إيران، البلد الغارق في الأزمات، نتيجة سياسة النظام الحاكم فيه منذ عقود عدة. وهذه السياسات متمثلة بالعداء تجاه دول الجوار والمنطقة وتدخلاتها في شؤون بعض دول المنطقة؛ مثل العراق وسوريا واليمن ولبنان، بالإضافة إلى عدم جدّيته على طاولات المفاوضات الدولية، ومخاتلة طهران تجاه ملفها النووي، وأخيرا اصطفافها مع روسيا وتدعيمها بالمسيّرات في غزو الأخيرة لأوكرانيا، فضلا عن علاقتها بالحزب “الشيوعي” الصيني الحاكم في بكين، الأمر الذي أغرقها في دوامة سوداء وعميقة.

نتيجة لكل ذلك، وتحديدا في السنوات الأخيرة، ساءت الأوضاع داخل إيران بشكل كبير، لا سيما اندلاع الاضطرابات الشعبية بين الحين والآخر تجاه سياسات طهران، على وجه الخصوص موجة الاحتجاجات الأخيرة في البلاد، بجانب اضطراب علاقات طهران مع معظم دول العالم، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي، واشتداد العقوبات الدولية على خلفية سياساتها العدائية المستمرة.

بالتالي، نتيجة لسوء الأوضاع في البلاد من جميع النواحي، ارتفعت مؤشرات الهجرة في عموم إيران. صحيح أنه لا توجد إحصاءات رسمية في هذا الشأن، إلا أن رئيس “مرصد الهجرة” في إيران، بهرام صلواتي، يقول إنه منذ عام 2010 حتى عام 2021 صدرت سنويا 86 ألف تأشيرة غير سياحية للإيرانيين، وأن بلاده سجّلت أرقاما قياسية في الهجرة على الرغم من أن بيانات “مرصد الهجرة” في إيران تكشف أن جواز السفر الإيراني يحتل المرتبة 102 عالميا بين 116 بلدا. بالتالي لا بد من البحث في أسباب زيادة الهجرة داخل إيران، وأبرز الطرق التي يلجأ إليها الإيرانيون للهجرة إلى الخارج، وكيف ينعكس ذلك على البلاد ككل.

الأسباب والدوافع

في السياق، يختار العديد من الإيرانيين الهجرة واللجوء خارج البلاد، ذلك لأنهم يعانون على جميع الأصعدة؛ السياسية والاقتصادية والحريات وحقوق الإنسان، من انعدام الحريات الاجتماعية، وليس انتهاء بتقييد مساحة الإنترنت، وبالتالي وفق نظرهم، بات العيش في إيران صعبا وغير ممكن.

مدير مركز “مرصد الهجرة” في إيران، قال مؤخرا، إن معدل هجرة الإيرانيين عام 2021 ارتفع عن المتوسط العالمي. وأضاف أن “إيران تحتل المركز الرابع عالميا في إرسال طلاب الدكتوراه إلى أميركا لكن 90 بالمئة من هؤلاء الطلاب لا يعودون إلى إيران بعد التخرج”.

“المعاونية العلمية والتقنية” الإيرانية، قدمت في يناير/كانون الثاني 2022، تقريرا تحت عنوان “الهجرة الدولية للإيرانيين وفق المواصفات العالمية” إلى الرئيس إبراهيم رئيسي، موضحة أن عدد المغتربين الإيرانيين تجاوز مليوني و900 ألف شخص عام 2020، وهو ما يعادل 2.29 بالمئة من المجتمع الإيراني.

المشكلات الاقتصادية والاجتماعية من العوامل المحفزة على الهجرة، مقابل الحوافز التي تقدمها الدول الأجنبية لاستقطاب الموارد البشرية الإيرانية، خاصة شريحة المثقفين وخريجي الجامعات. كما أن العديد من الراغبين في الهجرة أو من هاجروا بلغوا حالة اليأس من تحسّن ظروف حياتهم في إيران، لا سيما بعد جائحة “كورونا؛”كوفيد-19″، حيث فقد العديد منهم مصدر رزقه وتفشي معدل البطالة، بجانب فقدان العملة الإيرانية قيمتها، وبقية القضايا والمعضلات الاقتصادية والاجتماعية؛ كلها عوامل تسببت في تعزيز الدوافع للهجرة إلى خارج البلاد، حسبما يوضح المحلل والباحث في الشأن الإيراني، مسعود محمد، لموقع “الحل نت”.

كذلك، البعض وتحديدا النساء، بسبب ارتدائها الملابس بطرق “غير مناسبة” وفق قواعد وضوابط “شرطة الأخلاق والآداب” الإيرانية، باتوا يتلقون التهديدات والدعوات القضائية بحقهم نتيجة لهذه الأسباب، من قبل أشخاص مؤيدين للنظام الملالي، وفق تعبيره.

قد يهمك: تداعيات وأبعاد الاحتجاجات الإيرانية إقليمياً ودولياً

المراقبين أشاروا إلى أنه صحيح الرغبة في الهجرة واللجوء تزداد يوما بعد يوم في أوساط الشرائح الاجتماعية المختلفة لا سيما لدى فئات المجتمع الذين يعانون من أوضاع اقتصادية صعبة، بجانب الذين يتعرضون لتهديدات كبيرة، إلا أنه لا توجد مؤشرات تبعث التفاؤل بمستقبل تلك البلاد، وبالتالي من الطبيعي ازدياد حالات الهجرة بشكل تدريجي.

المحلل والباحث الإيراني، مهدي عقبائي، يتفق مع الرأي ذاته فيقول لموقع “الحل نت”، إن “إيران كانت ذات يوم مهد أعظم علماء العالم، لكن منذ بداية حكم الملالي لإيران، يتراجع البلاد للوراء، فضلا عن أن القمع وقتل الحرية والنهب الواسع النطاق لممتلكات الناس من قبل الفاشية”.

عقبائي يضيف أن نظام الملالي الحاكم في إيران، يواجه جملة من الأزمات، مثل أزمة ضواحي المدن، والمخدرات، والعديد من الأزمات الاجتماعية، ومنها الهجرة، وهروب رؤوس الأموال، بجانب الأزمة البيئية، وقضايا الفساد، وأن طهران لا تسعى لوضع حلول لأي من هذه الأزمات، وهذا يُعتبر من أكبر التحديات في البلاد.

إن الظروف الاقتصادية السيئة وحال البلاد لا سيما في أعقاب الاحتجاجات التي اندلعت في إيران منذ 4 أشهر على خلفية مقتل الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني، أثناء اعتقالها لدى “شرطة الأخلاق والآداب” في طهران، والتي ما تزال مستمرة حتى اليوم وبعث بشعور السخط وفقدان الأمل بالعيش الكريم والحر في هذه البلاد، لذا اتجه فئات عديدة من المجتمع الإيراني إلى خيار الهجرة وتفضيل العيش خارج إيران.

كما أن القيود المفروضة على الحرية، وقلة فرص العمل، وعدم تكافؤ الفرص أو تقدير الكفاءات الشابة، بالإضافة إلى القيود المفروضة على الإنترنت، والتي أثّرت على عمل آلاف العاملين على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وتحديدا تطبيق “إنستجرام”، بالتالي كان خيار الهجرة هو الأفضل، وفق محمد.

عقبائي، يقول إن عدم قدرة النظام الإيراني على حل هذه الأزمات وسياسة القمع والاختناق التي يتبعها للحفاظ على الحكم والضغوط الهائلة التي سببتها هذه الأزمات، كلها نتاج حكم الملالي على مدى أكثر من أربعة عقود، وهي السبب الرئيسي وراء استمرار سلسلة الانتفاضات الشعبية، التي تشهد اليوم إحدى أكثرها ضخامة واتساعا، ودخلت الآن شهرها الخامس، وزعزعت أركان النظام الإيراني، والفرق بين هذه الأزمة وأزمات أخرى هو أن النظام لا يملك أي حل لأي منها.

هذا وقد صرح الأمين العام لـ”الأمم المتحدة” أنطونيو غوتيريش، أواخر عام 2022 الماضي، قال فيه إن “الهجرة يجب أن تكون اختيارا، لا ضرورة”.

كذلك، تراجعت العملة الإيرانية المضطربة إلى مستوى قياسي منخفض مقابل الدولار الأميركي وسط عزلة متزايدة للبلاد وعقوبات محتملة من الاتحاد الأوروبي على “الحرس الثوري” الإيراني أو بعض أعضائه، مما يدخل البلاد إلى مسارات أعقد وأسوأ مما هو عليه أصلا، على إثر سياسة السلطات الحاكمة في طهران.

تداول الدولار، جرى بما يصل إلى نحو 447 ألف ريال في السوق الإيرانية غير الرسمية يوم أمس الخميس، وفقا لموقع “بونباست دوت كوم” لأسعار الصرف.

أرقام كبيرة

في المقابل، وبعد الثورة الإسلامية عام 1979، شهدت إيران هجرة شاملة لطبقة واسعة من معارضيها، حيث يُعد الإيرانيون المغتربون شعبا بموازاة الشعب الإيراني في الوطن، ويُقدر عددهم وفق مصادر أجنبية بأكثر من مليوني شخص. وفي السنوات الأخيرة، حيث ساءت الأوضاع في ظل العقوبات الدولية، مما أدى إلى ارتفاع مؤشرات الهجرة في البلاد.

بينما يشهد الريال الإيراني انخفاضا حادا مقابل الدولار الأميركي، يرتفع مقدار خروج رؤوس الأموال من البلد. وفي هذا الصدد، يقول صلواتي إن هجرة كل إيراني تعني خروج 45 ألف دولار من البلد على أقل تقدير، طبقا لتقرير لموقع “الجزيرة“.

مصادر إيرانية غير رسمية، كشفت في وقت سابق أن 70 مليار دولار ذهبت من إيران إلى كندا، وعبر قطاع الشركات والعقار، في السنة ونصف السنة الأخيرة الماضية. ويكشف صلواتي أن تكاليف التعليم والصحة التي أنفقتها الدولة على كل مهاجر تعادل ملياري “تومان” إيراني، العملة الفارسية الرسمية سابقا.

الباحث في الشأن الإيراني، يقول إن الإحصاءات العالمية تظهر أن معدل دخل المواطن الإيراني العادي في العديد من الدول الأجنبية يفوق 10 أضعاف ما يتقاضاه في بلده. وألمانيا والسويد وهولندا وفرنسا تعدّ الوجهات الرئيسية للمهاجرين الإيرانيين إلى الغرب، وتستثنى بريطانيا بوصفها خارج التكتل الأوروبي، لكنها تعتبر الوجهة الثانية بعد ألمانيا للمهاجرين الإيرانيين في أوروبا.

بحسب تحقيقات “مرصد الهجرة” في إيران التابع لجامعة “شريف” للتكنولوجيا في طهران، “في 22 أيار/مايو إلى 21 حزيران/يونيو 2022، كانت أهم أسباب هجرة الإيرانيين هي، طريقة الحكم في البلاد، وعدم الاستقرار الاقتصادي، والفساد المؤسسي، والعقوبات التي تخضع لها البلاد، وتراوح سعر العملة، والتضخم والظروف المعيشية الصعبة”. وأن خيار “الهروب من الوضع الحالي” لم يكن ضمن الردود على سؤال أسباب الرغبة بالهجرة سابقا، بينما أُضيف هذا الخيار في السنوات القليلة الماضية.

أبرز طرق الهجرة

رئيس فريق علمي يتولى إجراءات هجرة الطلاب من إيران إلى كندا وحصولهم على قبول في جامعاتها، قال إن أغلب من يستشيرونه يرون أن الهجرة بغرض الدراسة أسهل طريقة لمغادرة البلاد بحثا عن مستقبل زاهر، مضيفا أن عدد الراغبين بالهجرة يزداد سنويا رغم أن الأسعار في كندا مرتفعة بالنسبة للإيرانيين، لكنها خيارهم المفضل لأن اللغة المعتمدة الإنكليزية، وأيضا آفاق التطور مفتوحة هناك أمام الجميع.

قد يهمك: إيران تعزز أسلحتها الجوية.. ما الانعكاسات على المواجهات المحتملة في المنطقة؟

الباحث في الشأن الإيراني، يقول إن أبرز طرق الهجرة من إيران، يتم عبر سواحل تركيا، سواء بحرا أو برا، بجانب طلبات الحصول على تأشيرات التعليم، أو الحصول على فرص عمل عن طريق العديد من الشركات أو المؤسسات أو حتى المعارف، كما أن أصحاب الكفاءات والخبرات، ممن يلتقون فرص عمل سواء في الجامعات أو مراكز الأبحاث أو بعض الشركات الخارجية، فإنهم لا يفّرون على أنفسهم دون أدنى شك هكذا فرص.

أيضا، دائما ما تشير الإحصاءات غير الرسمية، إلى أن آلاف الإيرانيين الذين يسعون للهجرة إلى الدول الأجنبية، معظمهم من التقنيين والخبراء وأصحاب الشهادات العالية، وفق تعبيره.

“مرصد الهجرة” في إيران، كان قد نوّه في وقت سابق إلى أنه عادة، تنشر “الأمم المتحدة” تقارير عن المهاجرين المفقودين، لكن العدد الحقيقي هو عدة أضعاف هذا العدد. وأنه “ما بين 20 إلى 30 ألف شخص يُفقدون كل عام، وتنقطع جميع أخبارهم ويبقى مصيرهم مجهول. فبعض المهاجرين يفقدون أوراق ثبوتيتهم ووثائق هويتهم بسبب الطرق غير القانونية الوعرة والصعبة التي يمرون عبرها.

كذلك، إن طرق الهجرة الأكثر مأساوية هي الهجرة القسرية التي تشهد ارتفاعا هائلا بين الإيرانيين بسبب الأوضاع الراهنة التي تعيشها البلاد. وأكد المرصد، أنه يصدر في إيران سنويا ما يقارب 50 ألف تأشيرة للإيرانيين، 30 ألف منها من طالبي اللجوء، و 10 إلى 15 ألف من أجل التعليم، و5 آلاف منها للعمل.

التداعيات

بحسب أحدث إحصائيات “مرصد الهجرة”، تُعد أميركا وكندا وتركيا وألمانيا وبريطانيا الوجهات المفضلة للإيرانيين المغتربين. وتقول هذه الإحصائيات إنه من حيث جهة تأسيس شركات “اليونيكورن”، شركات ناشئة يتجاوز رأسمالها مليار دولار ومعظمها مختصة بالتكنولوجيا، يحتل الإيرانيون المرتبة العاشرة. كما أنه في عامي 2020 و2021 تم تأسيس 1661 شركة في تركيا بمساهمة الإيرانيين.

كذلك، الإيرانيون أنفقوا 3 مليارات ونصف المليار دولار في عام 2022 لشراء المنازل في تركيا، إلى جانب 22 مليون دولار لتسجيل شركاتهم هناك في العام ذاته.

بالعودة إلى الباحث في الشأن الإيراني، فإنه يقول إن تهالك طهران على عدة مستويات، وتحديدا الاقتصادي، من حيث غياب رؤية مستقبلية واضحة للاقتصاد الإيراني حتى نهاية العام الإيراني الحالي إلى الآن، فإن المؤسسات الاقتصادية ستعاني كثيرا أكثر مما هي عليه الآن، وذلك على إثر انخفاض مستوى الطلب على منتجاتها وخدماتها، من العملاء والمبيعات المحلية في جميع الصناعات، كما سيواجه عديد من الشركات والمصانع نقصا في العمالة.

كما أنه يُتوقع أن تشتد العقوبات الدولية على إيران، على إثر عدم تراجع طهران في سياساتها، وقمعها ضد الاحتجاجات الشعبية هناك، وبالتالي زيادة تدهور الأوضاع الاقتصادية والعامة في البلاد، الأمر الذي سيزيد من تدفق عمليات الهجرة إلى الخارج، الأمر الذي له تداعيات سلبية جمة، ولا سيما على مستوى قطاعات التعليم والصحة والتجارة الإلكترونية، وفق تقديره.

بحسب إحصاء السكان الذي أجرته أميركا عام 2018، كان 29 ألف إيراني يعمل في قطاع الصحة في أميركا، ومن بينهم 8 آلاف طبيب وجراح، ويشكل هذا العدد 26 بالمئة من الإيرانيين العاملين بقطاع الصحة في أميركا.

هذا وحذرت إيران في الأشهر القليلة الماضية من نقص الأطباء لأسباب أهمها الهجرة، حيث قال رئيس النظام الطبي محمد رئيس زاده، “إذا استمر الوضع كما هو ستصبح البلاد بعد 5 سنوات من دون متخصصين في بعض المجالات ولا سيما جراحة القلب”.

من جانب آخر، قامت شركة التحليلات والاستشارات الأميركية المعروفة بمؤسسة “غالوب” في عام 2018 بإحصاء نسبة رغبة المهاجرين بالعودة إلى أوطانهم. ووفق هذه المؤسسة، فإن نسبة الرغبة بالعودة في العالم تعادل 7 بالمئة فقط.

تاليا، يمكن القول أنه طالما سياسة طهران مستمرة، لا سيما عدائها مع دول الجوار، وعدم جدّيتها في حلحلة الملف النووي، واستمرارية العقوبات الدولية، بجانب قمعها للاحتجاجات الشعبية الداخلية، فإن أوضاع البلاد ستتدهور إلى مستويات أكبر، وخصوصا في الجانب الاقتصادي، وبالتالي زيادة الرغبة بالهجرة داخل المجتمع الإيراني، الأمر الذي له تبعات جمة، سواء على إيران أو على الدول المستضيفة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة