وقّع رئيس المرحلة الانتقالية السورية، أحمد الشرع، وقائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مظلوم عبدي، قبل يومين اتفاقًا وصفه كثيرون بـ”التاريخي”. ينصّ الاتفاق على دمج جميع المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال وشرق سوريا، بما في ذلك المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز، التابعة لـ”الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا ضمن إطار الدولة السورية.

يمثل توقيع هذا الاتفاق محطة بالغة الأهمية، لا سيما عند النظر إلى توقيته الحساس وتزامنه مع تطورات داخلية في جغرافيا الساحل السوري، إضافة إلى ردود الفعل الدولية القوية التي رافقته. وتأتي هذه الخطوة بعد سلسلة من المشاورات المتكررة بين عبدي والشرع، ما يعكس محاولة واضحة للاستجابة لإرادة الفاعلين في الملف السوري الساعين إلى تفادي انزلاق البلاد نحو سيناريوهات الفوضى أو استغلال التناقضات الداخلية لصالح أجندات إقليمية.

ومن هنا، ينبغي النظر إلى هذا الاتفاق ليس من زاوية الترحيب أو التفاؤل فقط، بل باعتباره خطوة استراتيجية يمكن أن تشكل أساساً لبناء نموذج مستدام للتعايش الوطني بين مختلف مكونات المجتمع السوري. ويعد ما جرى بين الشرع وعبدي نموذجًا يمكن البناء عليه لتطوير بنية مؤسساتية قائمة على الاعتراف الكامل بحقوق جميع الطوائف والقوميات ضمن دولة تحترم التعدد والتنوع.

تنفيذ فعلي لبنود الاتفاق

برغم إيجابية الاتفاق بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي، إلا أن ثمة مسارات ينبغي العمل عليها حتى نستطيع أن نرى تبعات هذا الاتفاق على سوريا ومستقبلها، الأمر الذي يمكن رؤيته من خلال الالتزام ببنود الاتفاق الذي وقعته الإدارة الجديدة مع مظلوم عبدي، قائد قوات “قسد”، والعمل على تشكيل اللجان الخاصة بتنفيذ كل بند وارد في الاتفاق، وفق نواف خليل، مدير “المركز الكُردي للدراسات والأبحاث”.

رئيس المرحلة الانتقالية السورية، أحمد الشرع، وقائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مظلوم عبدي- “الرئاسة السورية”

وربما الأهم، بعد الترحيب الشعبي الواسع والتأييد العربي والدولي للاتفاق، أن يفضي ذلك إلى إغلاق الطريق أمام خطاب الكراهية وتجريمه في البلاد، بحسب خليل لـ”الحل نت”.

وعليه يمكن القول إنه لجعل اتفاق عبدي – الشرع إطارًا استراتيجيًا طويل الأمد، بدلًا من كونه تفاهمًا تكتيكيًا مؤقتًا، ينبغي على الإدارة الجديدة في سوريا العمل على ترسيخ نموذج اللا مركزية كخيار مستدام يعزز الاستقرار والعدالة بين جميع المكونات والطوائف، وفق بروين يوسف، الرئيسة المشتركة لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي”.

وترى بروين يوسف، في سياق حديثها مع “الحل نت”، أن ذلك يتحقق من خلال تحويل الاتفاق إلى رؤية استراتيجية ضمن إطار الدولة اللامركزية. فضلا عن إصلاحات دستورية تشمل الجوانب المختلفة المطلوبة والملحة، مثل وجود إطار قانوني تشريعي يحمي التعددية، ويضمن التوزيع العادل للثروات والموارد من دون ثنائية المركزية والهامش على طريقة “البعث”.

ذلك يتطلب ضرورة تدشين عقد اجتماعي جديد يقوم على الضمانات والمساواة، والذي لا بد من تقديم التزامات واضحة تكفل تمثيل جميع الطوائف والمكونات، وضمان حقوقها في إدارة شؤونها وفق مبدأ المواطنة المتساوية، وفق يوسف.

وبالعودة إلى مدير “المركز الكُردي للدراسات والأبحاث” نواف خليل: “الأمر الآخر الذي أراه ضروريًا وهامًا، وهو ما أقرّه الاتفاق في بنده الأول، هو ضرورة تمثيل جميع السوريين، سواء من المكونات القومية أو الدينية أو الإثنية أو الطائفية”.

ويلفت إلى أنه لتعزيز هذا التمثيل، يجب وضع حد لما يجري في الساحل السوري بصورة عاجلة، وتقديم من ارتكبوا الجرائم إلى منصة العدالة الناجزة. وربما ذلك يحتاج، يقينًا، إلى وقف عاجل لكل حملات التحريض والكراهية، والبدء بإشراك جميع القوى السياسية الأخرى في النقاشات الجارية.

ويختتم نواف خليل حديثه لموقع “الحل نت” بقوله: “أعتقد أن أي اتفاق سيتأثر حتمًا بجملة التغييرات الداخلية والإقليمية. واللافت أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رحّب بهذا الاتفاق، لذا يمكننا فهم ذلك باعتباره أولى تجليات الحوار الذي بدأ قبل عام، وكُشف عنه قبل ثلاثة أشهر بين الدولة التركية ومؤسس وقائد حزب العمال الكُردستاني (PKK)، عبد الله أوجلان، للبحث في إيجاد حل للقضية الكُردية”.

حل القضية الكُردية مدخل لاستقرار سوريا

من جانبه، اعتبر الكاتب اللبناني حنا صالح أن العاشر من شهر آذار/مارس الجاري يوم مجيد في تاريخ سوريا، مضيفا في حديثه لـ”الحل نت” أنه “يوم يبعث على التفاؤل بينما يعوّض بعض ما ألمّ بالسوريين من وجع نتيجة الآثام التي تعرّض لها الناس في منطقة الساحل. إنه يوم طيّ صفحة تآمر وإجرام بحق الكُرد، فتحها حزب البعث الذي تسبب بدمار سوريا والعراق، وكان الأشد تآمرًا على الشعب الفلسطيني وقضيته، وألحق أذى كبيرًا بلبنان واللبنانيين”.

“ما ينبغي على دمشق فعله حتى يصبح الاتفاق استراتيجيًا وتفاعليًا، أنه يجب العمل على تبني سياسة وطنية سورية مستقلة، بعيدة عن التبعية أو التشغيل التركي، والعمل بنظام التفاعلات السياسية الوطنية العليا”.

ويرى صالح أن يوم 10 آذار/ مارس يُعد متممًا ليوم استعادة دمشق وإسقاط حكم أسرة التوحش والاستبداد، وفرار طاغية الشام إلى موسكو. ويؤكد صالح أن “رسالة أوجلان، القائد التاريخي للأكراد في تركيا، من سجنه إلى حزبه، التي دعت إلى التخلي عن الكفاح المسلح، وحظيت بموافقة القيادات الكُردية العسكرية في جبال قنديل، فتحت مسارًا سياسيًا جديدًا في تركيا، وانعكس ذلك على سوريا”. ويضيف “لا بد أن يكون هناك جهد ما من الولايات المتحدة، مع توجهها لتصفير الصراعات، وستُظهر الأيام طبيعة الدور التركي”.

ويتابع: “لذا، وعلى وقع الاحتفالات التي تعمّ سوريا، يمكن القول إن الاتفاق الذي اعتبر المجتمع الكُردي مجتمعًا أصيلًا في الدولة السورية، وتكفّلت الدولة بحقوقه الدستورية والمواطنة، سيُسهم في تمتين الروابط بين مختلف المكونات السورية، وستتركّز الأنظار منذ الآن على السويداء”.

ويضيف: “كم كان سيكون لهذا الاتفاق وقع أكبر، لولا المآسي التي شهدها الساحل السوري. ومن الضروري أن تبدأ محاسبة جدية للقتلة، تبدأ بوضع حدٍ لجرائم ميلشيات ‘العمشات’ و’الحمزات’ المنضوين في إطار الجيش الوطني السوري الذي شكّلته تركيا”.

وقد نشر مظلوم عبدي صورة للمصافحة التي جرت بينه وبين الرئيس أحمد الشرع، وعلق على الاتفاق في تغريدة على حسابه عبر منصة “إكس” قال فيها: “في هذه الفترة الحساسة، نعمل سويًا لضمان مرحلة انتقالية تعكس تطلعات شعبنا في العدالة والاستقرار. نحن ملتزمون ببناء مستقبل أفضل يضمن حقوق جميع السوريين ويحقق تطلعاتهم في السلام والكرامة. نعتبر هذا الاتفاق فرصة حقيقية لبناء سوريا جديدة تحتضن جميع مكوناتها وتضمن حسن الجوار”.

يبدو أن حل المسألة الكُردية مدخلًا كبيرًا لاستقرار سوريا بأكملها- “الصورة للرئاسة السورية”

ويختتم حنا صالح حديثه لـ”الحل نت” بالقول: “الكُرد هم القومية الأبرز بعد العرب، ولهم وضع خاص، إذ تعرضوا لتمييز لم تعرفه مكونات أخرى في سوريا، وبالتالي يبدو أن حل المسألة الكُردية مدخلًا كبيرًا لاستقرار سوريا بأكملها. ويبدو أن الاتفاق، الذي شجعت عليه واشنطن في إطار سعيها لتصفير المشاكل، قابل للتطبيق، إذ يتطلب إنجازه فترة زمنية تتراوح بين ستة أشهر وسنة”.

ويؤكد صالح أن “الاتفاق مهم جدًا لسوريا وللسوريين، ويفتح الطريق أمام مسار سوري كبير، لأنه ومنذ لحظة توقيعه، تجاوزت سوريا كل مخاطر التقسيم”.

ضرورة الانفكاك عن التبعية التركية

إلى ذلك، أصدر مجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، الجناح السياسي لقوات سوريا الديمقراطية، بيانًا حول الاتفاق الموقع بين الشرع وعبدي، حيث ثمّن “مسد” الاتفاق ووصفه بأنه “لحظة مفصلية في تاريخ سوريا”، و”خطوة أساسية نحو بناء سوريا جديدة، دولة ديمقراطية تعددية تحترم حقوق جميع مكوناتها، وتستند إلى دستور يُعبِّر عن إرادة السوريين والسوريات، ويؤسس لجمهورية حديثة تتناسب مع تطلعات الشعب السوري وتضحياته”.

إلا أن مجلس سوريا الديمقراطية، أكد في بيانه على أن نجاح الاتفاق مرهون بمدى التزام جميع الأطراف بروح التغيير الحقيقي، والعمل على بناء دولة ديمقراطية حديثة تحترم إرادة شعبها، وتحقق طموحاته، وتكون جزءًا من العالم الحر الذي يؤمن بالعدالة وحقوق الإنسان.

بدوره، يلفت السياسي السوري فاتح جاموس إلى أن التحدي الأبرز أمام هذا الاتفاق سيكون في أنقرة، حيث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وجملة أهدافه وسياساته، رغم وجود الضمانات الأميركية.

وأشار جاموس في تصريحاته لـ”الحل نت”، إلى ما ينبغي على دمشق فعله حتى يصبح الاتفاق استراتيجيًا وتفاعليًا، أنه “يجب العمل على تبني سياسة وطنية سورية مستقلة، بعيدة عن التبعية أو التشغيل التركي، والعمل بنظام التفاعلات السياسية الوطنية العليا، والتركيز على القضايا الوطنية الجوهرية، بدلًا من الارتباط بالسياسات التركية أو التعامل مع المكونات السورية، كالكُرد والدروز والعلويين، بمنطق الحصص”. كما يتخوف من تداعيات الخطاب الأصولي الطائفي الذي تتبناه بعض الفصائل الذي يعد “أكثر خطورة من الرصاصة ذاتها”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة