نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريراً عن فنان سوري تعرض للاعتقال والتعذيب، احتفظ بصور لما يحصل في المعتقلات في ذاكرته، ليجسدها في لوحات بسيطة وبأدوات بسيطة. وهو الفنان نجاح البقاعي الذي تستعد دار النشر الفرنسية دي سيوي لنشر كتاب عن رسوماته.

بحسب التقرير، يرى البقاعي أن ذاكرته الفوتوغرافية هي أعظم ما يملك، حيث بإمكانه استعادة المشاهد بعد أشهر وسنوات من حدوثها ورسمها على الورق. فبالرغم من نجاته من الموت مرتين في سجون الأسد سيئة السمعة، إلا أن ذكرياته الموحشة لا تفارقه أبداً.

كانت الطريقة الوحيدة للتعامل مع الصدمات التي شهدها وعانى منها في غرف التعذيب بعد أن انتقل مع عائلته إلى فونتياني لو كوم في #فرنسا، أن يملأ الصناديق بعشراتٍ من رسوماته للصور المحفورة في دماغه.

إحدى الصور العالقة في الذاكرة هي لمعتقلين بملابسهم الداخلية فقط، يحملون جثة ملفوفة بما يشبه شرشفاً أو بطانية للتخلص منها ورميها بين كومة من الأجساد الأخرى في ظهر شاحنة. لا يعرف من كان ذلك الشاب، لكنه رأى الرقم 5535 على صدره. وقد أمروا المعتقلين الحاملين للجثة أن يخلعوا ملابسهم الداخلية حتى تسهل عملية رصدهم في حال حاولوا الفرار. قال: “الرسم أنقذني” بينما كان يبسط لوحاته على الطاولة.

يرى العديد من النقاد أن فن البقاعي يذكرهم بعمل الفنان السلوفيني زوران ميوزك الناجي من المحرقة، حيث تسكن الواقعية القاتمة للغاية أعماله. ففي رسوماته بعض السجناء معلقون من أيديهم، ويتعرض آخرون لأشكال مختلفة من التعذيب، في حين يتناول زملاؤهم في الزنزانة وجباتهم بهدوء بدون أي اعتبار للمظاهر اللإنسانية التي تحصل حولهم. يقول البقاعي: ” كنت أراقب كل شيء، وأرسم لوحاتي في رأسي”، وتحدث عن الوقت الذي قضاه في زنزانة مكتظة حيث توجب على السجناء خلع ملابسهم بسبب الحرارة التي لا تحتمل.

تحدث البقاعي عن صراخ السجناء ورائحة اللحم الفاسدة العالقة في ذاكرته، وكيف اعتاد وآخرون على ذلك. وها هو اليوم يسافر عبر فرنسا لرفع مستوى الوعي حول أهوال مراكز الاحتجاز، في حين تستعد دار النشر لإصدار كتاب عن رسوماته.

وفق الجريدة لم تكن تجارب البقاعي خلال “الحرب الأهلية السورية” مختلفة عن تجارب عشرات الآلاف من الشبان الآخرين الذين نزلوا إلى الشوارع مطالبين بالديمقراطية وحقوق الإنسان، فقد ألقي عليه القبض ثلاث مرات خلال مشاركته في الاحتجاجات، وسجن في العام 2011 لمدة شهر، ولـ 11 شهراً في العام 2014.

وبحسب جماعات حقوق الإنسان، عذّبت حكومة #الأسد عشرات الآلاف من المعارضين السياسيين، العديد منهم لم يعودوا إلى أسرهم، ولا أحد يعرف بالضبط عدد المختفين.

سارة الكيالي، وهي باحثة في هيومن رايتس ووتش، تقول:  لم أرى في أي بلد شيئاً يشبه أساليب التعذيب التي تستخدمها أجهزة الأمن السورية”.

وبحسب التقرير، فإن البقاعي ذي الـ 47 عاماً محظوظ لأنه خرج من سجون الأسد وهو على قيد الحياة، لكنه خسر أكثر من 40 من أفراد عائلته في العام 2012 خلال تعرض حيّهم في جديدة عرطوز لقصف، وهي إحدى الضواحي.

ويوضح التقرير أيضاً أن خروجه من السجن على قيد الحياة وهروبه من سوريا يعود إلى عزم زوجته عبير جسومة خلال فترة اعتقاله. فكانت تستمر في البحث عنه إلى أن تجده، استغرقت في فترة اعتقاله الأولى 10 أيام لتجده، و20 يوماً خلال فترة اعتقاله الثانية، رشت المسؤولين بما يتجاوز الـ 20000 دولار لتكسب حريته، والذي تم جمعه بمساعدة الأهل والأشقاء الذين يعيشون في الخارج، حيث يشكل ما يعادل 10 أضعاف دخلها السنوي.

وقد اختار الاستقرار في فرنسا لأن أخوه يعيش هناك، ولأن لدى السيد البقاعي صلة بفرنسا، حيث كان قد التحق ببرنامج البكالوريوس في روين في تسعينيات القرن الماضي، بعد أن اتم دراسة الرسم في مدينة حمص السورية والفنون الجميلة في العاصمة دمشق.

أما عن موقف العائلة السياسي من النظام فجاء في التقرير: كان والده الذي يعمل في مصفاة تكرير النفط في حمص علمانياً، لكنه غير منخرط في السياسة. في الوقت الذي كان العديد من أقاربه يعارضون الحكام الاستبداديين في البلد وهم حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار الأسد، وكانوا من بين أول من انضم إلى المظاهرات السلمية التي اندلعت في العام 2011. وأول احتجاج خرج في جديدة عرطوز كان مكون من 25 شخص، 15 منهم كانوا من عائلة البقاعي.

ويؤكد البقاعي أن قيم الحرية والديمقراطية سوف تنتصر. وقال: “عندما رأينا أن القوات الدولية أطاحت بالقذافي، ظننّا أنها فرصتنا لإسقاط الأسد، لم نكن نعتقد أبداً أنه سوف يذبح السوريون من دون أي رد فعل لأي جهة دولية، كنا على يقين أننا سوف نخسر بضع مئات ثمناً صغيراً من أجل حريتنا”.

لذلك بقي البقاعي في سوريا، بالرغم من يقينه أنه سوف يتعرض للاعتقال. ومع أن قوات الأمن فتّشت منزل والدته وحرقته في العام 2012، إلا أنه بقي يعيش مع العائلة حتى تم اعتقاله من قبل قوات الأمن. وقالت السيدة جسومة: “كنت دائماً خائفة، لكنه لم يستجيب لي حتى عندما طلبت منه التوقف عن النشاط”.

تم اعتقاله أول مرة في تموز 2012 عندما كان في طريقه إلى الجامعة الدولية للعلوم والتكنلوجيا في دمشق حيث يعمل مدرساً للفن. كان خطأه في البقاء على متن الحافلة أثناء عبورها أحد نقاط التفتيش العديدة التي ظهرت في دمشق مع تصاعد الحرب.

وجدت قوات الحماية اسمه على قائمة المطلوبين، أنزلوه من الحافلة وهم ينادونه بالخائن، كبلوا يديه وعصبوا عينيه بقميصه واقتادوه إلى مركز الاحتجاز حيث تعرض للضرب المبرح لدرجة تسبب بكسر بعض عظامه حيث ما يزال معصماه يحملان ندوباً منذ ذلك اليوم، كما تعرض لفقدان السمع لفترة مؤقتة. ويقول: ما زلت حتى اليوم أسمع صراخ السجناء الآخرين.

وبحسب السيدة جسومة، فقد دفعت نحو 1000 دولار لإخراجه من السجن في المرة الأولى، لكن بقيت التهم ملحقة باسمه، فقضى عامين متخفياً عن الأنظار. إلى أن قرر وعائلته الهروب من سوريا في العام 2014، حيث رشوا أحد الأشخاص ليزيل اسمه من نقطة التفتيش على الحدود. تظاهروا بأنهم مسيحيين ووضعوا الصليب في أعناقهم، لكن غُدر بهم. فاسم البقاعي كان ما يزال مدرجاً في قائمة المطلوبين، فألقي القبض عليه وأعيد إلى مركز الاحتجاز نفسه في الفرع 227.

كانت الانتهاكات اللإنسانية قد وصلت إلى مستويات جديدة في ذلك الحي،, فكان السجناء مجبرين على مشاهدة التعذيب والمشاركة فيه. مجدداً، دفعت السيدة جسومة رشوة أكبر حيث بلغت 6000 دولار لكي يُنقل زوجها إلى سجن لا يتعرض فيه للتعذيب كما يسمح لهم بالزيارات العائلية، ذلك بعد 70 يوماً.

تمسك البقاعي بالحياة وتعلق بها ليتمكن من تجاوز محنته، قال: “كان لدي أمل كبير في الخروج ورؤية زوجتي وابنتي مجدداً”.

استمرت زوجته في العبور من مناطق الحرب إلى حيث سجن زوجها 38 مرة لتزوره وتمنحه الشجاعة والبقاء على قيد الحياة، كما تقول. وبعد دفع آخر رشوة أطلق سراحه، وفي شهر تشرين الأول 2015، وبعد أن تأكد من إزالة اسمه من قائمة المطلوبين، غادروا سوريا بشكل نهائي. حاملين بعضاً من الرسومات التي رسمها في السجن وآلات موسيقية لتجذب انتباه ضباط الجمارك بعيداً عن الرسومات. وفور وصولهم إلى لبنان طلبوا اللجوء من السفارة الفرنسية.

يحاولون اليوم ببطء تأسيس حياة في الخارج، لكنهم ما زالوا يأملون بالعودة إلى سوريا يوماً ما بعد إسقاط النظام، وإلى حين ذلك اليوم سوف يبقى البقاعي يرسم.

وفي نهاية التقرير أوضح البقاعي أن الرسم علاجاً لروحه فقال: “إنه علاج شخصي يسمح لي بالتفريغ والتنفيس عن نفسي، فطوال الوقت الذي أمضيته في الجحيم كنت أحاول ألا أرى الكوابيس. إنما أجبرت نفسي على رؤية أحلام جميلة”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.