محمد حبش

لا ألوم السوريين حين يتحدثون بروح الإحباط والأسى، فالهول الذي كابدوه لم تكابده أمة من الأمم، وحين تحدثت عن اللاعنف قيمة مواجهة للظلم قال لي أحدهم لو كان غاندي في #سوريا لكان الآن قائد لواء في #الجيش_الحر!! ومن الطبيعي أن يخرج المرء بعد هذه الأهوال بقدر من الإحباط والخيبة يذكرك بمسرح العدم والعبث كما قدمه شاهد عيان الحرب العالمية الثانية جان بول #سارتر وتالياً كولن ولسون، وشرح على خشباته فقه الإحباط وفلسفة الموت.

 

والإحباط اليوم له منابره وأوراقه ومعالمه، وهو يتجدد في كل دورة يأس جديدة تتفجر عبر صفحات التواصل الاجتماعي التي أتاحت لكل أحد أن يبدو صاحب منبر ورئيس تحرير وفيلسوفاً صغيراً يقدم فكره على أمواج الفوتوشوب، وهو ما قال عنه برناردشو: من مساوئ الديمقراطية أنها تجبرك على الاستماع لصوت الحمقى، والفيسبوك بالذات حيطان المجانين، حتى أولئك الذين لا يليق بهم إلا أن يرغوا ويزبدوا تحت موائد الحانات بعد منتصف الليل صاروا يقدمون رؤيتهم وقراءاتهم أيضاً على صفحات رجال محترمين ويشاركونهم عشرات الآلاف من معجبيهم ومتابعيهم، ولو كان لشكسبير صفحة لوجد من يكتب له عليها: ومن أنت أيها الرويبضة!!!!

ولكن رسالة القلم هي الأمل، ولا يمكن أن يكون في مكان غير ذلك، ورسالته هي بناء الحياة مهما كان شكل الخراب الذي يحيط بنا من الأركان الأربعة.

أراقب في هذه الأيام ما يكتبه السوري الغاضب، تحت عنوان (يلعن كل شي) حيث عبارة الإحباط واليأس، وتحطم الثقة بأي شيء في العالم، وتحول الإنسان إلى مشروع موت وعزاء، العالم غداً بلا إنسانية والبشر تحولوا إلى وحوش، وفيما يرى الإسلامي أن العالم تحول إلى مجتمع كفر لا تحركه مآسي الإنسانية، ويقول السياسي العربي أيضاً إن العالم أصبح متآمراً على السوريين، وانخرط حكام العالم وشعوبه في المؤامرة الإسرائيلية الأمريكية الروسية الإيرانية على سوريا، ويتم توزيع خطابات اليأس والإحباط بأشكال متفاوتة تبدأ من قصائد نزار المكتوبة بالياسمين إلى وصايا الانتحاريين المعبقة بالدم والموت.

ولكن… هل نمارس الصواب  حين ننخرط في لطميات الناس وملاعنهم ضد العالم كله بوصفه عالماً رديئاً متآمراَ بلا قلب ولا ضمير ولا أخلاق؟ وهل البشرية بالفعل ارتدت جاهليتها الأولى وأن الزمان قد استدار كهيئته يوم كان الانسان وحشاً، وهل المطلوب من المثقف أن يرسم صدى تلك الملاعن بقلم محكم العبارة، مدجج بالحجج؟

لست وكيلا للأمم المتحدة ولا أنا سفير للعالم المتحضر، ولن ينوبني شيء من دفاعي عنهم، ولكن يؤلمني أن نتناوب اللطميات والمراثي في مستنقع اليأس والاحباط، وأن نصلي لخراب العالم الذي حولنا ركاماً من القبور، لا إنسانية فيه ولا أخلاق ولا تربية؟

قناعتي أن المواجهة مع ثقافة كهذه ليست ترفاً من القول، أو سفيفاً من الكلمات نسود بها بيض الصحائف، وليست جهداً نلتمس من الدول الغنية أجره وثوابه، وأزيدك من الشعر بيتا أنهم بالفعل أغنياء عن هذا وقد تعودوا سماع شكايتنا وصراخنا ولم يعودوا يفرقون في صراخنا بين التزلف والنحيب.

ولكن المنكوب في المقام الأول هنا هو الإنسان السوري، الذي يتحول إلى بائس يائس لا يرى فيمن حوله من العالم إلا مزرعة ضباع يردد فيها نصوص الجاهلية المقدسة أن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب!!، أقتل أو تقتل!!، والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم!!

قناعتي أن الحضارة الحديثة حققت للإنسانية نضجاً غير عادي، ولم يعد في الشعوب المتحضرة من يبيت شبعان وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم، ولم يعد في المجتمع من لا يجب لأخيه ما يحب لنفسه، وصارت مجتمعاتهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وصار المواطن أخ المواطن لا يظلمه ولا يخذله، وبحسب امرئ من المخالفة والمساءلة أن يحقر أخاه المواطن، ولم تعد هذه الحقائق خطباً أو مواعظ بل صارت قوانين وهيئات رقابة وبرلمانات ومحاسبات.

وقامت منظمات مجتمع مدني ومؤسسات غير ربحية تؤمن بأن ليس كل مصل يصلي إنما يتقبل الله ممن تواضع لعظمته، وأطعم الجائع وأعطى المسكين وأغاث الملهوف وآوى الغريب.. وكل ذلك تحت رقابة ومساءلة ومحاسبة.

ولكن السوري الراتع في القهر لا يزال  يرى العالم غابة ذئاب لا  يشعر بمعاناتنا ولا  يفهم أسباب بؤسنا، ويؤلمه أن يقام في الدنيا فرح أو رقص والسوريون معذبون، وكيف يضحك العالم وهناك طفل يبكي…..

إنها مشاعر بريئة ولكنها مؤذية تماماً لشعب يريد أن يحل مشاكله ويقوم من خيبته ويبني مستقبله بالشراكة مع العالم المتحضر.

هناك آخرون يعرفون ثقافة التواصل بالعالم الحر، ويقهمون شروطه وقوانينه، ويمكنهم من خلال هذه المعرفة أن يساعدوا المنكوبين في الوصول إلى ما يتراكم في خزائنهم من موازنات الإغاثة التي يفرضها القانون.

قبل عشر سنوات قامت أكبر مجزرة في التاريخ في راوندا حيث قامت قبائل الهاوسا والتوتسي بسلسلة مجازر وتصفيات وحشية نالت من نحو مليون إنسان، لقد كان حدثاً هائلاً ومدمراً،  ولا يمكن التوقف عن وصف بشاعته.

ولكن بوسعنا أن نتساءل ببراءة وواقعية …. هل توقف العالم عند المأساة وهل توشحت الدنيا بالسواد؟؟؟…

وهل قام الأتقياء والإنسانيون في طول العالم وعرضه، بمن فيهم قارئ هذه السطور وكاتبها بالتوقف عن الحياة وإعلان حداد أسود ضد الفرح وضد الضحك حتى تنتهي المأساة الراوندية.

لقد استمرت الحياة في كل مكان في العالم واستمر الراونديون في رثاء النكبة، ولكن فئة منه تمكنت من فهم منطق الحضارة وعادت بقوافل الإغاثة وفق شروط الأمم، ورسمت من جديد على وجوههم بسمة الحياة.

بالطبع لا يمكن أن نقدم جواباً للطفل الراوندي الذي فقد  كل أسرته وعائلته وأحبابه فالمأساة أكبر من أن تحتمل، ولكن هذا الطفل إذا استمر بمآسي اللطميات والتطبير والعاشورائيات فأي شيء سيجني وأي بؤس سيرث عنه أولاده….

في العالم ظلام كثير، ولكن تتوفر فيه على الدوام شموع بريئة وأن توقد شمعة خير من أن تلعن الظلام.

وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وأعط الناس ابتسامة فقد يكون هذا أحسن ما يجده أحدهم في يومه.

لست أعلم من هو صاحب هذه الحكمة البريئة… ولعلها همسات أم لطفل جاءت على غفلة من الفلسفة ولكنها تختصر المغنى كله:

اضحك تضحك لك الدنيا… ابك تبك وحدك….

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.