على وَقعِ صَخبِ دهاليز التطبيع الإسرائيلي مع الدول العربية، كان آخرها في الخرطوم والرباط والتي حققت معها امتيازات عدة للدول العربية الموقّعة على اتفاقات التطبيع، يبرز التساؤل المثير حول إذا ما فتحت روسيا- بحكم قربها من دمشق- باب التطبيع الإسرائيلي مع النظام السوري، وفيما إذا كانت الظروف السياسية ستكون مواتية لذلك، وماهية مصالح دمشق التي يمكن أن تحقّقها جراء هذا التطبيع إذا ما تمَّ فعلاً وجرى الخوض به.

في أيلول الماضي، نشرت صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية تقريراً قالت فيه إن النظام السوري ربما يطبّع علاقاته بإسرائيل، أسوة بالبحرين والإمارات العربية المتحدة، و رغم أنه لا اعترافات مباشرة تُعبّر عن تطورات حالية في ملف التطبيع/السلام بين دمشق وتل أبيب، إلا أن روسيا لا بد أنها ستدعم تحقيق نقلة نوعية في هذا الملف، لتكون طرف جديد يدخل إليها بعد الولايات المتحدة (مؤتمر مدريد للسلام 1991، و المرحلة الثانية من المفاوضات أواخر 1999) وتركيا (2008)، روسيا التي كانت قد تعهّدت لإسرائيل العام الفائت بإبعاد الإيرانيين عن الجنوب السوري لمسافة تصل بين 40 إلى 100 كلم، ولم تستطع تنفيذ ذلك حتى الآن، تريد إحياء خط العلاقات الإيجابية مع الولايات المتحدة وحلفائها عبر تفعيل خط السلام في المنطقة وإرساء الاستقرار فيها كما كان يدعي الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب.

تشي التصريحات الصادرة في شهر تشرين الأول الماضي حول احتمالات توقيع اتفاقية سلام/تطبيع بين دمشق وتل أبيب، سواء من قبل بشار الأسد مطلع ذلك الشهر، أو التصريحات التي تلتها لمسؤول عسكري إسرائيلي حول سوريا، وتبين باحتمالات قرب توافق على إخراج النفوذ الإيراني من سوريا؛ قد يعني إبقاء الأسد في السلطة أو عدم الضغط على إخراجه، تشي بشكل أو بآخر برسائل عدة فيما يتعلق بالملف السوري وتتصل بشكل المنطقة وترتيب ملفاتها من جديد؛ قد يكون إعلان اتفاق السلام/التطبيع المشار إليه آنفاً أحد الأعمدة الأساسية لصفقة استراتيجية كبرى تبدأ بمرحلة جديدة للمنطقة ككل.

تختلف الظروف السياسية الإقليمية والدولية بين مرحلة مفاوضات السلام خلال فترة رئاسة حافظ الأسد، وبين المرحلة الحالية التي تشير التوقعات إلى احتمالية تقارب إسرائيلي سوري خلال فترة رئاسة بشار الأسد الذي خرجت ضده احتجاجات شعبية واسعة شملت مساحات واسعة من البلاد منذ عام 2011 مع بدء مرحلة ما يسمى بـ “الربيع العربي”، إضافة إلى شبه إجماع دولي على محاصرة الأسد وعزله سياسياً واقتصادياً.

هذا الحال، يعاكس تماماً ما كانت عليه الأوضاع إبان المفاوضات الإسرائيلية السورية خلال مرحلة الأسد الأب، فالأخير أيضاً كان قد تحرك بخطوات ثابتة وواثقة تجاه الجانب الأميركي، بعد رضا واشنطن عنه في ملف حرب الخليج الثانية وعداءه لصدام حسين (الرئيس العراقي الأسبق) إلى جانب دعم الأسد وإطلاق يده أكثر في لبنان، وكأنه خير من يستطيع من الأطراف الإقليمية صون اتفاق الطائف والحفاظ عليه، فكان الأخير ودوداً مع الأميركيين يستلطف الإسرائيليين الذي قال عنهم وزير خارجيته فاروق الشرع في تلك الفترة وبالتحديد في أواخر عام 1999 أنه يمكن التوصل لاتفاق سلام مع إسرائيل خلال أشهر قليلة فقط.

انطلقت الاتصالات الرسمية بين دمشق وتل أبيب زمن حافظ الأسد؛ في مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، الذي انعقد بعد حرب الخليج الثانية في تشرين الأول عام 1991، بمفاوضات أولية لم تكتمل، والتي استؤنفت من جديد عن طريق الرئيس الأميركي الأسبق، بيل كلينتون، في كانون الأول عام 1999، غير أن تلك الجولة ما لبثت أن توقفت بعد أسبوع إثر وصولها إلى طريق مسدود.

فيما نرى أن الأسد الابن في وضعٍ لا يُحسَد عليه سياسياً واقتصادياً، فهناك فوارق ليست بالقليلة تحدد ملامح حكم الأسدين ومدى فرص حضور أو نجاح أي اتفاق سلام بين دمشق وتل أبيب، لكن ذلك لا يعني أن بشار الأسد لا يملك أوراق قوة تساعده على المضي قُدَماً، فيما لو تم البدء بهذا الملف، فأول تلك الأوراق تبرز عبر الوسيط الروسي الذي يسعى لاستمالة الأطراف المُتدخّلة في الشأن السوري واستغلال حالته الراهنة بعقد صفقةٍ استراتيجية كبرى تُنهي الاستعصاء وتستغل من خلاله طرفاً كالجانب الإسرائيلي في عملية سياسية تتخطى الحدود السورية، بخاصة وأن الأجواء باتت صافية بين دمشق وبين أبو ظبي التي كانت أول من سلك درب اتفاقات التطبيع/السلام مع تل أبيب، ولعل ذلك قد يساعدها أكثر في التقرب أكثر من هذا الخط.

لا يعني أن البدء بمسار المفاوضات سيؤدي في نتيجته إلى بقاء الأسد في السلطة إلى الأبد مُتفرّداً بالحكم ويخلفه ابنه “حافظ الصغير”، إلا أن مفاعيل أي اتفاق سلام سيتم المضي فيه باعتبار أن الأسد بات شخص مرغوب به دولياً مع تقليم أظافره عبر تحجيم النفوذ الإيراني وانصياعه لموسكو بشكلٍ كلي، مقابل المضي أيضاً بحل سياسي “روتيني” قد ترعاه روسيا بطريقتها ورؤيتها وهي التي باتت تتعمّق تفاهماتها مع تركيا في الشمال السوري خصوصاً والملف السوري عموماً.

وهذا بطبيعة الحال، سيؤدي إلى أن المعارضة التي تدعمها تركيا ستتجه لحلٍّ قد ينتهي بتأليف حكومة انتقالية تشارك فيها (أي المعارضة) بعد تمرير دستور متوافق عليه بين الأطراف المتدخلة، مع عدم الاقتراب من “مقام الرئاسة” (شخص الأسد) إلا عبر التقليل من بعض صلاحياته وتحجيمها، مقابل منح منصب رئيس حكومة “محسوب” على المعارضة التي لم تنجح باستمالة إسرائيل خلال السنوات الماضية رغم أن بعض من شخصيات تلك المعارضة انهالت بالمديح وقدمت الوعود والتطمينات لتل أبيب مقابل دعمها الذي لم يأتي وبقيت تترقب التطورات وتوازن المعادلة كيفما تميل مصالحها مع اللاعبين الدوليين روسيا والولايات المتحدة.

تتيقّن حكومة دمشق يوماً بعد يوم  بأن النفوذ الإيراني في سوريا يُعقّد أكثر من احتمالات انفراجة لأزماتها المتعاقبة على الصعيدين السياسي والاقتصادي بشكلٍ رئيسي، في وقتٍ باتت موسكو هي الأخرى تدرك الأثر السلبي لتعطيل طهران جهود التقدم نحو مرحلة إعادة إعمار سوريا التي تترقبها موسكو وتسعى إليها بشكل حثيث وبمختلف السبل، بخاصة أنها تعلم أن طهران هي من تعرقل تلك المرحلة أو التوجه بشكلٍ حقيقي نحو الحل السياسي، وكذلك تؤجل أي توافق مع الجانب الأميركي.

وفي الوقت نفسه، فإن حكومة دمشق الحالية بزعامة الأسد تنظر إلى أن أي تغييرات، مهما كانت شكلها من قبل الخارج حتى لو كان اتفاق سلام مع إسرائيل، ينهي بموجبه أي هيمنة إيرانية في سوريا، تنظر إلى ذلك على أنه سيكون ذو آثار إيجابية لها ما دامت تحقق لها الاستقرار في السيطرة على مفاصل الحكم الرئيسية، عندها قد يكون الأسد مستعداً للتخلي عن التبعية للنفوذ الإيراني، بل ويتعاون لتشكيل آلية مواجهة لهذا النفوذ الذي تتفق جميع الأطراف على إخراجه من سوريا.

وتؤمّن دمشق من خلال ذلك أيضاً العديد من المكاسب، أولها رفع العقوبات الغربية أو التغاضي عنها/الالتفاف عليها (على سبيل ما حصل في السودان مؤخراً حينما رفعتها إدارة ترامب عن قائمة الدول الراعية للإرهاب)، وثانيها استعادة السيادة على الجولان أو “بعض منه”، بحسب ما قد ستسفر عنه قادم الأيام، وثالثها العودة إلى مصدر الثروة الزراعية والنفطية في المنطقة التي تستقر بها القوات الأميركية في شمال شرقي سوريا منذ سنوات، والتعويم السياسي والاقتصادي للنظام السوري.

من ناحيتها، فإن روسيا سترى أهمية هذا الاتفاق، من خلال تعميق تفاهماتها المشتركة مع إسرائيل في المنطقة، إلى جانب تسهيل المهمة عليها في تحييد النفوذ الإيراني بشكلٍ يحقّق الاستقرار في سوريا بعد اتفاق السلام، وضمان المصالح الاستراتيجية لروسيا على الأرض السورية وبالانطلاق منها صوب المنطقة ككل.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.