فواز

فواز حداد – المدن

أفرطت الأنظمة التقدمية العربية خلال النصف الثاني من القرن الماضي في الإشادة بالشعب والتغني به. وكان من الذين أسهموا في ترويج مآثره الأحزاب الجماهيرية من قومية ويسارية، كذلك الأدبيات الدعائية للثورات، كثورة الثامن من آذار السورية وما أعقبها من ثورات إضافية أو تصحيح لها، والثورات العراقية المتتالية، وغيرها من الثورات العربية.

كان اندلاعها كلها حسب بلاغاتها الانقلابية لتحقيق أماني الشعب الكادح والعظيم في آن واحد. حاول قادتها واحداً بعد الآخر اقتفاء ثورة يوليو المصرية، وتقليد الزعامة الناصرية، لكنهم لم يفلحوا؛ الأصل غير التقليد. لم تغفل الحكومات الثورية الاستئناس بـ”الشعب” في خطاباتها الجماهيرية ودساتيرها ومشاريعها الإنمائية وخططها الاقتصادية، والمعاشات التقاعدية، وبرامجها التلفزيونية… من دون نجاح يذكر في توفير العيش الكريم، ولم تصن كرامته قدر ما أهدرتها. لم يقصر مفكرو الأحزاب تجاه مصطلح “الشعب”، أجهدوا عقولهم في تطوير صياغته على نحو جليل، وإعطائه أبعاداً مجلجلة، على سبيل التعويض عن تهميشه واقعياَ. فأصبح الشعب وراء كل عمل وكل غاية، والهدف من كل ثورة وانقلاب وانتصار وانجاز. ومن كثرة ما أسبغ عليه من تفخيم، جعلوا منه الملهم والروح والمنارة والنور والنار والشعلة… تُستمد منه الآمال العريضة، وتُستهدى به رؤى المستقبل والخطط الخمسية، لولاه لما كانت هناك حكومة ولا حكام ولا تقدم… بمختصر العبارة، القوة الدافعة والمحركة لكل ما تنوي الدولة القيام به!! حتى أصبح الشعب أسطورة وأيقونة، لا يمسهما العطب ولا يخطئهما الصواب.

تابع آخرون أكثر حنكة وإيماناً أعمى بالشعب على هذا المنوال، فمنحوه القداسة، وأصبحت كلمة الشعب، كلمة الله. فكأن الشعب وكيل الله على الأرض. انطوت هذه الشعارات على مبالغات لم تستهجن، فالعصر كان عصر ثورات، وإزاحة طبقات، وتخوين شخصيات وطنية، واسترداد حقوق، واستنهاض كرامة، وسفك دماء، وسجون وزنزانات وقلع أظافر وتعليق مشانق…. نسبت كلها إلى الشعب، فحمل أعباءها. كان بمثابة قاض أوحد يملي أحكامه على سلطات لا تسمع، مطلقة اليد والصوت والسوط؛ فالشعب افتراض لابد منه، والحكومات الثورية هي الأحق بتمثيل شعب أحكمت تصنيعه على هذه الشاكلة الشكلية، الثورجية الدموية.

هذا التوافق بين الشعب والسلطة في الظاهر، كان على مستوى التنظير، أما على الأرض، فمن هو الشعب؟ قطيع أعمى، كتلة غامضة، هيولى سائلة، لا وجود لها كوحدة متماسكة، فلا يعقل أن تسند إليه شؤون تسيير الدولة، وإن كان يضم عمالاً وفلاحين ومثقفين ثوريين وبرجوازية وطنية وقلة من العملاء الخونة، لكن خلفهم الامبريالية العالمية، ودول رجعية. وحتى إذا كان هؤلاء هم الشعب، فأمرهم يحتاج إلى ضبط صفوفهم وقائد مرشد يقودهم، وإلا ابتلعوا الدولة بغوغائيتهم وفوضاهم وجهلهم، الأولى أن يتحكموا بمصائرهم. أُعتُمد الشعب كقوة خام، وعُمل له حسابٌ في أزمنة التهديد الخارجي بالخروج في مظاهرات التأييد، وفي أزمنة التحرير، بالتضحية به في الحروب الخاسرة، وفي أوقات التمرد، بزجه في المعتقلات، وفي أوقات الرخاء بتدريبه على الخنوع. مع الوقت بات الشعب المغبون الأكبر في جميع العهود، لاسيما التي غالت في تقديره. واقتصر دوره النضالي والتحرري على الظهور في المسيرات المُسيَّرة، ودفع الضرائب، والتقيد بقوانين السير، وإلقاء القمامة في الحاويات، ودفع الرشاوى، أضيف إليها تسديد فواتير الهاتف الجوال… بعد أربعة عقود من الطاعة، تظاهر الشعب، زحف إلى الساحات، وهدر مطالباً بالحرية، احتجاجاً على النيل من كرامته، ورداً على ما لحقه من عسف وهوان وما ابتدع لأجله من سجون، ووسائل تعذيب، وما ناله من أحكام جائرة، وما وقع عليه من اعتقالات كيفية، وفساد، واستملاك ظالم. وما أصابه من الأجهزة الأمنية التي تعد عليه أنفاسه. هبّة الشعب، وهو الشعب المقدس نفسه. لم تكن مقدسة، أرتكب خطأ شنيعاً، لعدم معرفته بالمستحيل، ما يُطالب بإسقاطه مرصود إلى الأبد، المظاهرات الاحتجاجية ستكلفه غالياً، عوقب عليها بنزع الصفة البشرية عنه، داسوه بالبساطير، وأسقطوا عنه الأسطرة بالرصاص والقنابل. تلك كانت بداية خروج الشعب من المصطلح إلى الحقيقة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.