مستوى العلاقات بين إيران والعراق يتّسم بالتعقيد، خاصة من ناحية الأبعاد الأمنية والسياسية والإقليمية، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا الوضع له أصول تراكمية في التاريخ كما في الوقت الراهن، وإلى جانب التعقيدات المختلفة، هناك تنام لمنسوب العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري الذي يجمع البلدين خاصة خلال العقدين الأخيرين تحديداً.

في فترة زمنية لاحقة وتحديداً بعد الإطاحة بنظام الرئيس السابق صدام حسين، أمسى العراق أهم شريك تجاري لإيران، ومنذ ذلك الحين ارتفع حجم التبادل التجاري السنوي بين إيران والعراق حيث عمدت الأولى إلى دخول مستثمريها للعراق مباشرة والاستفادة من انخفاض العملة المحلية هناك والاستثمار في البلاد من كافة الأوجه.

المشهد الأمني بين العراق وإيران عبارة عن فسيفساء من التهديدات المشتركة والمصالح المتباينة، فنفوذ إيران في العراق ملموس، مع دعمها لمختلف الميليشيات والفصائل السياسية. ومع ذلك، فإن هذا الدعم له ثمن، حيث أنه غالباً ما يقوّض سيادة العراق ويعقّد علاقاته مع اللاعبين الإقليميين الآخرين. نسلّط في هذا التقرير على التجارة والأمن والسياسة بين العراق وإيران، وتعقيدات ومصالح وأشياء أخرى.

التنّين الإيراني يبتلع العراق

في منتدى “حلول تنمية التجارة المستدامة” بين إيران والعراق في إطار رؤية 2025، أكّد مدير الغرفة التجارية الإيرانية العراقية المشتركة من الجانب الإيراني، أن الحجم التجاري بين البلدين يبلغ 10 مليارات دولار سنويا. فيما أوضح جهانيخش سنجابي شيرازي، أن الحجم التجاري مع العراق يبلغ حاليا 10 مليارات دولار 95 بالمئة منه لصالح إيران مما يجعل ميزان التبادل التجاري بين البلدين يسير في اتجاه واحد ويعزز المصالح الإيرانية بشكل كبير.

الصادرات الإيرانية إلى العراق قد زادت باستمرار على مدى السنوات العشر الماضية – إنترنت

واستطرد قائلاً إن دولاراً واحداً من بين كل خمسة دولارات صادرات إيرانية للخارج تتعلق بالتصدير للعراق، ما يستدعي تبني التوقعات اللازمة والرؤية المستقبلية في التجارة مع السوق العراقية والتي يُعد فقدانها فقدان عشرين بالمئة من تجارة البلاد.

واستدرك شيرازي، أن التجارة مع العراق على المدى القريب ستكون جيدة وحتى سنة 2025 مثالية. ولكن بالمدى البعيد ستصبح صعبة بسبب الأوضاع والمنافسين وبقية المواضيع الأخرى ونشاط التّجار العراقيين، حيث يتوجب الحفاظ على مستقبل السوق العراقية عبر التخطيط واستشراف الآفاق. وذلك بحسب تصريحاته لوسائل الإعلام المختلفة.

يذهب الكثيرُ من المراقبين أن دلالات تحسّن العلاقات التجارية فيما بين إيران والعراق خلال الأعوام الأخيرة، يرتبط بعوامل عديدة من بينها ما أعلنه العراق في شهر مارس/آذار عام 2010، عن عزمه إنشاء منطقة تجارة حرّة بالقرب من البصرة ثاني أكبر مدينة في العراق، وأكبر موانئه. 

وتكشف الإحصاءات الاقتصادية أن الصادرات الإيرانية إلى العراق قد زادت باستمرار على مدى السنوات العشر الماضية، خصوصاً وأن السلع الإيرانية تمتاز بأنها أقل سعراً من السلع الصينية نظراً لانخفاض تكاليف الشحن البري من إيران وتعدد المنافذ الحدودية في ما بينهما، لا سيما الحدود البرية الرسمية منها وغير الرسمية.

ثمّة سياق سياسي واقتصادي ينبغي من خلاله فهم حالة التضارب في تقدير حجم واردات العراق من السلع والخدمات التي تأتي من إيران، حيث قدّرها وزير المالية الأسبق علي عبد الأمير علاوي في العام 2020 بـ 60 مليار دولار، بينما صرّح المستشار الاقتصادي للحكومة محمد مظهر صالح مؤخّراً بأن حجم الواردات العراقية من السلع والخدمات بحدود 35 مليار دولار.

 ويبدو أن رقم الوزير علاوي، هو الأقرب للصحة لأنه يشمل مجموع أذونات الاستيراد المسجلة لدى البنك “المركزي”، إضافة إلى الواردات الإيرانية غير النفطية التي تتجاوز 12 مليار دولار سنويا وتتم بالدولار النقدي الذي يُنقل برّاُ عبر الحدود المشتركة بصورة غير قانونية.

علاقات مُعقّدة ورهانات مُتضاربة

تبدو ملامح السياق السابق من خلال محددات واشنطن بتقييد تدفق الدولارات العراقية إلى إيران أو تقليص حجمها بدرجة ملحوظة. بيد أن ذلك تحقيقه لن يضحى فاعلاً دون الوصول لقرار وقف التبادل التجاري وحظر السفر بين بغداد وطهران، الأمر الذي يضع هذا الأمر في حيّز المستحيل.

عملاء يتجمعون خارج أحد البنوك بعد إغلاقه خلال إضراب عام في بغداد، العراق، 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2019. (تصوير: ثائر السوداني – رويترز).

تذهب تقديرات عديد الاقتصاديين، ومنهم أعضاء في اللجنة المالية في البرلمان العراقي، بأن العراق يحتاج إلى أقل من نصف مبيعات البنك “المركزي” من الدولار المسجلة سنوياً لتسديد فاتورة الواردات السلعية، وأن النصف المتبقي عبارة عن حوالات مالية سوداء تخرج بأذونات استيراد مزورة لخدمة شبكات الفساد السياسي والإداري، وغسيل الأموال وتمويل الإرهاب والمليشيات الشيعية والعصابات الإجرامية.

من جهته، قال مصدر برلماني عراقي إن حجم الاستيراد وارتكازه على البضائع الإيرانية محكومٌ بالمعطيات السياسية منذ ما يقرب من عقدين أو أقل قليلا فيما بين نظام طهران وبغداد ويصبّ في صالح موارد إيران وواقعها الاقتصادي.

وتابع قائلا في سياق حديثه لـ”الحل نت”، إن اختلاط الجانب الاقتصادي والسياسي فيما يخصّ عمليات الاستيراد يضع علامات استفهام عديدة على مراحل عملية الاستيراد والشركات العاملة في هذا الشأن ومدى ارتباط ذلك بسياق توفير العملات الأجنبية لإيران.

يلفت المصدر الذي فضّل عدم الكشف عن هويته، أن إيران تنظر لبغداد فيما يرتبط بالشأن الاقتصادي والتبادل التجاري باعتباره نافذة استراتيجية من الصعوبة بمكان التفريط بها تحت أي ظرف أو تطوّر سياسي خلال الأفق المنظور، ويرتبط ذلك بالكلية من خلال حضور الفصائل والجماعات السياسية التابعة لها وامتداد ذلك بعمليات الاستيراد والتصدير.

جار العراق عدوه اللدود

ربما من الضروري فهم العلاقات الاقتصادية بين بغداد وطهران خاصة على مستوى إعادة تصدير المنتجات لطهران من الحدود العراقية وتوظيف العملة الأجنبية للجانب الإيراني بعيدا عن المحددات الاقتصادية، وارتباط ذلك بالوضع السياسي لنظام طهران والعقوبات المفروضة عليه، ومدى توظيفه لإمكانات بغداد لتخفيف آثار الحظر المفروض عليه فضلا عن تحركات الولايات المتحدة الأميركية لرفع منسوب الضغط على طهران عبر الشأن الاقتصادي والمالي.

صورة تظهر مقر البنك المركزي العراقي ببغداد في 9 مارس 2023. (تصوير أحمد الربيعي / وكالة الصحافة الفرنسية)

من خلال ذلك يمكن النظر إلى منظور العقوبات الأميركية على عدد من المصارف العراقية، خلال شهر كانون الثاني/يناير من العام الجاري، عبر ذلك السياق، وما يترتب عليه من تداعيات تمتد نحو طهران بشكل مباشر، سيما وأن العقوبات الأميركية طالت أكثر من عشرين مصرفاً عراقياً.

كانت الولايات المتحدة قد ذكرت في مناسبات سابقة أن الأسباب الموجبة لفرض العقوبات، هي بشكل أساسي غسيل الأموال، وتهريب العملة وتمويل الإرهاب، مثلما جاء في بيان الخزانة الأميركية تعليقاً على عقوبات بنك “الهدى”، حين قال: “استغل بنك الهدى لسنوات وصوله إلى الدولارات الأميركية لدعم منظمات إرهابية أجنبية بما في ذلك الحرس الثوري الإيراني وكتائب حزب الله العراقي وعصائب أهل الحق بالعراق”.

وذكرت السفيرة الأميركية لدى العراق، إلينا رومانوفسكي، “ستساعد هذه الإجراءات في حماية النظام المالي العراقي والمشاريع التجارية المشروعة من الاستغلال”.

بدوره يذهب الباحث في الشأن الإيراني، وجدان عبد الرحمن، بقوله إن التبادل التجاري ما بين إيران والعراق يستقر لصالح الصادرات الإيرانية داخل العراق والتي تكون مربحة لإيران بشكل كبير.

يتابع عبدالرحمن في سياق حديثه لـ”الحل نت”، أن ذلك يكون نحو صادرات الغاز والكهرباء إلى العراق، رغم أنّنا نشهد حاليا استيراد طهران للغاز من دول أخرى بسبب تعطّل كثير من شركات الطاقة الإيرانية، الأمر الذي أنتج عجزاً لنظام طهران في تدبير العملات الأجنبية، وما يترتب على ذلك من توفير احتياجات المجتمع.

المورد الثاني الذي تعتمد عليه طهران هو الزراعة وتصدير المحصولات والمنتجات الزراعية للداخل العراقي، وقد شاهدنا خلال الآونة الأخيرة بعض الرفض الذي تقابله البضاعة الإيرانية في الداخل العراقي، بينما بدأت أسواق أخرى تنافس إيران مثل منتوجات المملكة العربية السعودية ودول أخرى.

الباحث في الشأن الإيراني، وجدان عبد الرحمن

إذاً، لا يستبعد عبد الرحمن أن إيران ستواجه تحديات كبيرة في الحفاظ على ثبات واستقرار هذا المبلغ الذي يُقدّر بحسب إحصاءات رسمية نحو عشرة مليارات مليار دولار على خلفية الاضطرابات في الداخل، وكذا العقوبات الأميركية على إيران وقرارات واشنطن الأخيرة على المصارف العراقية التي كانت تعتمد عليها طهران بشكل رئيس في توفير العملة الصعبة لتلبية احتياجاتها.

إلى ذلك، يستنتج وجدان عبد الرحمن أن استمرار الوفاء بالاتفاقيات المبرمة بين طهران وبغداد في ما يخص التبادل التجاري والشؤون الاقتصادية وتدبير العملة الصعبة لن يستمر بذات الآلية ونفس الاستقرار في الأفق المنظور مما سيفرض على طهران الاستثمار بتركيز أعلى ومحاور إضافية من خلال جماعاتها الوظيفية في العراق فضلا عن التأثير الثقافي و الهويّاتي.

على خيط رفيع

“زواجٌ مُتَعِب بين تجارة مُزدهرة وأمن مُهدّد وسياسة متوتّرة”، هو الوصف الذي ينطبق على بحث محمد شياع السوداني رئيس الوزراء العراقي، مع عباس علي آبادي وزير الصناعة والمناجم والتجارة الإيراني، خلال نهاية شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، حول إمكانية استخدام عملتي البلدين في التبادل التجاري والتحويلات المالية الثنائية.

يقوم المواطنون بشراء وتبادل العملات الأجنبية في مكاتب الصرافة بعد انخفاض سعر الصرف بعد تغيير رئيس البنك المركزي في بغداد، العراق في 25 يناير 2023. (تصوير مرتضى السوداني/ غيتي)

كما ناقش الجانبان خلال اللقاء العلاقات الاقتصادية بين البلدين وسبل تعزيزها وتدعيم التبادل والشراكة في مختلف المجالات. وحينها أشار السوداني إلى استعداد العراق لفتح آفاق التعاون الثنائي في مجال الصناعات البتروكيماوية وصناعة الأسمدة لما لها من أثر قوي في تعزيز التنمية الداخلية.

من جانبه أكد الوزير الإيراني ضرورة المضي بمشاريع التكامل الاقتصادي مع العراق بهدف مواجهة التحديات الاقتصادية التي تشهدها المنطقة والعالم بحسب ما نشرته وكالات الأنباء ووسائل إعلام محلية عراقية.

بدوره يؤكد الأكاديمي العراقي، نبيل المرسومي، أن العراق مهم جدا بالنسبة لإيران على أوجه متعددة سيما الجانب الاقتصادي حيث يقع العراق في قلب الاستراتيجية الاقتصادية الإيرانية.

يتابع أستاذ الاقتصاد نبيل المرسومي بقوله لـ”الحل نت”: “لذلك تهتم إيران بتطوير العلاقات الاقتصادية مع العراق. إذ إن قطاع الصادرات الإيراني الموجه للسوق العراقية يشغل أكثر من مليون عامل إيراني مما يحقق منفعة كبيرة لطهران كونه يساهم في حل مشكلة البطالة المتفاقمة”.

من ناحية ثانية، يضمن منسوب الصادرات الإيرانية لبغداد مستويات مرتفعة لكافة قطاعات الزراعة والصناعة. وبالتالي يضحى التبادل التجاري بين إيران والعراق قيمة مضافة لصالح الأول.

إيران تصدر اليوم إلى العراق ما بين عشرة إلى اثني عشر مليار دولار سنوياً سلع وبضائع مختلفة غذائية استهلاكية إضافة إلى صادرات الطاقة من الغاز والكهرباء حيث يبين ذات المصدر أن الرقم الخاص بصادرات الطاقة يقترب أو يفوق خمسة عشر مليار دولار سنوياً، إضافة إلى أنه هناك العديد من الشركات الإيرانية التي تعمل اليوم في مجال الاستثمار والمقاولات في العراق.

يلفت المرسومي، إلى أنه مع وجود فجوة كبيرة بين السعرين الرسمي والموازي للدولار في السوق العراقية، أصبح هناك نوع من القيد بحيث أنه قلل من القدرة التنافسية للسلع الإيرانية في السوق العراقية لكن مع ذلك وجدنا هناك انخفاض، بيد أنه أردف بوصفه طفيف في إجمالي صادرات إيران إلى العراق.

الإيرانيون يعتقدون بقدرتهم على التعايش مع تلك الفجوة الحالية في سعر الصرف الرسمي، وهم يقولون بأنه إذا تجاوز الدولار سعر الألف وستمائة دينار في السوق الموازي حينها يمكن الحديث عن التأثير السلبي في مستوى الصادرات الإيرانية، غير أنهم حاليا استطاعوا أن يتعايشوا مع هذه الفجوة، وأن يفعلوا صادراتهم إلى العراق التي لم تتأثر كثيراً بفعل هذه الفجوة الكبيرة بين السعرين الرسمي والموازي، بسبب انخفاض كلفة العمل في إيران، وانخفاض كلفة الوقود المدعوم، أيضا للصناعة والزراعة الإيرانية، وبسبب أيضاً سعر الصرف المتدني للعملة الإيرانية مقابل الدولار الأمريكي.

الإيرانيون وفق حديث أستاذ الاقتصاد العراقي نبيل المرسومي، يسعون أيضاً لجعل العراق محطة انتقالية لصادراتهم نحو سوريا، ومن ثم دول البحر المتوسط. ولذلك يهتمون بمسألة إيجاد نوع من الطرق البرية الجديدة التي يمكن استخدامها لنقل المسافرين. وفي مراحل لاحقة لنقل البضائع وتصديرها نحو سوريا عبر العراق.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات