الدكتور أحمد يوسف/ خاص (الحل) – كغيرها من المناطق #الكردية السورية، عانت عفرين من حالةٍ #اقتصادية صعبة بفعل القوى المسيطرة على جغرافيتها سياسياً وإدارياً في الامتداد الزمني للمرحلة التي تلت تأسيس الجمهورية السورية، والتي سبقت الكارثة السورية في 2011، تلك الكارثة التي أدركنا بعضاً من تفاصيل حدوثها متأخراً، ولا شك أن لذلك الاستشعار المتأخر أسبابه النابعة من قوة ردة الفعل الطبيعية لدى المواطن السوري على تراكمات المرحلة المذكورة أعلاه، والتي زودت المواطن السوري، بجرعات الخيبة والتأزم التدريجي عبر مجموعة من الأدوات والآليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. وقد تميزت عملية ردة الفعل تلك بافتقارها إلى الأسس المنهجية في ربط القضايا، لذلك كانت الكارثة، وكان نتيجته ما يعانيه السوريين اليوم.

الانهيار الاقتصادي يتبعه انهيار الأخلاقي

إن الإقرار بصحة العلاقة الاقتصادية التي تربط بين مدخلات العملية الاقتصادية ومخرجاتها، تقودنا إلى أن نرى أنه من الطبيعي أن تؤدي الحالة الاقتصادية السيئة إلى ولادة حالةٍ إنسانية غير طبيعية، تمثلت في قضية الانهيار الأخلاقي الذي برز في صورة حدوث ثورة عكسية في المفاهيم والقيم لدى فئات محددة تماثل في تكوينها الفكري والأخلاقي والثقافي، تكوين «شايلوك التاجر» أحد أبرز أبطال مسرحية تاجر البندقية والفاقد لكل القيم الإنسانية. فإن لم نكن قد وصلنا في تلك المرحلة عبر سياسات التوجيه الإجباري من القوى المسيطرة للقضاء على الربح الاقتصادي للقوى المنتجة، ولإنهاء منظومة القيم الأخلاقية المتوارثة عبر الأجيال، إلى الانحطاط الذي عانته الحالة الإنسانية في البدايات الأولى لظهور الرأسمالية الأوروبية، فإننا قاربنا في بعض المعطيات إلى تحقيق ما يشابه ذلك في العلاقات الاقتصادية وتطبيقاتها على الصعيد المحلي. ولا شك أن ذلك قد ولّد منظومة اقتصادية ذات طبيعة استغلالية، غايتها ولادة مجتمع الفقر على بركان الموارد الاقتصادية.

العبء المضاعف

من هنا كان عبء تجربة #الإدارة_الذاتية الفتية مضاعفاً، فهي من جهة تعدّ أول تجربة يقودها الكردي، ومن جهةٍ أخرى وجدت هذه التجربة نفسها في مواجهة كبيرة مع كمٍ هائل من التراكمات الاقتصادية السلبية، والتي أصبحت جزءاً من العرف الاجتماعي الذي لا يقبل التغيير. وقد فرض هذا الواقع على الإدارة الذاتية العمل الجاد للانطلاقة وفق مسارات أقرب إلى الصحة في سياساتها الاقتصادية، فما كان منها إلا العمل على محاور اقتصادية متكاملة عدّة، تؤدي بمجملها إلى الخروج التدريجي من المأساة الاقتصادية المخططة والمنفذة بفعل قوى الإفقار، ولتشكل في نتيجتها المؤسسات اللازمة لإدارة السياسة الاقتصادية في المقاطعة.

محاور العمل الاقتصادي

لقد عملت الإدارة على تحديد محاور العمل الاقتصادي وفق المسارات التي تؤدي إلى تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة في المقاطعة، استناداً إلى الموارد الطبيعية والبشرية المتوفرة فيها، وفق التسلسل التالي:

وضع الأهداف

قامت الإدارة بوضع أهدافها الاقتصادية التي تتمثل خطوطها الأساسية في التنمية الريفية التي تتوفر بنيتها التحتية في المقاطعة، وتطوير الصناعات الصغيرة الكثيفة العمالة لتخفيف البطالة، والتي تعتمد على المواد الأولية التي تنتجها المقاطعة، ومنع الصناعات الملوثة الوافدة إلى المقاطعة نتيجة ظروف الفوضى التي تعاني منها سوريا عموماً إلى جانب تطوير وتنمية البنية التحتية والاهتمام بقطاعي الإسكان والصحة اللذان يحققان الاستقرار.

بناءً على ذلك فقد حددت الإدارة ثلاثة مواد استراتيجية تتميز بها المقاطعة وعملت على تأمين شروط الاستمرار في إنتاجها، وسياسات تطوير أساليب الإنتاج، وهي مادة زيت الزيتون التي تنتج المقاطعة منها في سنوات الحمل ما يعادل تقريباً (60) ألف طن، ويبلغ قيمتها ما يعادل (188) مليون دولار أمريكي. ومادة صابون الغار التي تضاعف إنتاجها في مرحلة الإدارة الذاتية ليتجاوز (50) ألف طن، وصناعة الألبسة الجاهزة التي تعتمد على كثافة استخدام العمال، والتي تطورت في المقاطعة بوتيرة متصاعدة خلال فترة قياسية. وقد تجاوز عدد الورشات المنتجة للألبسة (900) ورشة من الفئات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، واستطاعت هذه الورشات المنتشرة في عموم أرجاء المقاطعة تأمين فرص عمل لأكثر من (20) ألف عامل. هذا دون الفرص التي أمنتها الصناعات المكملة لها.

وجدير بالذكر أن تطوير عملية الإنتاج في #عفرين كان مترافقاً بشعار (صنع في عفرين) الذي يؤكد انتهاء مرحلة تهميش المقاطعة التي كانت تشكل الحديقة الخلفية لثاني أكبر مدينة سورية وتستعيد مكانتها الاقتصادية الطبيعية لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية لسكانها الذين عانوا في غالبيتهم من شبح الفقر.

للمؤسسات المدنية دورها في الانطلاق

لا بد في ضوء تحديد الأهداف الاستراتيجية للسياسة الاقتصادية في المقاطعة من بناء المؤسسات الإدارية للسير نحو تحقيق تلك الأهداف، وتمكنت الإدارة الذاتية من القيام بعملية نوعية في تأسيس مؤسسات مدنية ذات طبيعة خاصة تجعلها مصدراً للقرارات التي تخص مجالات أعمالها، لذلك كانت غالبية المؤسسات المدنية ذات طبيعة تخصصية، كاتحاد منتجي الألبسة والأحذية، أول اتحاد يضم في صفوفه العاملين في مجال إنتاج الألبسة والأحذية في عموم «روج آفا»، وغرفة المهندسين وعشرات الاتحادات الأخرى، التي قامت بتنظيم العمل الإنتاجي والخدمي في المقاطعة خلال فترة زمنية قصيرة لم تبلغ السنتين، ووضع أسس تنمية العمل في مجالات اختصاصاتها، الأمر الذي نجم عنه تحول عفرين إلى بيئة جاذبة للمستثمرين والعمال وأصحاب الكفاءات الإدارية والعلمية. ولقد تحولت تلك المؤسسات بعد تحقيق الاستقرار فيها إلى كومينات تخصصية ضابطة لنشاطات أعضائها بما يضمن حسن سير عملية التنمية الشاملة في جميع القطاعات. ويظهر حقيقة التحول النوعي لتطوير دور المؤسسات المدنية في الصورة التي أعطتها بعض المؤسسات العلمية من خلال عدد أعضائها ونشاطاتها، حيث تجاوز أعضاء غرفة المهندسين في عفرين (350) عضواً، وعدد أعضاء غرفة الأطباء قد تجاوز (150) عضواً، بمعدل تقريبي يعادل طبيباً لكل (3300) فرد من سكان المقاطعة.  وتعد تلك الأرقام كبيرة بالنسبة لمنطقة جغرافية لا تتجاوز مساحتها (2200) كم2.

بناء مؤسسات اقتصادية وخدمية فعالة

إلى جانب تنمية دور المجتمع المدني قامت الإدارة الذاتية، بتأسيس العديد من المؤسسات التي تخدم التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المقاطعة، وقد كان «مجلس ترشيد الاستثمار» المؤسسة الأكثر أهمية على صعيد ضبط النشاط الاستثماري وتنظيمه، وفق ما تفرضه شروط بناء نموذج اقتصادي ذات أهداف اجتماعية وبيئية في المقاطعة، حيث تم الترخيص لمئات المشاريع الاقتصادية وفق المعايير البيئية والاجتماعية والاقتصادية الموضوعة من هذا المجلس، كما قامت هيئة التجارة والاقتصاد بتأسيس منطقتيّ الخدمات التجارية في بوابات المقاطعة، وذلك بهدف رصد حركة التجارة في المقاطعة، وتقديم الإحصائيات الدقيقة بخصوصها من أجل وضع السياسات الاقتصادية على الأسس الصحيحة، والسير وفق المسار المحدد لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

إلى جانب ذلك تم تأسيس مركز التنمية الاقتصادية، الذي استهدف تطوير قطاع الاقتصاد التعاوني في المجتمع من خلال طرح مشاريع اقتصادية في المجالات الزراعية وتنفيذها، وتأمين متطلبات التنمية الريفية من الأسمدة والبذار والأعلاف بالتعاون مع هيئة الزراعة. إذ قام المركز بتنفيذ العديد من المشاريع، ولعلَّ كان أهمها مشروع تأسيس معمل للأعلاف لتأمين حاجة المنطقة وتصدير الفائض إلى خارج المقاطعة.

هكذا انطلقت عفرين اقتصادياً وحققت نتائج إيجابية، وتحسنت الظروف الاقتصادية فيها لدرجة باتت تشكّل فيها المثال الذي يلفت انتباه المهتمين بالتنمية الاقتصادية، حيث انعكست صورة السياسات الاقتصادية في تطوير الأداء الاقتصادي، وتحقيق الازدهار في السوق، وأصبحت عفرين حاضنةً موعودة للصناعات الصغيرة والخدمات المتنوعة، وكانت على الدوام تعمل لتطوير القطاع الصحي ليشكل مركزاً طبياً مميزاً في عموم شمال سوريا، إلا أنه كان لأخلاقيات السياسة الدولية التي لا تعرف سوى لغة المصالح، وقعها وتأثيرها المباشر لانهيار الحلم الذي كان يبنيه أبناء عفرين بجهودهم.

*كاتب وأكاديمي كردي سوري، عمل عضواً في الهيئة التدريسية في جامعات سورية في الاقتصاد المالي والنقدي، وله العديد من المقالات والأبحاث والكتب المنشورة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.