هذا التصريح على الرغم من أن روسيا كانت السبب الرئيسي في تقدم الأسد نحو إدلب وتدمير معظم مبانيها التحتية خلال الفترة الفائتة.
أما عن الجانب الروسي فشهد موقف موسكو تحولًا شديدًا تجاه الإدارة السورية الجديدة، حيث تحاول التفاوض وبناء علاقات مع الإدارة السورية الجديدة بتقديم نفسها كوسيط دولي يمكنه ضمان الاستقرار وإعادة بناء اتفاقات عسكرية واقتصادية جديدة لتجنب خسائر أكبر أمام تنافس قوًا دولية وإقليمية.
وعكس الموقف الروسي الجديد تأكيد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف استعداد بلاده للمساهمة في دفع مسار العملية السياسية في سوريا، وقال إن موسكو “لم ولن تنسحب من الشرق الأوسط”، مشدداً على استمرار التواصل مع القيادة السورية الجديدة.
لم يقتصر على ذلك، بل حمل الوزير الروسي خلال مؤتمر صحافي في موسكو، النظام السوري السابق المسؤولية عن تدهور الوضع في البلاد، وقال إن “عدم رغبة النظام السوري السابق في تغيير أي شيء، وتقاسم السلطة مع المعارضة كان من أهم أسباب انهياره، كذلك المماطلة في العملية السياسية ورغبة النظام في إبقاء الوضع على ما هو عليه”.
تحول الموقف الروسي عكسته أيضًا تصريحات إعلامية لمبعوث الرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف، بأن “العلاقات بين روسيا وسوريا تدخل في منعطف نوعي جديد”.
إضافة إلى إشادة مندوب روسيا بالأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا بالسلطات الجديدة في دمشق، ووصفها بأنها تتصرف حاليا بكفاءة، وتتحدث عن اهتمامها بالحفاظ على الوجود الروسي في سوريا.
مجاملات دبلوماسية
في السياق رأى خبير العلاقات الدولية، الدكتور أيمن سمير، خلال حديث خاص مع “الحل نت”، أن التصريحات الإيجابية المتبادلة بين كل من روسيا وسوريا تأتي في إطار ما يسمى بـ”مجاملات دبلوماسية”، مشيرًا إلى أنه عندما سؤل قائد الإدارة السورية أحمد الشرع عن العلاقة السورية الروسية قال “أنظر إليها بعمق العلاقة الطويلة التي كانت بين البلدين”، مؤكدًا أنها في سياق المُجاملة.
المصالح الاقتصادية بعيدة بين الإدارة الجديدة لسوريا وروسيا، وفقًا لبعض الشواهد التي تعكس ذلك، أبرزها أن دمشق بدأت خطوة واضحة من خلال إبلاغ إدارة المعابر والجمارك بحظر دخول أي بضائع ذات منشأ روسي إلى الأسواق السورية.
خبير العلاقات الدولية، الدكتور أيمن سمير
وأكد سمير، أن تلك الخطوة تعد مؤشرًا قويًا بأن الإدارة الجديدة تريد قطع كل حبال الوصل ما بين سوريا وروسيا بما فيها المسارات الاقتصادية والتعاون الاقتصادي الذي كان في السابق.
وأضاف أن هناك رؤية سلبية لدى الإدارة الجديدة فيما يتعلق بالتعاون الاقتصادي بين النظام السوري السابق وروسيا، خاصة وأن هناك حديث حول تهريب الأموال السورية من خلال النظام البائد إلى روسيا التي حصلت بدورها على أموال طائلة مقابل دعم النظام السابق وتحديدًا دعمه بالسلاح.
وأردف بأن ذلك الانطباع السلبي تجاه روسيا، جاء بسبب مساهمتها في تعطيل وتأجيل نجاح الثورة السورية، فمنذ بداية من أيلول/ سبتمبر من عام 2015 عملت موسكو على إبقاء نظام الأسد حتى كانون الأول/ ديسمبر 2024، ليتأجل حلم الثورة بالنسبة للإدارة السورية الجديدة بسبب روسيا ما يقرب من عشر سنوات، وهو ما يدفع الإدارة الجديدة نحو قطع هذه العلاقة.
التقارب الغربي
أشار خبير العلاقات الدولية لـ”الحل نت” إلى أن الإدارة السورية الجديدة ذات هوى غربي أميركي وأوروبي، مدعوم من حلف دول شمال الأطلسي والناتو، وهو ضد وجود أي موطئ قدم لروسيا في سوريا، سواء كان دبلوماسيا أو اقتصاديا أو عسكريا، مرجحًا رحيل القواعد العسكرية الروسية عن سوريا في الأمد المتوسط وليس البعيد.
وقال إن هناك اعتقاد لدى الغرب بأن أي وجود لروسيا في سوريا يمثل نقطة ارتكاز لها قريبة من البحر الأسود، حيث المعارك بينها وأوكرانيا، وكذلك نقطة ارتكاز لتوزيع المساعدات والدعم اللوجيستي وحتى الاقتصادي الروسي من سوريا إلى إفريقيا عبر ليبيا، وهو ما دفعها بعد سقوط نظام الأسد لنقل جزء من أصولها العسكرية والاقتصادية إلى ليبيا.

روسيا دائمًا ما يراودها حلم التواجد في المياه الدافئة وبالمقابل دائمًا ما يعمل الغرب على منعها من تحقيق هذا الحلم، لذا يرفض “الناتو” تواجدها بالشرق الأوسط، فخلال أكثر من خمسة عقود عمر حكم آل الأسد ظل لموسكو موطئ لهذا القدم سواء الاقتصادي أو العسكري أو السياسي، وفقًا خبير العلاقات الدولية، الدكتور أيمن سمير.
وأردف: “اليوم مع الإدارة الجديدة لن يكون هناك أي وجود حقيقي لروسيا سواء اقتصاديًا أو عسكريا.. ربما يكون هناك تواجد للسفارة الروسية”.
وأكد أنه لا يمكن للولايات المتحدة الأميركية التي دعمت ثورة سوريا منذ عام 2011 حتى 2024 أن تسمح لاستمرار روسيا بذات الطريقة وذات الأدوات في سوريا، مشيرًا إلى أن هناك دول أخرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا ونيوزيلندا ضد التواجد الروسي في سوريا، ويعتبرونها شريكا في جرائم عهد الأسد.
وقال إن فكر تغيير الصورة النمطية والعودة كأن لم يكن شيئًا بين الإدارة الجديدة في سوريا وما بين روسيا مستحيل على الأقل في المدى القريب والمتوسط قد يصل إلى عشرة سنوات، ربما في المدى البعيد قد تتغير المعادلات،مضيفًا أن في الوقت الحالي ستكون سوريا عنوان إلى الجانب الآخر صديقة للولايات المتحدة الأميركية وبعيدة عن ما يسمى بمحور المقاومة إيران وحزب الله وروسيا لأن كل هؤلاء كانوا في بوتقة واحدة خلال عهد الأسد البائد.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
الأكثر قراءة

وصفت بـالتاريخية لحظة تصديق الشرع على الإعلان الدستوري

هل تستفيد المصارف السورية من تعليق العقوبات عن “البنك المركزي”؟

هجوم لفلول النظام على حاجز للأمن العام بدمشق

نزوح الآلاف من الساحل السوري باتجاه لبنان.. تفاصيل

ميليشيات عراقية تعتدي على سوريين وتعتقلهم

ميليشيا عراقية تعتدي على السوريين.. دمشق تندّد والسوداني يأمر باعتقال المتورّطين
المزيد من مقالات حول اقتصاد

لغز توقف إعادة الربط الكهربائي بين سوريا والأردن.. هل قطر السبب؟

مسؤول يكشف حقيقة السفن القطرية والتركية.. سوريا بلا كهرباء إلى أجل غير مسمى

“وزارة الاقتصاد” تستعرض انجازاتها.. هل انعكست على معيشة السوريين؟

ضوابط ورسوم جديدة تهدد بانهيار قطاع التخليص الجمركي في سوريا.. ما علاقة الاحتكار؟

الغلاء يضع بصمته على “الأكلات التراثية” السورية.. ما سبب ارتفاع أسعارها؟

3 شروط لتنفذ الحكومة السورية وعدها بزيادة الرواتب.. ما علاقة سعر الصرف؟

قطر تزود سوريا بالغاز الأميركي.. ما حقيقة دور الدوحة في مساعدة دمشق؟
