بالتزامن مع الأزمة الاقتصادية الاستثنائية التي يعيشها السوريون في داخل البلاد، أطالعُ على صفحات التواصل الاجتماعي تعليقات مختلفة، حول مواضيع غلاء الأسعار، ونقص المواد الأولية، وانخفاض قيمة الليرة السورية مقابل الدولار.

وأرى شريحة من أصدقائي وصديقاتي السوريين خارج حدود جغرافيا (#الداخل) يشمتون تارة، أو لا يأبهون تارة أخرى، بكل القاطنين داخل أسوار الجغرافيا، ويحمّولنا -نحن المسحوقين في الداخل- مسؤولية عدم تحقيق “التغيير المنشود”.

تشتدّ النقاشات على المنصّات الافتراضية، فيقول أصدقاء “لماذا لم تخرجوا من عباءة النظام.. لماذا بقيتم تحت مظلة الحكومة.. عليكم أن تسافروا جميعاً وإلا فإنكم مشاركون في الإجرام.. اخرجوا ضد النظام وتظاهروا وطالبوا بإسقاطه.. كل من بقي في #دمشق هو شبيح وبأحسن الأحوال هو رمادي.. بيستاهلوا يصير فيهم هيك وأكتر.. شو ناطرة لهلأ؟ ليش ما حملت حالك وسافرت؟”.

أقرأ كل هذه التساؤلات، وأتفهمها إلى حدّ ما، لكن لم يُفسح لي المجال كي أردّ عن كل هذه العبارات، فأحببت اختصارها في هذه المادة، وأنا واحدة من السوريين اللواتي بقينَ داخل سوريا، متنقلة في حياتي بين حمص ودمشق، وأسمع ما تقوله صديقاتي في هاتين المدينتين.

هل كلّ من هم خارج سوريا هم معارضة؟ وكل من في داخلها هم موالاة؟ السؤال الذي يُراودني دائماً، وأعتقد أن إجابته واضحة وضوح الشمس في تموز.. فالجغرافيا لا تعكس آراء سياسية، وإن حاولت السلطات إبعاد كل معارضيها خارج حدودهم، إلا أن كل المجتمعات لا تزال تضم كل الآراء أو معظمها على الأقل. فمن خرج اضطرّ لذلك، ومن بقي اضطرّ أيضاً لذلك.

وبعيداً عن التبريرات التي من المُفترض أن حريتي الشخصية مصانة بأن لا أكون بموقف أبرّر فيه وجودي الجغرافي، إلا أن مزيداً من التوضيح قد يشرح وجهة نظر شريحة من السوريين في الداخل.

هل فكرنا يوماً بأن من بقي في الداخل لم يتمكن من الخروج أصلاً؟ وما هي طرق #السفر وإلى أين؟ من يستقبل السوري منذ سنوات؟ 

يحتل جواز السفر السوري ذيل الترتيب بالنسبة للبلدان التي تسمح له بالدخول، وهي قليلة جداً، ومع ذلك فإن هذه البلدان تفرض ضوابط أخرى، مثل لبنان الذي يطلبُ حجزاً فندقياً ومبلغ ألفي دولار من أجل المرور بالحدود لمدة أسبوع واحد فقط، أما السودان فقد فرضت مؤخراً تأشيرة دخول، وبالنسبة لدول الجوار مثل الأردن وتركيا، فتأشيرتها أصعب من تلك التأشيرة التي قد تحصل عليها يوماً ما إلى أوروبا.

وحتى أولئك الذين فُتح لهم مجال السفر، فلديهم ظروف خاصة تتعلق بالأهل مثلاً، ربما يكون الأب والأم كبار في السن، ويحتاجون للرعاية والاعتناء اليومي، الأمر الذي يتطلبه وجود الابن أو الإبنة. والسفر بالنسبة لهؤلاء الآباء هو بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة عليهم.

وبعيداً عن الأهل، فإن كثيراً من السوريين الذين بقوا في الداخل، ملتزمون بعمل يؤمنهم ويؤمن عوائلهم، وفي حال سفرهم أو خروجهم، لن يكون بمقدورهم العمل. تخيّل مثلاً مدرّس لغة عربية في المدرسة، أو نجّار، أو مُزارع.. ماذا يمكن أن يعمل فيما لو سافر إلى خارج سوريا؟

يردّ الأصدقاء على هذه الشريحة ويقولون “الشعب السوري ما بينذل.. إن العيش بكرامة الحرية خارج سوريا أفضل من العيش بكرامة مادية داخلها” لكن هذه المقولة الرومانسية لا تصلح سوى للكتابة على اليافطات.

 أما بشكل واقعي، فإن الذل واحد، سواء كان الذل المفروض من السلطة السياسية، أو الذل الذي سيتعرض له المواطن وهو يتسول من أجل الحصول على عمل أو مؤونة أو بضع دولارات خارج بلده.

ولا يمكن التغافل عن هذه النقطة مهما بلغ فينا الرفض السياسي أو العقائدي للمنظومة السياسية الحاكمة.

بالمقابل، يشعر #سوريون آخرون بالمسؤولية حيال بقائهم داخل البلاد، ويقولون “إذا خرجنا جميعاً، فلمن سنترك هذه الأرض؟” ويقوم هؤلاء بواجبهم اتجاه أبناء بلدهم، فيساعدوهم في التعليم والبناء والطبابة والإغاثة. ولطالما تشكلت مئات المجموعات السرية داخل البلاد، وتقوم بدور إغاثي وإنساني وتعليمي استثنائي، بعيداً عن الظهور وعدسات الكاميرات.

كما ينشطُ هؤلاء في كونهم صلة الوصل بين الداخل والخارج، فيساعدون كل من صار خارج الحدود، بأوراق ثبوتية، وإجراءات إدارية، ومعاملات حكومية.

إلى أين أذن؟ إلى أين يمكن أن يُسافر السوري؟ وماذا سيفعلُ هناك؟ وهل الجميع قادر على بداية جديدة؟ لغة جديدة؟ مجتمع جديد؟ سكن وحياة مختلفة بالكامل؟ وهل الجميع قادر على دفع هذه التكلفة الباهظة جراء هذا التغيير؟

لنفرض جدلاً أن جميع السوريين حملوا حقائبهم وسافروا.. هل سيتغيّر شيء في الواقع السياسي والاجتماعي الحاصل في البلاد؟ طالما أن الحاكم الفعلي هو مجموعة القوى الدولية الفاعلة، أميركا وروسيا وتركيا والسعودية.. أما باقي اللاعبين الصغار فهم مجرّد مؤدّون للأدوار الموكلة إليهم.

وماذا لو تظاهر جميع من بقي داخل سوريا احتجاجاً على الوضع المعيشي المزري؟ ماذا سيكون مصيرهم؟ وما هو دور البطولة الذي سيؤدّونه؟

باختصار.. هناك الملايين من السوريين الذين بقوا في الداخل هم ليسوا موالاة وليسوا معارضة.. لا رماديين ولا حياديين.. هم فقط “بلا لون”!

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.