الأحداث الدموية والمشاهد المروعة التي وقعت في الساحل السوري، بينما كشفت أو بالأحرى ما تزال تكشف عنها شهادات وتقارير ميدانية موثقة بالمنظمات الحقوقية المحلية والأممية، تبدو مادة ثمينة لمراجعتها والتدقيق فيها والتمعن في تفاصيلها ووقائعها وملابساتها، حيث إن المجازر التي تورطت فيها مجموعات مسلحة محسوبة على الإدارة الجديدة في دمشق، شكلت نقطة تحول على عدة أصعدة، لا سيما داخل المجتمع الدولي والولايات المتحدة.
غير أن الشهادات تمثل عتبة أولى للحصول على ما يمكن وصفه بالمادة الخام أو الصورة الأقرب لما جرى، قبل دخولها في عملية تحوير أو إعادة صناعة الصورة حسب مزاج كل طرف أو وسيلة. ولا تزال شهادات جديدة من الناجين تتوالى، كاشفةً للعالم ما حدث خلال تلك الأيام الستة القاتمة، والتي ستبقى آثارها النفسية لفترات طويلة الأمد، وقد لا ينجو الناجون من تداعياتها.
فيما سلطت وسائل إعلام مختلفة الضوء على المجازر التي ارتكبت بحق أهالي الساحل السوري، من خلال شهادات المدنيين بعدة مناطق، ومن بينها موقع “الحل نت“. وراح ضحية هذا الهجوم الذي شنه فصائل سورية محسوبة على الإدارة السورية الجديدة بدمشق ما يقارب الـ1500 مدني، وفق مصادر محلية و”المرصد السوري لحقوق الإنسان”.
كما وثقت التقارير الإعلامية الأخيرة شهادات ناجين من المجزرة التي استهدفت العلويين بمناطق تمركزهم بالساحل، حيث تشير إلى أن الهجوم كان مُنظما ويحمل ملامح التطهير العرقي. علاوة على ذلك، شهدت قرى وبلدات على طول الساحل السوري، خلال الأسبوعين الماضيين، حملة ممنهجة من النهب والحرق وتدمير الممتلكات، مصحوبة بعمليات قتل جماعي وتهجير قسري.
واللافت، أنه حتى الآن لم تُعلن السلطات الرسمية في دمشق عن عدد القتلى المدنيين في الساحل السوري، أو أي خطط بشأن تعويض أهالي الضحايا، أو بناء وترميم المناطق المنكوبة، أو تأمين مأوى لمن فقدوا بيوتهم، إذ إن حملات الإغاثة كلها بجهود أفراد ومنظمات محلية.
شهادات ناجين من الساحل السوري
موقع “درج” اللبناني نشر في تقرير حديث شهادات جديدة، وثقتها الكاتبة السورية روزا ياسين حسن، حيث مثّل الحادث صدمة فادحة جراء بشاعة الممارسات العدوانية والاعتداءات التي ترقى إلى أن تكون كابوسية، فتقول: “لم أتخيّل للحظة أن شيئا مما حدث سيحدث. لم أتخيّل، حتى في أبشع كوابيسي، أن أرى في شارعي وحده أكثر من 32 جثة مكوّمة عند مداخل البنايات والبيوت وعلى الأسطح، وأني سأضطر للمشي على جثث جيراني وأصدقائي ومعارفي حتى أعبر!”.

تؤكد الكاتبة على المناخ الاستقطابي العنيف والتحفز للانتقام والثأر، لكنها كانت تستبعد وتقلل من احتمالات أن تصل الأمور إلى هذا الحد الدموي والهمجي، بينما تنقل شهادة لشاب ثلاثيني، انخرط في أعمال الإغاثة وأنشطة المجتمع المدني، فيقول إن أصوات الرصاص العنيف والقذائف في اليوم الأول تواصلت بشدة وهزت أرجاء المكان والمنزل، ورغم ذلك كان يحاول تهدئة نفسه، حتى اليوم التالي، لم يتمالك أعصابه وبدأ “الخوف يأكلني”.
وتابع في شهادته: “بدأت أصوات رجال يصعدون الدرج بعنف تصلنا، سمعنا أصوات خلع الأبواب، ووصلوا إلينا، كانوا ستة عناصر بأسلحتهم وجعبهم العسكرية، بلباس عسكري صحراوي، ملثمون ولا تظهر إلا عيونهم. لماذا قد يكون الجيش ملثّما؟”، وباغتتهم العناصر المسلحة بسؤال: هل أنتم علوية أم سنة؟ ثم “دخلوا البيت. عنصر منهم بقي خارجا، له عيون آسيوية تبدو من تحت اللثام، صامت لا يتكلّم. هل هو شيشاني أو أوزبكي أم ماذا؟ سألت نفسي. حينما راح أحدهم يفتّش في موبايلي، رأى صوري مع أصدقائي وصديقاتي، فصاح رفيقه: أعدّ له الموبايل، كله فسق وفجور. فيما كان عنصر آخر يسأل: شيخنا هل نكمل التفتيش؟”.
تعرض صاحب الشهادة إلى شتائم وتعنيف وإهانات بالغة، فضلا عن اتهامات جمة بـ”الفجور”، وفضلا عن مشاهد الحرق والدمار، فإن أسئلة عديدة كانت تخدش عقله كلما سمع من أفراد العناصر عبارات دينية تتناقض مع طبيعة الانتماء إلى جيش يفترض أن له طبيعة وطنية وليست “جهادية” مثل “صيحات الله أكبر”، أو عدم استعمال “الرتب العسكرية” بين العناصر وبعضهم واستبدالها بـ”شيخنا”.
ويقول: “هذه الصيحة تخيفني كثيرا، لا أعرف لمَ لا تعني لي مثل هذه الحالات إلا الموت. لكن لماذا قد يصرخ الجيش الله أكبر؟”. كما “سمعت صرخات نساء تتصاعد من كل مكان من الحي. صراخ من الخارج وصراخ من الداخل والأولاد يبكون بشكل هيستيري، قرّرنا النزول إلى بيت جيراننا في الطابق السفلي لنكون معا”.
كما يشير إلى أن “البيوت المسيحية لم يتمّ الدخول إليها، كذلك بيوت النازحين السنّة. بيت خوري الكنيسة لم يدخلوه كذلك، لكنهم قتلوا والده جهاد بشارة وهو في الشارع يتفقد سيارته. كيف عرفوا بيوت الناس وطوائفهم؟ هل هناك مخبرون بيننا؟ هل هذه المجزرة مخطّط لها؟ بعد أيام ستخبرني صديقتي التي تسكن البناية المقابلة لنا كيف خطفوا والدها ولم يعد حتى اللحظة، بعدما كان يحاول إقناعهم أن بيت الجار الذي يحاولون كسره فارغ. قالوا له: “كول خرا، نحن نعرف بالضبط لعند مين جايين””.
يصف مشاهد الجثث المتراكمة في كل مكان، والأجساد المضرجة بدمها، ويقول “على سطح إحدى البنايات رجال مدنيون مقتولون بالرصاص. لماذا قتلوهم على السطح؟” بينما ينقل عن إحدى متطوعات الهلال: كان القنص يأتيهم من فلول النظام فأرادوا استخدام الشباب كدروع بشرية. لم أفهم! لماذا قد يستخدمونهم كدروع بشرية؟ أين أعيش أنا؟.

ويردف: “عثرت للتو على جثة جارنا غسان ربيب، منكبّا على وجهه يسبح في بركة من الدماء، بجانبه دبدوب ابنته ميرا وجثة زوجته فاتن ادريس”. هذا مشهد أكثر دموية وأكثر قساوة كما لا يقل فداحة عن سابقيه، فالوجه مشوه بطلقة في رأس الزوجة، والطفلة التي لا يتخطى عمرها ثلاثة أعوام، “مذهولة، عيونها مبحلقة مفتوحة في الفراغ، وتنظر حولها وإليّ برعب كأنها لا تعرفني. ميرا نجت من الموت لأنها كانت نائمة في الغرفة الداخلية، عثر عليها الجيران بعدما رأت والديها غارقين بدمهما”.
ما تزال الشهادات تؤكد أن الأحداث لن تمر هادئة في ذاكرة من عاينوا تفاصيلها أو شاهدوا وقائعها، ولن تنتهي سريعا فما خلفته من موت ودمار وتشريد وشعور بالتهديد الوجودي وغياب الأمان، له “رائحة الموت القاتلة تخيّم ولا أعرف كيف سننساها”.
حملة ممنهجة لتدمير الممتلكات
وفي تقرير صدر حديثا عن موقع “سيريا ريبورت” مفاده أن القرى والبلدات في الساحل السوري شهدت خلال الأسبوعين الماضيين حملة ممنهجة من النهب والحرق وتدمير الممتلكات، ترافقت مع عمليات قتل جماعي وتهجير قسري، نفذتها مجموعات مسلحة تابعة لوزارة الدفاع السورية.
وأضاف التقرير أن الانتهاكات استهدفت منازل المدنيين والمحال التجارية والأراضي الزراعية والمركبات الخاصة، بالإضافة إلى جرائم موثقة بحق السكان.
وأشار التقرير إلى أنه في قرية صنوبر جبلة بريف محافظة اللاذقية، بدت آثار الاجتياح جلية منذ اللحظات الأولى. عشرات المنازل أُضرمت فيها النيران بعد نهب محتوياتها، والمحلات التجارية تحوّلت إلى أطلال سوداء، في القرية سُجّل، بحسب شهادات من الأهالي، مقتل نحو مئة مدني خلال ساعات قليلة فقط بعد دخول القوات المسلحة والمحسوبة على وزارة الدفاع.
كما نُفذت عمليات قتل عشوائية وعمليات اقتحام للمنازل في حي القصور بمدينة بانياس بريف طرطوس. وغادرت المجموعات المسلحة الحي، تاركة الشوارع مليئة بالجثث، فيما نقل الشهود روايات مروعة عن أشكال الإذلال الذي تعرّضوا له لفظيا وجسديا.
وفي بعض القرى، مثل اسطامو وعين العروس في ريف القرداحة، لم يكن أمام الأهالي من خيار سوى الفرار إلى الحقول. في هاتين القريتين، أُحرقت كثير من المنازل. وشهد أحد الأهالي على إعدامات ميدانية نُفذت في الأراضي الزراعية التي لجأ إليها الناس، طبقا للتقرير.

ويقول التقرير إن روايات متقاطعة من الأهالي تفيد بأن “قرار النهب والحرق لم يكن فرديا. العناصر التي نفّذت الاقتحامات لم تكن تتردد في ارتكاب الانتهاكات، ولم تكن تنتظر تعليمات من قيادة العمليات. البيوت كانت تُقتحم وتُسرق ثم تُحرق، وأغلب تلك التي احترقت كانت قد شهدت إعدامات ميدانية قبل ذلك”.
وأشار إلى أن أعمال النهب في قرية الخريبة لم تتوقف حتى كتابة هذا التقرير، فالقرية خالية من السكان، ولا يجرؤ سكانها على العودة إليها أو حتى الاقتراب منها.
ويتهم التقرير عناصر تابعة لوزارة الدفاع السورية بإشعال الحرائق حول عشرات القرى خلال الأيام الأخيرة، تزامنا مع المجازر التي ارتكبت بحق المدنيين في الساحل.
- مؤتمر “وحدة الموقف والصف” الكردي يعلن بيانه الختامي.. تفاصيل
- في ظل غياب العدالة الانتقالية.. استمرار أعمال التصفية والانتقام في سوريا
- مروان الحلبي.. طبيب الخصوبة الذي ارتقى لسُدة التعليم العالي
- رد دمشق على واشنطن تناول 5 مطالب… تفاصيل الرسالة السورية حول شروط رفع العقوبات
- تديّن أم موضة؟.. هجوم حاد من سارة نخلة على حجاب حلا شيحة “الموسمي”
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
مقالات ذات صلة

هوية تُمحى.. استبدال اسم قرية مهجّرة بسوريا يثير مخاوف من تغيير ديموغرافي

أم سورية تناشد لإعادة أبنائها الثلاثة المخطوفين من الساحل

اختطاف النساء في الساحل السوري و”سبيهن”.. ما القصة؟

تحقيق أميركي يكشف تفاصيل مروّعة عن مجازر الساحل السوري
الأكثر قراءة

واشنطن تتسلّم رد دمشق على متطلبات تخفيف العقوبات.. تفاصيل

هل تحمل زيارة وزير الخارجية الأردني لدمشق رسائل بعد حلّ “اللواء الثامن” بدرعا؟

مسؤول أميركي: لا ثقة بدمشق حتى الآن وهذه أولوياتنا في سوريا

مرهف أبو قصرة: من حقول حلفايا لوزارة الدفاع السورية.. رحلة مثيرة للجدل!

محمد البشير: من حكومتي الإنقاذ وتصريف الأعمال إلى وزارة الطاقة.. السيرة الكاملة

مباحثات أوروبية حول إمكانية تخفيف العقوبات عن سوريا
المزيد من مقالات حول شرق أوسط

هوية تُمحى.. استبدال اسم قرية مهجّرة بسوريا يثير مخاوف من تغيير ديموغرافي

وسط غياب المحاسبة.. دوافع طائفية وانتقامية وراء تصاعد القتل ضد المدنيين بسوريا

أم سورية تناشد لإعادة أبنائها الثلاثة المخطوفين من الساحل

الأمن السوري يعتقل قياديين في “الجهاد الإسلامي” بدمشق.. ما دلالات ذلك؟

اختطاف النساء في الساحل السوري و”سبيهن”.. ما القصة؟

تحقيق أميركي يكشف تفاصيل مروّعة عن مجازر الساحل السوري

إلهام أحمد: تطبيق اللامركزية سيخفف الأعباء عن دمشق
