يدخل جنوب سوريا في مرحلة صراع نفوذ جديدة نتيجة قيام الميليشيات الإيرانية بإعادة تعزيز وجودها، جراء انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية وغزوها للأخيرة  وتخفيف تواجدها بدرجة كبيرة، وقد استثمرت إيران هذه الأوضاع لصالحها بالنظر للقيمة الإستراتيجية التي يشغلها الجنوب.

الوجود الإيراني في جنوب سورية ليس جديداً ولم ينقطع في السنوات الأخيرة، بل جرى في الغالب إخفائه ضمن هياكل جيش النظام وأجهزته الأمنية، وتستفيد إيران من خبرة عميقة شكّلتها عن جنوب سورية، جغرافيته الطبيعية والسكانية  ومعرفة كبيرة بالظروف الاقتصادية والمعيشية.

ربما لم تحقّق إيران نجاحاً كبيراً في مجال التشيّع في جنوب سوريا، حيث واجهت صداً اجتماعيا جراء إحساس المجتمعات المحلية أن هذا الأمر يشكّل خطراً على هويتها، وهي مسألة لا يمكن التساهل بشأنها أو السماح بوضعها في مجال المساومة.

 لكن من المؤكد أنها صنعت شبكات علاقات مصلحيه ونفعية لطبيعة السكان العشائرية، ترتبط بها وبسياساتها في الجنوب، وقد ساعدها في هذا الأمر علاقاتها القوية مع أجهزة الأمن التي تملك أرشيف معلومات عن السكان يجري تحديثه بشكل دائم.

لكن إيران لا تكتفي بمحاولة السيطرة على جنوب سوريا لإخضاعه لحكم الأسد،  بل تسعى لتحويله إلى منطلق للتأثير بمناطق الجوار، إسرائيل والأردن، لتعزيز أوراقها كقوّة إقليمية مؤثرة وفاعلة في لحظة دولية تشهد تحوّلات عديدة، وفي ظل اشتباك إيران مع القوى الغربية بشأن ملفها النووي الذي يبدو أنه سيدخل مرحلة سبات عميقة نتيجة تراجع واشنطن عن الاهتمام بإنجاز الصفقة مع طهران في ظل المعطيات الدولية الراهنة.

الجديد، أن الأردن وإسرائيل، غيرتا مقاربتهما بشكل كبير للوجود الإيراني في جنوب سوريا، وباتا على استعداد لاتخاذ إجراءات أكثر حزماً في التعاطي مع التهديد الذي يشكله الوجود الإيراني، وفي فترة سابقة تولت الفصائل المعارضة مقارعة الوجود الإيراني إلى حد كبير وحصرته ضمن مناطق جغرافية محدودة، في مثلث الموت وبعض قرى جبل الشيخ، وحتى في السويداء لم يكن هذا الوجود ظاهراً بدرجة كبيرة.

غير أن الأمور تغيرت لصالح إيران وميليشياتها، بعد سيطرة نظام الأسد وتفكيك هياكل فصائل المعارضة، حيث لم تنته مقاومة إيران وحسب، بل استقطبت الكثير من عناصر”التسويات” إلى صفوف ميليشياتها أو الأجهزة العسكرية والأمنية التابعة لإيران، وشكلت انتهازية روسيا وحاجتها لميليشيات إيران كأداة برية وكثرة عددية رخيصة الثمن في توسيع نفوذ روسيا في سوريا، نقطة استفادت منها لإيران في الحفاظ على نفوذها في جنوب سوريا وتعزيزه على الدوام.

في الأردن هناك قناعة تامة لدى المطبخ السياسي أن المخدرات، ورغم أنها وسيلة لتحقيق أرباح مالية، إلا إنها أداة هدم إيرانية للمجتمع الأردني والخليجي، ويمكن توظيفها في إخضاع الدولة الأردنية، بدون إطلاق رصاصة واحدة للمشروع الإيراني، من خلال صناعة مراكز قوى قوامها الرؤوس المشغّلة لتجارة المخدرات الإيرانية، وتقوية هؤلاء وتعويمهم للسيطرة على مفاصل الاقتصاد الأردني، وإدخالهم ضمن البنية السياسية الأردنية من خلال البرلمان والنقابات والأحزاب، وقد لا يأخذ الأمر أكثر من عقد لإنفاذ هذه الخطة ووضع الأردن في قبضة إيران.

وعلى المقلب الأخر، ليس صعباً صناعة مأزق أمني طويل المدى لإسرائيل، عبر صناعة خلايا إيرانية على طول الحدود مع الجولان والتي تمتد من ريف دمشق الجنوبي إلى أخر قرية في جنوب درعا، وهي مناطق تشبه تضاريسياً هضبة الجولان من حيث الوعورة والوديان المنتشرة فيها والتي يسهل فيها إخفاء الأسلحة والمقاتلين، وهو ما تركز عليه إيران في الوقت الحاضر.

ما الإجراءات التي اتخذها الأردن وإسرائيل لمواجهة المخطط الإيراني؟ قام الأردن بتغيير قواعد الاشتباك عبر إعطاء الأوامر للجيش بالتعامل نارياً مع الأهداف المشتبه بها، وقد كان نتيجة ذلك قتل العديد من المهربين، لكن المؤكد أن إيران ستعمل على التكيف مع هذا المتغير وتستخدم خططاً جديدة لتحقيق أهدافها، إذ من المعلوم أنها تعمل على أكثر من مستوى: اختراق الأجهزة الأمنية، واختراق المجتمعات المحلية الأردنية، واستخدام تقنيات حديثة في التهريب، وهذا الوضع يجعل الأردن مستنزفاً على الدوام من دون تحقيق نتائج مهمة على صعيد محاربة المشروع الإيراني.

من جهتها إسرائيل، تعتمد على الضربات المباشرة، عندما تتوفر لها معلومات عن تحركات إيرانية في جنوب سوريا، وتستخدم وسائل الرصد التقنية، بالإضافة إلى مخبرين في الجانب السوري، وقد حققت الكثير من النتائج، لكن لا يبدو أنها أنهت الخطر الإيراني بشكل كامل.

ويواجه الأردن وإسرائيل عدد من العوائق في مواجهة المشروع الإيراني:

ضعف أدواتهما في التصدي للمشروع الإيراني، حيث ليس لهما سند في جنوب سوريا يمكنهما الاعتماد عليه في المواجهة بعد تفكيك الفصائل المسلحة، أما إجراءاتهما العسكرية فيبدو أن إيران قادرة على التكيف معها.

عدم حساسية إيران تجاه خسائرها البشرية إذ من المعلوم أن الميليشيات الإيرانية تتكون في الغالب من عناصر غير إيرانية، أفغانية وباكستانية وعراقية وسورية.

إدماج مشاريع إيران الجيوسياسية ضمن الإطار الأيديولوجي للدولة الإيرانية، وهو ما يفسر عدم كلل إيران في مواصلة مشروعها رغم المصاعب والعراقيل التي تواجهه.

رغم المتاعب الاقتصادية التي تواجهها إيران، إلا أنها قادرة على توفير ميزانيات كبيرة لدعم مشروعها، وهو ما ليس متوفراً للأردن وإسرائيل.

بناء على هذه المعطيات، كيف يمكن مواجهة مشروع إيران في جنوب سوريا؟ يبدو أن الأردن وإسرائيل أمام خيارات محدودة: إما أن يقدمان على احتلال شريط حدودي في الجنوب يمنحهما القدرة على المناورة ودفع ميليشيات إيران بعيداً، أو إسقاط نظام الأسد للخلاص من هذا الوجع المزمن، ولهذين الخيارين تكاليفهما ومخاطرهما، وربما يحتاجان لتنفيذهما إلى غطاء دولي من قبل واشنطن.

ومن غير المرجح تغيّر الأوضاع للأفضل في ظل سيطرة إيرانية، بل المقدّر تزايد حدّة الفوضى وانعكاس ذلك على المجتمعات المحلية في الجنوب، وهو ما ترغب إيران في حصوله ليتسنى لها ترسيخ نفوذها بدون أدنى مقاومة. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة