حسام موصللي

فتحَ الحوار الذي أُجري مع المفكر السوري #صادق_جلال_العظم على التلفزيون الألماني، بمناسبة تلقيّه “ميدالية غوتة”، رحلة جديدة لسِجال له من العمر سنتان بصدد مُصطلح “العلوية السياسية” لصاحبه العظم الذي أعاد الإشارة إليه من جديد أثناء حديثه الأخير. وفي العموم، وصل الأمر حداً يحتاج – على طريقة نظام #الأسد- إلى تشكيل لجنة لتفنيد المواقف المتفاوتة إزاء هذا المصطلح الإشكالي.

 

بإمكاننا الحديث، باقتضاب، عن خانتين جامعتين رئيسيتن لتلك المواقف؛ تقف الأولى في صفّ العظم، بينما تعارضه الثانية.

تنضوي الأولى على وجهات نظر مُختلفة كلياً فيما بينها، حيث يرى البعض العظمَ بوصفه مُنقِذاً للعلويين كي لا يُحشَروا مع شرذمة اللصوص والقتلة وقطاع الطرق الذين يحكمون باسم الطائفة ويتاجرون بدماء أبنائها، والذين هُم المسؤول الأول عن عزل الطائفة عن الحاضنة الشعبية، الأكثرية السنية، “أم الصبي”.

وعلى نحو مُناقِض تماماً، يؤيد آخرون مصطلح العظم من باب أن الرجل إنما أشار بأصبعه دون مواربة إلى أسِّ الكارثة و(شرشوح/ بالوعة) المجتمع السوري (هكذا هُم يقولون يا سيدي المُحرِّر على مواقع التواصل الاجتماعي)، وأنّ كلامه قد حَمّل العلويين كافّة ذنبَ ما ناب/ ينوب النسيج السوري من تفكيك كارثي بدأ في الثمانينات ومازال مستمراً حتى يومنا هذا، وأن العظم قد نأى بنفسه، عبر مقولته هذه، عن الإطار التقليدي المتعفن للمثقف النخبوي المُتعاطف مع الأقليات، المترفّع عن الأكثرية، لدرجة أنه لا مانع لديه من نشر قصيدة غزل في الوقت نفسه الذي تحدثُ فيه مجزرة في إحدى مناطق الأكثرية، لكنّه سينتفض شاتماً الثورة (والمتخلفين العرب السنّة، عموماً) إذا ما سقطَت قذيفة هاون بالخطأ في حي محسوب على أقلية ما! فضلاً عن دلالة أخرى، بحسب وجهة النظر السابقة، وهي تبنّي العظم للموقف القائل بأنّ العلويين ليسوا أصحاب مشروع سياسي وطني، وإنما ينحصر مشروعهم الوجودي في بقاء عائلة الأسد في موقع السلطة، نافياً اكتراثهم بما جرّهُ هذا الوجود الشيطاني من تبعات كارثية على الآخر؛ نتذكّر هُنا البروباغندا التي أعاد نظام الأسد تفعيلها دون مُقاومة في مناطق تواجد أبناء الطائفة العلوية منذ اليوم الأول للثورة السورية بصدد مستقبل قريب ستكون فيه الطائفة قيد الإبادة الجماعية، مُضيفاً إلى المعادلة سياسة التكاتف مع الأقليات الأخرى لتدعيم الرأي العام ضدّ الأكثرية- التي إن تمكّنَت من السيطرة، فسيكون ثاني قراراتها، بعد الإبادة، هو أن تفرض على أصحاب المحلات شراء كميات كبيرة من الدهان الأسود ليصبغوا واجهات محلاتهم به، كبديل ظلامي للعلم الخفّاق عالياً لدولة التحديث والتطوير.
وعلى المنوال نفسه، تتأتى المواقف المعارضة لـ “العلوية السياسية” من وجهات نظر مُختلفة فيما بينها أيضاً، متوازية مع وجهات النظر المؤيّدة سابقة الذكر. فنرى اتّهاماً للعظم بأنه يُعطي “التطييف” الحالي على الأرض السورية حجماً أكبر من حجمه بكثير، حيث أن الحالة، برغم سوداويتها، لا تعدو أن تكون أكثر من مُتتالية حسابية طويلة الأمد من الظلم والانتقام، والاستبداد والثورة، والرصاص والدم. كما يتّهم آخرون العظمَ بالتعميم الأعمى الذي يتجاهلُ أن “النظام” ليس حكراً على الطائفة العلوية فقط، وإنما هو ائتلاف مَصلحي لقوى الشر على الأراضي السورية من مُختلف المشارب والأطياف، وسيكون من الإجحاف الشديد أن يُلقى بكامل اللوم على رأس مُكوِّن واحد فقط، بأكمله، بجريرة أفراد قلائل من ضمن هذا الائتلاف، ومن ثم غض الطرف عن باقي أبناء المكونات- الشريرة الأخرى (تصلُح الجملة الأخيرة يافطة ما بعد حداثية: “وصارت الوازرة تزر وزر أخرى”، ولا أدري لماذا يُذكّرني هذا بشعار حملة إعلانية قديمة لمدينة مائية: “البحر صار بحلب”).

من زاوية نقدية أخرى، ينظُر المفكر الماركسي سلامة كيلة إلى مصطلح العلوية السياسية بوصفه “خزعبلة وليس مصطلحاً سياسياً” بحسب مقابلة نشرَها أحد المواقع الإلكترونية مؤخراً، مُعلّلاً أن اعتماد السلطة في #سوريا على ولاء فئات علوية إنما يندرج منطقياً تحت باب ثقة الأسد بالبيئة التي ينتمي إليها بصورة خاصة، وبالبيئات المهمشة الأخرى التي كانَت عِماد شعاراته الوطنية بصورة عامة، كما نوّه إلى نقطة أخرى في نقد المصطلح السابق، وهي أنه ليس للعلويين أحزاب تُمثّلهم، بعكس الظرف الاجتماعي التاريخي الذي سمح خلال فترة مُحدّدة بشيوع مُصطلح “المارونية السياسية” في #لبنان.

وأشيرُ ختاماً إلى وجود وجهات نظر أخرى، تبدو أقرب إلى فاصل إعلاني غير مدفوع، تقارنُ بين العظم و #أدونيس، مُعتبرة أن الرجلين يقفان في طرفين متقابلين، وعلى مَسافة أصولية واحدة، من إرهاصات الحدث السوري وتداعياته.

ينبغي ألا يكون السؤال عن مدى دقة “العلوية السياسية” كمصطلح سياسي يندرج تحته أفراد وجماعات وأحداث على أرض الواقع، فإذا أخذنا بعين الاعتبار حادثة القتل الأخيرة التي دفعَت بالعلويين إلى التظاهُر من أجل إلقاء القبض على #سليمان_الأسد، فإنما سيظهر أن أولئك الذين يعيشون على الطرف الآخر من البلاد هُم مثال حي على سكان القرية التي سقط فيها “نونيز”، بطل قصة أرض العميان للبريطاني “هربرت جورج ويلز”، فهؤلاء لا علم لديهم أصلاً أن هُناك حياة أخرى خارج وادي قريتهم الضيق، بل أنكروا أن للإنسان قدرة اسمها البصر بعد أن اعتادوا لأجيال أن يعيشوا في ظلام دامس، لدرجة أن المثل القائل: “في بلد العميان، يصبح الأعور مَلِكاً” لم يعُد ناجعاً لحالتهم المستعصية التي أوشكَت أن تودي بالبطل في نهاية المطاف إلى الاقتناع بأن يقتلع عينيه إرضاءً لهُم! بيد أن الفكرة السابقة ذاتها تنطوي على التعميم أيضاً، فحتى لو فككنا “العلوية السياسية” إلى سكان من الطائفة العلوية وطغمة حاكمة تستغل اسم الطائفة، سيتعين علينا أن نُمعِن في دوامة من تفكيك “الطائفة” نفسها، لنصل إلى مكان نقول فيه: “لدينا عبد العزيز الخير، ولديهم سهيل الحسن وجنوده المنفوخين”، على غرار المرحوم عدنان بوظو حينما قال: “لديهم رونالدو، ولدينا محمود محملجي!” وللأمانة، لم أقرأ من قبلُ عن حرب تخللتها أوقات مُستقطعة من أجل القيام بعمليات فرز نوعية (على غرار شطر الذرة) بغية الوصول إلى التصنيف الذي لا يُمكن اعتباره تعميماً، ذلك أن الفترة الواحدة من الوقت المستقطع ليست في الحقيقة سوى نهاية الحرب ذاتها، فإن استطعنا التوقُّف لفرز المجرمين عن الضحايا، لنِلنا الخلاص.

أما وأن ذلك ضرب من ضروب الخيال، فمن الممكن أن نستعيض بخيارات أخرى مثل أن نُشكِّل لجنة قطرية (غير اللجنة الأولى)، مهمتها أن تميز الخبيث من الطيب بقوائم وأسماء وبيانات دقيقة للغاية، حيث أن أعداد المجرمين، أخلاقياً على الأقل، مثلما بدا واضحاً في مظاهرات الشارع العلوي، تفوق أعداد الضحايا. وفي حال نجحت اللجنة السابقة، فسنُعمّم التجربة على مصطلح “الإسلام السياسي”، بدعم من قرار دولي تحت الفصل السابع. سأتوقف هُنا دون إسهاب، منتظراً جدلاً لن يحدث إزاء المصطلح الأخير…

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.