ساذجةٌ وذكية، كاذبةٌ وصادقة، “الملا نصر الدين” “جحا” الشخصية المضحكة التي تُجسّد كل الشخصيات غير الموقّرة والشعبية في التقليد الإسلامي.

في مدينةِ “أكشهير” في #تركيا، يوجد ضريح مشهور يقال بإنه ضريح “نصر الدين خوجه”، المهرّج الشامل للعالم الإسلامي. والضريح عبارة عن قبة واحدة مدعومة بأربعة أعمدة، لها ثلاثة جوانب مفتوحة للرياح. فقط الواجهة  لها جدار يتوسطه بابٌ مغلق بقفلٍ ضخم.

لقد نسج الأتراك تاريخاً حول شخصه، الذي أصبح بطلاً قومياً، حيث تم  تقديمه كشخصيةٍ عاشت في القرن الثالث عشر وحتى أنها عارضت الشاعر العظيم #جلال_الدين_الرومي.

وعلى مرِّ القرون، نُسبت شخصيته إلى النكات من جميع الأنواع والجنسيات المختلفة وجميع أنواع الوظائف والمهن. مرتدياً عمامته الضخمة، التي توحي، في نفس الوقت الذي يحمل فيه لقب “خوجا” باللغة التركية أو الملا بالفارسية أو الكردية، بأنه مرجع ديني في أبسط المستويات، يجلس “الملا نصر الدين” على حماره (أحياناً في الاتجاه المعاكس) ليعبر الزمان والمكان.

ومن المحتمل أن أقدم سلف لـ “الملا نصر الدين” الفارسي، أو “نصر الدين خوجه” التركي، أو “جحا” العربي، موجود منذ أكثر من ألف عام. وقد صممت كل أمة وكل شعب “ملا نصر الدين” أو “جحا” خاص بها، ووضعوا هذه الشخصية على طريقتهم الخاصة للتعبير عن إحباطهم، ولتحطيم نظام الأشياء والقمع المحيط بهم.

مثال الموقف المعارض للعادات بطريقةٍ هزلية 

مغامرات “الملا نصر الدين”، خرافات قصيرة ومضحكة، وقد تكون سخيفة واستفزازية وغير محترمة، تجمع مجموعة كاملة من الحكايات القديمة المنسوبة إلى أناس مجهولين أو شخصيات غير معروفة، مبعثرة في أعمال الشعراء القدامى أو في مجموعات مؤرخة مثل “رسالة في فرحة القلب” للشاعر الفارسي عبيد زكاني (رسائل فارسية، 2005).

ثم، شيئاً فشيئاً، عزا التقليد الشعبي هذه الخرافات إلى شخصية واحدة تُمثّل بشكلٍ جوهري موقف المعارض الهزلي للعادات في العالم الإسلامي. هو، وفي نفس الوقت، أحمق القرية وحكيم متعمق، فهذا الرجل الصالح مرح وساذج وماكر في الوقت ذاته، جاهل ومحذر، كذاب وصادق، مباشر ومحب للنكات. إنه يسمح لنفسه بقول أي شيء، بما في ذلك مخاطبة ذوي السلطان عبر القرون.

وهكذا تستمر مجموعة قصص “الملا نصر الدين” في التزايد، في عملية خلق وتكييف يبدو أنها لن تنتهي أبداً. وبذلك انتقلنا من مائة من هذه القصص إلى الآلاف. في الواقع، في كل مرة نريد أن ننتقد الأقوياء أو ذوي السلطان، ونؤكد بضحكة على عبثية العالم، نبتكر قصة جديدة لـ “الملا نصر الدين”.

وهذه العملية تتناسب مع تطور الاستبداد السياسي والغباء الديني (ما لم يكن العكس). ومن الممكن تصور أنها تزداد بسرعة خيالية مع مرور الوقت، حيث يمكن بهذه هي الطريقة لـ “الملا نصر الدين” أن يتجول، في الوقت الحاضر، بسيارته في بعض الأحيان، متخلياً مؤقتاً عن حماره الأسطوري، وأن يمتلك جهاز آي فون أو مسدساً، وأن يقضي الوقت في متنزهات ترفيهية جذابة.

وهكذا ومن خلال الحجة، ينتقل “الملا نصر الدين” من الشفوية إلى الكتابية، ومن كوميديا ​​البازار إلى التعبير عن الاحتجاج الأكثر تطرفاً، أو من حكمة الأجداد، وهو يتجاهل جميع الجادين، إلى روح الجدية نفسها.

وبذلك، فإن أية حكاية تكشف فيها الحكمة عن نفسها تحت ظاهر من السخرية، حيث السذاجة هي مفتاح البراعة، بشرط أن تكون ذات طبيعة راقية، ستجد تلقائياً مكانها في مختارات “الملا نصر الدين”.

من وجهة النظر هذه، لا ينتمي “مهرجنا” إلى الفرس أو الأتراك أو العرب فقط، لأن الجميع يشارك في تكوين هذه الشخصية الهزلية وبقائها على قيد الحياة.

كما أن كوميديا ​​”الملا نصر الدين” لا تتوقف أبداً عن زعزعة اليقين والتفاهة لدينا، ولا عن إظهار التناقض والتضاد غير القابل للحل لكسر محرماتنا وتحيّزاتنا وأوهامنا مع موجة من الضحك. ليس فقط على المستوى الشخصي، ولكن كذلك على مستوى المجتمع ككل.

الضحك سلاحٌ لتحرير الضمير 

في سياق بعض الدول الإسلامية التي تميل إلى الانسحاب المجتمعي، الأمر الذي يؤدي حتماً إلى فقدان روح الدعابة والسخرية من الذات، وكذلك إلى الاضطهاد الأيديولوجي، الذي يولد الرفض العنيف لأي شكل من أشكال الاحتجاج، فإن هذا الضحك مفيد جداً. إنه ينظم المقاومة، وهو سلاحٌ لتحرير الضمير مع عدم القدرة على فرض الحرية بموجب القانون.

لذلك، لم يكن من قبيل المصادفة أن يكون “الملا نصر الدين” هو عنوان دورية ساخرة واحتجاجية كانت نشطة في الفترة من 1906 إلى 1931 في #أذربيجان.

وكانت هذه الصحيفة، المنشورة باللغة الأذربيجانية، تتجول بين المدن، وتنشر أحياناً في #تبليس، وأحياناً في #تبريز، وصولاً إلى #باكو.

ولعل من الأهمية بمكان، في السياق الذي نمر به، أن نتذكر أن “الملا نصر الدين” كان حامل لواء صحيفة تُقرأ وتُقدّر في جميع أنحاء العالم الإسلامي، من #المغرب_العربي إلى #أفغانستان، وأن هذه الصحيفة لعبت دوراً مهماً في الثورة الدستورية الإيرانية، التي جعلت من الممكن إنشاء أول نظام برلماني في #إيران، البلد الإسلامي.

المعارضة من خلال النكتة والضحك مفيدة 

وُجد هذا المسار المعارض ولعب دوراً حيوياً في تطوير الأفكار التقدمية باستخدام سلاح السخرية. وكانت تحظى بشعبية كبيرة، سواء بين المثقفين أو العامة، حيث احتوت الصحيفة على نصوص ساخرة للنقد السياسي والاجتماعي بالإضافة إلى قصائد فكاهية ورسوم كاريكاتورية! ويبدو أنها ألهمت فن الرسم الهزلي الذي تطور منذ الثلاثينيات والذي تفوق فيه الإيرانيون بشكل خاص.

من صنع “جليل محمد زاده”، هاجم “الملا نصر الدين” بصراحة، ولكن دائماً من خلال النكتة، نفاق رجال الدين وتخلفهم، والفساد المستشري داخل الطبقات الحاكمة، وكذلك السياسة الاستعمارية للدول الغربية.

واقترح إصلاحاً عميقاً للمجتمع من خلال التعليم، وتغيير الأعراف السياسية على الطريقة الغربية والمساواة في الحقوق بين المرأة والرجل.

ويمكن للمرء أن يتخيل مخاطر مثل هذا المشروع. لقد تم حظر “جليل محمد غل زاده” وفريق التحرير التابع له مراراً وتكراراً، وتعرضوا لكافة أشكال المهانة والإذلال، لكنهم صمدوا. ليتم إسكاتهم في النهاية من قبل  القوة السوفيتية.

الأنظمةُ الديكتاتورية، تُشبه بعضها البعض على الأقل في جانبٍ واحد: كراهية الضحك. هذا هو السبب في أن الاحتجاج من خلال الضحك والنكتة مفيد أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. وطالما استمرت الحماقة البشرية، فسيكون أمام “الملا نصر الدين” مستقبل مشرق ولن يتوقّف عن إضحاكنا.

 

المصدر: (Le Monde.fr)


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.