الوضع في لبنان يزداد سوءا ويدخل في مراحل أكثر تعقيدا، مع استمرار أزمة الشغور الرئاسية، حيث لم يتفق الفرقاء السياسيين في البلاد بعد على تنصيب رئيس جديد للبلاد. بالإضافة إلى قضايا الفساد والفوضى الأمنية، نتيجة تعدد القوى السياسية المتحكمة بالبلاد ولا سيما “حزب الله” اللبناني الموالي لإيران. ولكن الأزمة الاقتصادية التي تشهدها لبنان منذ صيف عام 2019، أحد أكبر الأزمات في الوقت الراهن، والتي صنّفها “البنك الدولي” بين الأسوأ في العالم منذ عام 1850، حيث فقدت الليرة اللبنانية نحو 90 بالمئة من قيمتها، نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار.

الأزمة الاقتصادية بلبنان تبعث كل يوم بمشاهد صعبة وبرز مؤخرا اقتحام ضباط شرطة المصارف للحصول على أموالهم، بعد أن اقتحم العديد من المدنيين للبنوك في الفترات السابقة بغية الحصول على أرصدتهم. العديد من الخبراء حذّروا من أن عمليات اقتحام المصارف ستتكرر طالما لم يتم إيجاد حل للمشكلة بإعادة ودائع المودّعين، لا سيما وأن الودائع المالية هي حقوق الناس، غير أن السلطات الحاكمة في بيروت لم تجد أيّة حلول ولو مؤقتة لهذه الأزمة بعد، بل أن الوضع في تدهور متزايد يوما بعد يوم.

بالتالي تبرز عدة تساؤلات حول قضية ودائع اللبنانيين في البنوك، الذي يوحي بأنه يتوجه نحو المفاقمة وليس العكس وفق المعطيات والمؤشرات، إلى جانب عواقب استمرار الوضع على ما عليه وتداعياته، وكذلك تساؤلات حول ما سيتّجه إليه الوضع في لبنان، سواء من جهة الشارع أو الدولة والنخبة الحاكمة.

سُلطات فاسدة؟

في حين سجلت العملة اللبنانية انخفاضا قياسيا آخر مع تقدم التّحقيق القضائي مع رئيس “المصرف المركزي اللبناني”، رياض سلامة، انضم ضباط الشرطة إلى صفوف العديد من المواطنين، من حيث اقتحام البنوك في محاولة للحصول على أموال خاصة تم إيداعها سابقا، وفق تقرير لموقع “المونيتور” الأميركي.

في الأثناء، ذكرت “وكالة الأنباء الوطنية” الرسمية أن مجموعة من ضباط الشرطة اقتحمت فرع بنك “سوسيتيه جنرال دي لبنان” في مدينة صور الجنوبية مطالبين بدفع رواتبهم. هذا وحدثت موجة من السطو المسلح على البنوك في لبنان خلال العام الماضي، حيث سئم المواطنون بشكل متزايد من الانهيار الاقتصادي الكبير الذي ضرب البلاد، والقيود التي تفرضها المؤسسات المالية على الوصول إلى ودائعهم. وذلك نتيجة الفساد المستشري والسلطة الفاسدة التي تحكم البلاد، وفق مراقبين.

الكاتب والمحلل السياسي اللبناني، أسعد بشارة، يرى أن الانهيار الاقتصادي في لبنان مرشّح لأن يتفاقم أكثر فأكثر وأن يتحول إلى انفجار اجتماعي، لا سيما في ظل انهيار الليرة اللبنانية أمام العملات الأجنبية، الأمر الذي من شأنه التّسبب في انهيار القدرة الشرائية للبنانيين.

بالتالي، وبحسب تقدير بشارة لموقع “الحل نت”، فإن لبنان سيشهد في المرحلة المقبلة اضطرابات كثيرة في الشارع اللبناني، ذلك لأن ما يجري هو مجزرة اقتصادية بكل معنى الكلمة، فقد تم سرقة أموال وودائع اللبنانيين في المصارف واستُعملت في تمويل سلطة فاسدة.

قد يهمك: مساعي دولية لحل أزمة الشغور اللبنانية.. الثقل الخليجي بدأ يتحرك؟

هذا وتراجعت الليرة اللبنانية إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق بأكثر من 87 ألف ليرة للدولار خلال اليومين الماضيين، بحسب موقع “ليرتي”. الأزمة الاقتصادية في لبنان، والتي لا تزال مستمرة حتى اليوم، أدت إلى انتشار سوء إدارة الأموال والفساد وضوابط رأس المال من قبل المؤسسات المالية اللبنانية كما أدت الأزمة أيضا إلى عجز معظم اللبنانيين عن الوصول إلى مدّخراتهم في البنوك.

البنوك اللبنانية دخلت إضرابا في أوائل شباط/فبراير الماضي للمطالبة بقوانين أكثر صرامة لمراقبة رأس المال، لكن أُعيد فتحها الأسبوع الماضي. وكان هناك العديد من عمليات التعطيل المسلحة للبنوك من قبل المودّعين الغاضبين منذ العام الماضي.

تأزم الوضع

غضب الشارع اللبناني يتزايد يوما بعد يوم، وسط استمرار سقوط الليرة اللبنانية أمام النقد الأجنبي. والذي يؤكد هذا الأمر هو إحراق المتظاهرين لعدة بنوك في لبنان الأسبوع الماضي بسبب انخفاض قيمة الليرة. ما يرجّح أن يزداد الوضع سوءا، وأن تشهد البلاد موجات غضب غير مسبوقة، وفق مراقبين.

الكثير من الغضب الشعبي موجّه ضد رياض سلامة، الذي اتّهم منذ بدء الأزمة بالفساد الهائل واختلاس الملايين من أموال الشعب اللبناني. كما يخضع للتحقيق في فرنسا وسويسرا. حيث أفادت صحيفة “لوريان توداي” اللبنانية، أن سلامة سيواجه المحاكمة قريبا في لبنان، نقلا عن مصدر قضائي. وتشكل الخطوة، خطوة قضائية في مسار الحفاظ على حقوق الدولة اللبنانية فيما يتعلق بأصولها التي تم اختلاسها. ولم يقدّم المنفّذ مزيدا من التفاصيل.

تقرير “لوريان توداي” جاء في أعقاب تقرير لوكالة “فرانس برس” الأسبوع الماضي مفاده أن قاض لبناني اتّهم سلامة بالاختلاس. ويوم الأحد الماضي، أفادت “وكالة الأخبار السويسرية” أن سلامة اختلس ما يصل إلى 500 مليون دولار موزعا إيّاها في 12 بنكا في سويسرا.

بالعودة إلى المحلل السياسي، بشارة، فإنه يعتقد أن الساحة اللبنانية ستشهد العديد من مظاهر اقتحام البنوك وإحراقها أو ربما اختطاف موظفيها ونحو ذلك، لأن تدهور الأوضاع الحالية والانفجار والغضب الشعبي الكبير، لن يكون بمقدور أي قوة أمنية أو عسكرية ضبطه.

صحيح أن الجيش اللبناني والقوى الأمنية الأخرى موجودة وهم يحاولون قدر المستطاع السيطرة على الوضع المأزوم، إلا أن الوضع في لبنان سيصل إذا استمر هذا التضخم الهائل في الليرة والتدهور الاقتصادي الذي يعاني منه ملايين اللبنانيين، إلى فترة مأزومة كبيرة، بحيث لن تكون هناك قدرة للسيطرة وضبط الأمور، وفق توقعات بشارة.

في ظل الفساد الكبير في لبنان، قالت “هيئة مراقبة السوق المالية السويسرية” (فينما)، يوم الإثنين الماضي، إنها أجرت تدقيقا شمل 12 مصرفا وبدأت إجراءات ضد اثنين منها على صلة بتهم فساد موجهة لسلامة. في حين اتهمت السلطات اللبنانية سلامة وشقيقه رجا وموظفة مساعدة له يوم الخميس الماضي، بغسل الأموال والاختلاس والإثراء غير المشروع بعد أشهر من التأخير في القضية المهمة.

غير أن الأخوان سلامة ينفيان منذ البداية ارتكاب أي مخالفات. وأصر سلامة على براءته وقال إن التّهم لا تمثل لائحة اتهام وتعهّد بالالتزام بالإجراءات القضائية. وجاءت التّهم بعد تحقيق أجراه لبنان استمر 18 شهرا حول ما إذا كان سلامة وشقيقه رجا، حصلا بشكل غير قانوني على أكثر من 300 مليون دولار من “المصرف المركزي” في الفترة من عام 2002 إلى 2015.

فينما“، تتخذ إجراءات لإنفاذ القانون عندما تكتشف إخفاقات في أحد البنوك وتعمل على تحديد الخطأ الذي حدث والإجراءات اللازمة لمنع حدوث انتهاكات للوائح غسل الأموال في المستقبل. وفي الوقائع الخطيرة، يمكن لـ”فينما” فرض إجراءات على البنوك وأيضا إحالة الأمور إلى المدّعين الاتحاديين السويسريين إذا اشتبهت في حدوث انتهاكات جنائية.

أما بشأن طبيعة الإجراءات في هذه القضية أو تحديد المصارف المعنية، رفضت “فينما” التعليق عليه. وأشارت صحيفة “زونتاج تسايتونج” السويسرية، إلى مزاعم بأن الأخوين سلامة قاما بتحويل 330 مليون دولار إلى حسابات سويسرية عبر شركة “فوري أسوسيتس” المسجلة في جزر فيرجن البريطانية، مضيفة أنه تم إنفاق مبالغ كبيرة على شراء عقارات في عدة دول بـ”الاتحاد الأوروبي”.

كذلك، نحو 250 مليون دولار دخلت في حساب رجا سلامة الشخصي بفرع بنك “إتش.إس.بي.سي” في جنيف. وأضافت الصحيفة أنه تم إيداع مبالغ أخرى في “يو.بي.إس” و”كريدي سويس” و”جوليوس باير” و”إي.إف.جي” و”بكتيت”. وقالت متحدثة باسم “بكتيت” إن البنك ليس لديه علم باتخاذ أي إجراءات ضده أو ضد موظفيه فيما يتعلق بهذا الأمر. فيما قال “إي.إف.جي” إنه لا يستطيع التعليق على العملاء الأفراد، وأضاف أن لديه “إجراءات صارمة للغاية فيما يتعلق بالتأهيل ومكافحة غسل الأموال تتوافق مع جميع القواعد واللوائح ذات الصلة”. أما مؤسسة “أكونتابيليتي ناو” السويسرية تقدمت بشكاوى إلى “فينما” ضد بنوك “عودة” و”ميد وإتش.إس.بي.سي” و”جوليوس باير” فيما يتعلق بمزاعم عن ارتكاب سلامة جرائم مالية.

بحسب تقديرات مراقبين وخبراء فإنهم يرون أن هذه الاتهامات لم تأتِ من لا شيء وبالتالي يجب محاسبة كل المتورطين في سرقة واختلاس أموال اللبنانيين وإعادة ودائعهم والبحث عن حلول وأطر التي من شأنها تهدئة غضب الشارع اللبناني، وإلا فإن البلاد ستدخل في دوامة ومرحلة أسوأ مما هي عليه خاصة إذا ما اندلع الشارع وتوقفت عجلة الحياة الاقتصادية مما سيكون له نتائج كارثية. وعلى المجتمع الدولي التدخل لوقف نزيف الاقتصاد والوضع المعيشي هناك.

لبنان يتجه نحو “الدولرة” والمجهول

يبدو أن كرة “الدولرة” تتدحرج تباعا إلى مختلف القطاعات في بيروت، ليصبح قرار التسعير بالعملة الخضراء أمرا واقعا بقرار رسمي أو غير رسمي. وبينما سبق لقطاعات عدة أن اتخذت قرار التسعير بالدولار، بشكل مباشر أو غير مباشر، أعلن قبل يومين، وزير الاقتصاد في حكومة “تصريف الأعمال” أمين سلام، أن مخازن السوبر ماركت ستبدأ التسعير بالدولار بدءا من الأول من شهر آذار/مارس الجاري، وفق سعر صرف الدولار في السوق السوداء.

لا شك أن هذا القرار يأتي في موازاة إجراءات أخرى اتُّخذت سابقا ترتبط بقطاعات أخرى على غرار المحروقات التي تسعّر بالليرة اللبنانية إنما وفق تقلبات سعر الصرف في السوق السوداء، إضافة إلى الدواء، والتأمين على اختلاف أنواعه، وبدل المستشفيات، بينما يتم دفع رواتب القطاع العام وفق ما يُعرف في لبنان بـ”دولار صيرفة” الذي حدده مصرف لبنان، ويكون عادة أدنى من سعر السوق، كي يتسنى للموظف الاستفادة من هذا الفارق، وهو المحدد اليوم على سبيل المثال بـ 45400 ليرة لبنانية مقابل نحو 88 ألفا هو سعر الدولار في السوق السوداء، وفق جريدة “الشرق الأوسط”.

في خضم كل هذا التراجع والتدهور، يتوجّس اللبنانيون من تداعيات قرار التسعير بالدولار في سلاسل السوبر ماركت، التي تشكل مقصد معظم اللبنانيين لشراء المواد الغذائية والاستهلاكية، خاصة بظل التفلّت في الأسواق وغياب الرقابة. ويرى الخبراء أن هذا الأمر قد يكون لمصلحة المواطن شرط أن يترافق مع الشفافية ومراقبة حماية المستهلك. مع العلم أن الأسعار في الأسواق اللبنانية تشهد ارتفاعا غير مسبوق نتيجة اعتماد التجار ما يعرف بـ”الهوامش الحمائية من تقلّب سعر الصرف”، بحيث يقومون بتسعير المنتجات وفق سعر صرف أعلى بما بين 3 و5 آلاف ليرة عن سعر الدولار في السوق.

قد يهمك: هل تستطيع صفقة الغاز الإسرائيلية إصلاح الأزمة الاقتصادية في لبنان؟

أما البعض الآخر يرون أنه بهذه الإجراءات تتكرس “الدولرة” في لبنان، ووفق تقدير الخبراء الاقتصاديون أنه يمكن الحديث عن دولرة جزئية وليس دولرة شاملة، أي الاعتماد الكلي على العملة الخضراء، لأن هناك 90 مليار دولار من الودائع لا تُردّ لأصحابها بالدولار، بل تدفع بالليرة اللبنانية، وما يدفع للقطاع العام وفق “دولار صيرفة” هو إما من الاحتياطي أي من الأموال التي تطبع في سياق برنامج تضخمي بامتياز، أي أن لبنان لا يزال يعتمد على طباعة الليرة لشراء الدولار في وقت لا تدخل فيه دولارات كافية لتغطية حاجيات القطاعين العام والخاص. وهو ما يعكس مزيدا من التضخم وفقدان الليرة اللبنانية قيمتها، وزيادة في اضطراب الوضع الاقتصادي والمالي.

في ظل التخبط الحكومي، يبدو أن الوضع بات أقرب لأن يكون خارج سيطرة الدولة، وفي ظل عدم انتخاب رئيس جمهورية يعني أن كل هذه الإجراءات تُعدّ بمثابة “شكليات” ولا نتائج منها سوى تردي الوضع. بالنظر إلى الوضع اللبناني، فإن المعطيات تشير إلى أنه طالما صراع المحاور السياسية قائم، فإن المتضرر الوحيد هو الشعب اللبناني الذي لا يرى سوى تلاعب وصراعات بين الأطراف السياسية على حساب مستقبله.

مما لا شك فيه أن كل ما يحدث في لبنان هو نتيجة الاضطرابات السياسية التي تشهدها الساحة اللبنانية منذ سنوات، بجانب فشل بيروت في تشكيل حكومة بعد الانتخابات البرلمانية في أيار/مايو 2022، والتي أسفرت عن برلمان معلّق بدون أغلبية واضحة. ومن ثم تفاقم الوضع عندما انتهت ولاية الرئيس آنذاك ميشال عون، في أواخر تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي. ولم يتمكّن البرلمان منذ ذلك الحين من انتخاب رئيس جديد للبلاد، وفي الوقت الراهن تحكم البلاد حكومة انتقالية تتمتع بشرعية وسلطة محدودة للغاية.

هذا وكانت الآمال ولا تزال تعول على حقيقة أن الاتفاقية البحرية الموقّعة بين إسرائيل ولبنان منذ وقت ليس ببعيد، ومن ثم دخول شركات النفط، بما في ذلك دخول شركة قطرية إلى “كونسورتيوم” للتنقيب عن الغاز، ستكون البوابة لإنقاذ الاقتصاد اللبناني من أسوأ أزمة في تاريخه على الإطلاق.

لكن العديد من الخبراء يقولون إنه يمكن أن تصبح احتياطيات النفط والغاز البحرية في لبنان في نهاية المطاف شريان حياة اقتصادي للبلد المنهار منذ سنوات طويلة. غير أن إنشاء أسس فعّالة للاستكشاف والاستخراج في المستقبل قد يكون صعبا في بيئة بيروت المنقسمة سياسيا والمتحكمة من قبل جهات خارجية، مثل إيران عبر ذراعها “حزب الله” اللبناني.

طالما أن “حزب الله” لا ينفك عن إحداث الثغرات والمشاكل في البلد ككل ولجهة مصالح طهران، وهو حجرة عثرة أمام استقرار الأوضاع في لبنان، فإن هذا يزيد من تعقيد وتأزم الوضع اللبناني، أي أن الأمر يتخطى الحدود اللبنانية، وبالتالي لا حل في القريب العاجل للمشهد اللبناني ما لم يتدخل المجتمع الدولي بقوة لحل أزمات البلاد ككل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.