المملكة العربية السعودية وخلال الفترة الماضية لعبت دورا رائدا في تأمين استقرار المنطقة وإخماد الحروب والتوترات العسكرية سواء كانت مستعرة ببعض دول العالم أو المحيطة بها، وكان آخرها عقد “مباحثات جدة” بشأن إنهاء الحرب بأوكرانيا. ويبدو واضحا أنها تدرك ضرورة إنهاء الحروب والصراعات لما لها من تداعيات وتأثيرات سلبية جمّة لا يتحمل عواقبها أحد، خصوصا تلك الدول الضعيفة التي تعاني بالفعل من أزمات عدة.

المملكة تسعى منذ أشهر طويلة إلى إيجاد مخرج لإنهاء الحرب القائمة في أوكرانيا، واستكمالا لتقدم تلك الجهود المبذولة للتوصل إلى إجماع دولي حول تسوية سلمية دائمة وعادلة لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، أُجريت مناقشات في المملكة جمعت كبار المسؤولين من 42 دولة، بما في ذلك الولايات المتحدة والصين والهند وأوكرانيا.

“اجتماعات جدة”، والتي خصصت لمناقشة حرب أوكرانيا، انتهت بإبداء الرغبة في عقد اجتماع آخر بعد حدوث توافق في الآراء بشأن إيجاد صيغة مقبولة للسلام، ومن المتوقع خلال الفترة المقبلة مناقشة تداعيات الحرب على العالم اقتصاديا وأمنيا، وفق ما نقلته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، عن مسؤولين ودبلوماسيين.

من هنا لابد من طرح بعض التساؤلات حول فرص مساعي السعودية في تحقيق الخطوة الأولى في طريق السلام بأوكرانيا، وكيفية التوصل إلى تسوية ما فيما يتعلق بالحرب الدائرة هناك، والعقبات التي تقف في طريق نجاح “محادثات جدة” بغية إنهاء تلك الحرب.

تطورات هامة في محادثات جدة

نحو ذلك، استضافت مدينة جدة السعودية يوم السبت الماضي محادثات للسلام جمعت أطرافا متعددة لوقف الحرب في أوكرانيا. وشارك بالاجتماعات، التي لم تحضرها روسيا، نحو 40 دولة من بينها الولايات المتحدة والصين، وحضر أيضا أعضاء كتلة الـ “بريكس” التي تضم البرازيل والهند وجنوب إفريقيا، وهي بلدان تبنت مواقف أكثر حيادية بشأن الحرب، إذ امتنعت عن الوقوف بجانب أوكرانيا، ولكن دون دعم الغزو الروسي.

تعتزم الدول المشاركة في “محادثات جدة” تشكيل مجموعات عمل لحل مشكلات محددة نجمت عن الحرب- “واس”

كما وأسهمت “محادثات جدة” في إرساء أسس نحو تسوية سياسية للحرب الروسية في أوكرانيا، وفق ما رأى مسؤولون أوكرانيون، فيما عد مراقبون أن مشاركة الصين، الداعمة لموسكو، في المحادثات الدولية بالسعودية التي تسعى إلى تجنيب العالم مزيدا من التداعيات الإنسانية والأمنية والاقتصادية، تحوّلا محتملا في نهج بكين تجاه الحرب، لكنه ليس جذريا في شأن دعمها لموسكو، التي ترى أن الجهود الدولية في هذا الشأن غير مُجدية.

بحسب “وكالة الأنباء السعودية” (واس)، فقد أكد البيان الختامي لـ”محادثات جدة” بشأن أوكرانيا، مساء يوم أمس الأحد، أن المحادثات أسهمت في بناء أرضية مشتركة للسلام، مضيفة أنه تم الاتفاق على استمرار التشاور في شأن الأزمة، والتأكيد على ضرورة الاستفادة من الآراء الإيجابية المقترحة.

طبقا للبيان الختامي، فإن السعودية تتطلع إلى أن يسهم الاجتماع في تعزيز الحوار والتعاون وتبادل الآراء على المستوى الدولي حول السبل الكفيلة لحل الأزمة الأوكرانية بالطرق الدبلوماسية والسياسية.

الباحث والمحلل السياسي، الدكتور عبد السلام القصاص، يرى في حديثه لموقع “الحل نت”، أن “محادثات جدة” بشأن إنهاء الحرب في أوكرانيا تبدو مهمة ومختلفة هذه المرة، بالنظر إلى مشاركة جهات داعمة للجانب الروسي، مثل دولة الصين، ومن ناحية أخرى، مشاركة أطراف محايدة فيما يتعلق بالغزو الروسي لأوكرانيا.

القصاص يشير إلى أن المملكة وعموم دول الخليج سعت منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا للعب دور الوسيط، وإن كان بشكل غير مباشر، للتوصل إلى نتائج إيجابية تخفّف من التصعيد العسكري والحد من تداعياته السلبية وخاصة الإنسانية منها. بالنظر إلى أن أولويات المملكة باتت تركز بشكل أساسي على تحقيق الاستقرار والأمن في دول المنطقة والعالم ككل.

اللافت في مناقشات جدة أنها تختلف عن النسخة الأولى التي استضافتها العاصمة الدنماركية كوبنهاغن في حزيران/يونيو الماضي، والحضور في جدة كان أكثر من ضعف عدد الدول التي حضرت أو انضمت إلى محادثات كوبنهاغن. وشمل ذلك الدول الأوروبية والصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وإندونيسيا وتركيا وجنوب إفريقيا.

فرص نجاح الجهود السعودية

في سياق متّصل، قال مسؤول أوكراني كبير يوم أمس الأحد إن المحادثات التي جرت في السعودية بهدف إحراز تقدم نحو تسوية سلمية للحرب مع روسيا كانت مثمرة، لكن موسكو وصفت الاجتماع بأنه محاولة غير مجدية لحشد الجنوب العالمي خلف كييف.

أوكرانيا وحلفاؤها وصفت المحادثات بأنها محاولة للحصول على دعم دولي واسع للمبادئ التي تريد كييف أن تكون أساسا للسلام، ومنها انسحاب جميع القوات الروسية وعودة جميع الأراضي الأوكرانية إلى سيطرتها. وقال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إنه يريد عقد قمة عالمية على أساس تلك المبادئ في وقت لاحق من العام الحالي. وهو الأمر الذي أشار إليه تقرير لـ”وول ستريت جورنال” الأميركية، ذكر فيه دبلوماسيون أن هناك قبولا واسعا بأن المبادئ المركزية للقانون الدولي، مثل احترام سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها، يجب أن تكون في قلب محادثات السلام المستقبلية بين أوكرانيا وروسيا.

هذا وكان هناك اتفاق على إنشاء مجموعة عمل تركز على التأثير العالمي للحرب، وبدا أن معظم الدول المشاركة، بما في ذلك الصين، مستعدة للاجتماع مرة أخرى خلال الأسابيع المقبلة بالشكل الحالي، مع عدم حضور روسيا، وفقا لمصادر أبلغت الصحيفة.

منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، اتخذت المملكة وعموم الدول الخليجية موقفا محايدا، وانفتحت على الجميع بناءً على مصلحتها الوطنية، حيث حافظت على علاقات جيدة مع جميع أطراف النزاع، ولعبها اليوم دور الوساطة من أجل إنهاء الحرب في أوكرانيا دليل على رغبتها في تقليص حجم الخسائر وتداعيات الحرب الأوكرانية التي تهدد بالفعل ملايين الأرواح وفقا لما قاله زيلينسكي أيضا، إن مصير الملايين في إفريقيا وآسيا ومناطق أخرى متوقّف على سرعة تحقيق صيغة السلام، بحسب وجهة نظر القصاص.

القصاص يضيف في حديثه عن فرص نجاح المساعي السعودية لإنهاء الحرب في أوكرانيا، أن “محادثات جدة” طالما قوبلت بقبول دولي مبدئي وفق شروط محددة مثل المبادئ التي تريدها كييف لتكون أساس السلام، قد تتطور هذه المساعي في الفترة المقبلة وينتج عنها نتائج إيجابية معينة، لكن لا يمكن الجزم في الوقت الحالي بنجاحها وإنهاء الحرب في أوكرانيا، وخاصة في ظل الغياب الروسي عن هذه المحادثات، فضلا عن تعقّد المشهد بشكل عام.

أهمية المصالح الاقتصادية

القصاص يعتقد أن “محادثات جدة” ستواجه عقبات وتحديات كبيرة، نظرا لأن الحرب في أوكرانيا مختلفة عن الحروب والنزاعات التي تشهدها بعض الدول الأخرى، ولا سيما في المنطقة، فالحرب بين كييف وموسكو هي حرب بين دولتين، وليست حرب ميليشيات بالوكالة داخل دولة واحدة، بالإضافة إلى تمسك موسكو بمواقفها وشروطها الصعبة، التي تكمن حول عدم تخليها عن الأراضي التي سيطرت عليها في شرق أوكرانيا، وهذا يعتبر العقبة الرئيسية أمام التوصل إلى صيغة تفاهمية في الوقت الحاضر، ولكن يبقى ذلك رهن التفاهمات بين طرفي الصراع.

زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي للسعودية في وقت سابق- “أرشيفية”

مع ذلك، فإن الأصداء الإيجابية حتى الآن لـ “محادثات جدة”، ونجاح السعودية في إقناع الصين لحضور المباحثات، تشير إلى أن المملكة قد تلعب دورا مهما وقويا خلال الفترة المقبلة، ويرى القصاص أن هذه الجهود قد تسفر قريبا عن إقامة مفاوضات بين طرفي الصراع، بالنظر إلى العلاقات الجيدة للسعودية مع جميع الأطراف، وبالتالي قد تكون خطوة دفع الطرفين للجلوس على طاولة المفاوضات خطوة مهمة في تقليص مسار الحرب.

القصاص يرجح أيضا أن الجهود السعودية في إطار حلّ الحرب الروسية الأوكرانية، قد تجد أذانا صاغية للكثير من دوائر صنع القرار الدولي، خاصة وأن الحرب الأوكرانية أثّرت بشكل كبير على الاقتصاد العالمي ككل، وبالنظر إلى أن الصين تفكر بـ”عقلية التاجر” في العديد من الأزمات، وفي خضم ما تمرّ به بكين من أزمات اقتصادية، فقد يدفعها ذلك إلى إقناع حليفتها روسيا بالجلوس على طاولة المفاوضات، لكن هذا سيستغرق وقتا طويلا وسيتطلب جهودا كبيرة وتعاونا كبيرا بين جميع القوى الكبرى، وقد يتم التوصل إلى تسوية ما، وإن كانت مؤقتة لكن قد تقوض الانعكاسات السلبية الناجمة عن استمرار الحرب.

تدعيما لهذه الفرضية، تقول مديرة برنامج الصين في مركز “ستيمسون للأبحاث” بواشنطن يون سون، “إن بكين تميل أكثر صوب جهود السلام، لكنها تعلم أيضا أن الغرب ليس من المرجح أن يتقبل مبادرة سلام تقودها هي في هذه المرحلة”. وتابعت سون، قائلة “لا تريد بكين أن تتغيب عن مبادرات سلام أخرى ذات صدقية تقودها دول ليست غربية”.

هذا وقال مسؤول أميركي كبير، إن مستشار الأمن القومي جاك سوليفان، ووكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند، التقيا على هامش الاجتماع برئيس الوفد الصيني، مبعوث بكين للسلام لي هوي. وقال دبلوماسيون أيضا إن بعض الخلافات التي ظهرت في كوبنهاغن تقلصت فيما يبدو.

قال دبلوماسيون غربيون إن بعض الخلافات التي ظهرت في محادثات كوبنهاغن تقلصت فيما يبدو في المباحثات التي جرت في جدة السعودية.

من جانب آخر، ذكرت “واس”، قبيل عقد اجتماعات جدة، أن المملكة تتطلع إلى أن تسهم في تعزيز الحوار والتعاون، من خلال تبادل الآراء والتنسيق والتباحث على المستوى الدولي حول السبل الكفيلة لحل الأزمة الأوكرانية بالطرق الدبلوماسية والسياسية، وبما يعزز السلم والأمن الدوليين، وتجنيب العالم المزيد من التداعيات الإنسانية والأمنية والاقتصادية للأزمة.

المملكة العربية السعودية لعبت دورا مهما ولافتا خلال الفترة الماضية من أجل إرساء السلام والاستقرار في المنطقة، ونظرا لاستراتيجيتها الحالية حول ضرورة تأمين الاستقرار وإنهاء الحروب الكبرى، ولعلاقتها الجيدة مع أطراف النزاع في أوكرانيا ومع بكين مؤخرا، وجميع القوى الكبرى، فإن “محادثات جدة” يمكن أن تحقق خطوة وإن كانت بدايتها إجراء مفاوضات بين طرفي الصراع، رغم أنه من غير الممكن التنبؤ بما سيحدث لاحقا بشأن هذه الأزمة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة