في 19 تموز/يوليو 2022 عُقِدت في طهران قمة ثلاثية ردّا على زيارة الرئيس الأميركي للشرق الأوسط ولقائه بقادة دول عربية، إذ عرض رؤيته حول الانخراط الأميركي في الشرق الأوسط وضمان عدم حدوث فراغ تملؤه الصين وروسيا، وكانت سوريا الموضوع الرئيسي في قمة طهران التي حضرها رؤساءُ روسيا وتركيا وإيران، والتي جاءت في إطار ترتيبات بدأت مع مؤتمر “سوتشي” المنعقد في نهاية كانون الثاني/يناير 2018.

وكما لم يتطرق بيان القمة مباشرةً لدور الولايات المتحدة في سوريا، ولكن أشار إلى أنه “لا ينبغي لأي عمل أن يقوّض سيادة سوريا، بغض النظر عن الجهة التي قامت بهذا العمل ورفضَ محاولات إيجاد حقائق جديدة على الأرض السورية بما يشمل مبادرات الحكم الذاتي” والواقع أن هذا المسار يشهد حالة من الانسداد والعجز عن تقديم المزيد من المطابقات، وقد انسحب هذا الانسداد بشكل مباشر على الأرض في سوريا، حيث لا تقدُّم في العملية السياسية ولا تغيير في الميدان، وكادت أحداث دير الزور الأخيرة، أن تمثل انفراجاً في هذا الانسداد على الأرض وإعادة خلط أوراق اللعبة.

بموازاة قمة طهران كانت مساعي التطبيع بين أنقرة ودمشق تسير على قدمٍ وساق مع الرئيس التركي الذي كانت تنتظره انتخابات مصيرية ويريد الخلاص من اللاجئين السوريين ولو كان الثمن هو التطبيع مع دمشق، التي كانت تبحث هي الأخرى عن أيّ نصرٍ سياسي مترافقٍ مع فرص اقتصادية تكسر عنها طوق العقوبات الأميركية الخانقة وتهدئ من روع الحاضنة الاجتماعية في مناطق سيطرتها، ومثّل تحالف “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) مع الولايات المتحدة الهدف الذي يمكن التفاهم عليه بين أنقرة ودمشق.



في غضون ذلك حدث تطورٌ آخر شديد الأهمية أكدته وزارة الخارجية العُمانية في حزيران/يونيو 2023 وأعلن وزير خارجيتها عن حدوث تبادل رسائل بين واشنطن ودمشق إلى حدّ ما بوساطة مسقط، وقالت إنه “لا يمكن القول بأن واشنطن ودمشق أقرب إلى إيجاد مخرج، لكن العملية قد بدأت”.

هذا التطور جاء في سياق يؤكد على ضعف اللاعب الروسي، وتقدم في فكرة إنقاذ دمشق من قِبل الدول العربية، وبحسب بعض التسريبات طلبت واشنطن من دمشق العمل على إخراج القوات الإيرانية من سوريا، وفي بادرة حسن نية غضت الولايات المتحدة الطرف عن الرغبة العربية وتحديدا الخليجية في إعادة العلاقات مع دمشق، وقام مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية في شباط/فبراير الماضي، بالموافقة على رفع الحظر عن 180 يوما من العمليات ذات الصلة بالإغاثة من الزلزال.

في المقابل مالت الولايات المتحدة الأميركية لفكرة أن تركيا اعتادت على التحدث مع العرب السوريين بينما ترفض الحديث مع أكراد سوريا الفاعلين، وبدأت تتسرع أميركا بالنظر في إمكانية إعطاء عناصر من العشائر العربية دورا في شمال شرق سوريا بهدف تهدئة الاحتجاج التركي على التحالف الأميركي مع “قسد”، فإعطاء هذا الدور في دير الزور خصوصا، إن ما تم بالتفاهم مع دمشق، سيخفف بالمقابل حدّة الهيمنة الإيرانية في الضفة الأخرى لنهر الفرات، الأمر الذي عزز فرضية وجود هدف لتشكيل مجلس عسكري في دير الزور، يتشكل من عناصر عشائرية من الشامية والجزيرة يكون حليفا للولايات المتحدة ومقبولا من دمشق.

عنصران من “قسد” في بلدة ذيبان بريف دير الزور شرق سوريا السبت “إ.ب.أ”

وبالتالي يخفف من مخاوف تركيا تجاه أي دور كردي محتمل، إضافة لأنه سيشكل خطرا على تمدّد إيران، عداك عن احتمال مباركة الدول العربية له، فإيران فشلت في اقتسام سوريا وفشلت كذلك في توحيدها وفق نسختها، وباقي الأطراف ربما يريدون إعلان واقعي والتعامل مع التقسيم في إطار حلّ سياسي، ويدعم تلك الفرضية قرب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، حيث تبدو واشنطن في عجلة لتحقيق إنجاز ما في سوريا، استباقا لعودة النقاشات حول الانسحاب الأميركي.

فمنذ تأسيس قوات سوريا الديمقراطية في تشرين الأول/أكتوبر 2015 وتحالفها العسكري مع الولايات المتحدة الأميركية، لا تكفّ تركيا عن الترويج لفكرة أن الأكراد في سوريا، يشكلون خطرا على أمنها القومي، وما حدث بعد عزل أحمد الخبيل الملقب بـ “أبو خولة”، رئيس “مجلس دير الزور العسكري” في 27 آب/أغسطس الفائت بدأت أطراف متعددة، العمل وفق مخطط ينطلق من ضفتي نهر الفرات، يستهدف الدور الكردي في “قسد”، وبدأ العمل في ظل ترقب أميركي، على تحقيق هدف شديد الخطورة وهو إحداث صراع كردي عربي، وبالنتيجة تم ترويج فكرة أن الأكراد محتلين، وأنهم يشكلون خطرا رئيسيا على الأمن العربي في شمال شرق سوريا رغم فعالية الدور العربي في “قسد”، وساهمت المعارضة السورية التابعة لتركيا وإعلامها، وكذلك تيارات المعارضة المشكوك في ارتباطاتها الأمنية مع دمشق في تكريس هذه الرواية، وأيدت المعارضة خطاب الكراهية الذي تبنّته عناصر عشائرية ضد الأكراد، ولم تنتقده.

ورغم أن دمشق كانت المستفيد الأكبر من أحداث دير الزور شرق سوريا، فجزء مهمّ من العشائر ينسق معها، فقد اعتبر إعلام دمشق أن ما يجري هو مقاومة شعبية ومن ينفذها مدعوم من الدولة السورية، لطرد الأميركي و”قسد” “الانفصالي”، وبالتالي صبّ القتال الذي جرى في مصلحة دمشق دون تكلفة عالية، فدمشق تفضل تقليل الكلفة عبر عناصر عشائرية لاستعادة تلك المنطقة واسترداد منابع الطاقة فيها، أما تسمية مقاتلي العشائر فتبدوا مخرجا مُرضيا بعد التفاهمات الأمنية بين دمشق وأنقرة، ويمكن لهذه التسمية أن تساعد الأتراك في التخلص من التكلفة السياسية للتدخل ضد “قسد”، ومساعدة دمشق أيضا في تجنب إحراجات التعايش مع الوجود العسكري للولايات المتحدة.

وما يعزز فرضية المخطط المتعدد الأطراف، أنه رغم الطابع الكردي الغالب لقيادة “قسد”، إلا أنه لم تسجل أيّة حوادث تندرج في خانة التمييز العنصري ضد العرب، كذلك لم يلاحظ وجود أي تمييز ديني أو طائفي، وتُعد مناطق “قسد” الأفضل من حيث فرص العمل رغم الضعف في الخبرات الإدارية، إلا أن شكلٌ من اللامركزية في الإدارة شرق الفرات نجح في تقليل أخطار الهيمنة المناطقية أو العرقية، فمبدأ الشراكة في مناطق “الإدارة الذاتية” معمول به وإن كان محدودا، فضلا عن “الحريات العامة الموجودة تفتقرها مناطق سيطرة دمشق وكذلك مناطق الاحتلال التركي”، والتفوق الخدمي لا يمكن إنكاره، إلى جانب وجود منظمات تدعم ذلك، كما لا يقوم المشروع على أساس ديني.



والمفارقة أن المجتمعات في شرق الفرات تتخوف من عودة سلطات دمشق بدون حل سياسي ومن التهديدات التركية على السواء، وهذه العوامل مجتمعة مكّنت “قسد” من إفشال مخطط فتنة داخلية في أيام وبدون ارتباكات في الحاضنة المجتمعية التي غالبا سيكون تعزيزها وإصلاحها عنوان المرحلة القادمة بالنسبة لـ”قسد”، وقد ساعدت الأخيرة في درء الفتنة العربية الكردية، عدم توفر الإرادة لدى العرب والأكراد في الدخول في صراع أهلي وعدم توفر دوافعه، ويدرك الكثيرون جيدا أن ما جرى في دير الزور لم يكن مشروعا تتبناه عشائر عربية وإنما عناصر عشائرية حرّضت على جر العرب والأكراد إلى صراع لا يخدم سوى مخططات القوى التي تستهدف كلاهما على السواء.

إن مشكلة “قسد” الرئيسية تتمثل في خشية تركيا من تنامي الدور الكردي في عموم المنطقة، وتخشى تركيا بشكل خاص من نجاح القيادات الكردية شرقي الفرات في بناء علاقات جيدة مع الأوساط العربية، وحيث تحتفظ تركيا بعلاقات حيوية مع الفاعلين الإقليميين والدوليين، فقد نجحت إلى حدّ كبير في حرمان “قسد” شرقي الفرات من فرص سياسية مهمة، وتدرك قيادة “قسد” ذلك جيدا عبر خبرتها المركزة التي اكتسبتها في العقد الماضي، حيث مثّلت “قسد” عقبة مهمة أمام هيمنة تركيا على الشمال الشرقي كما حال غرب الفرات.

عدا ذلك فإن أنقرة تخشى إلى حدّ بعيد مما يجري في شرق الفرات من تنامي الوعي السياسي المعادي لسياسات الدولة التركية، خصوصا وأن تأخر الحل السياسي في سوريا يجعل من سوريا جرحا ملتهبا في المنطقة لا يعرف أحد أين تصل تداعياته وعلى الإدارة في شرق الفرات أن تعمل من جهة على الاستمرار في تحسين الوضع الداخلي وتكريس العدالة بين المكونات الاجتماعية، ومن جهة أخرى عليها الاستمرار في تأكيد أنها كيان يسعى لتحقيق السلام، وهنا يمكن لأطراف دولية فاعلة المبادرة ورعاية مقاربات جذرية ونهائية للصراع في سوريا.

وإلى حين تحقيق ذلك يبقى غياب الحل السياسي وانقسام السوريين بين مناطق نفوذ عدة، يزيد التحديات أمام توحيد الجغرافية السياسية لسوريا، كذلك يبقى الباب مفتوحا أمام المزيد من التداعيات على الصعيد الإقليمي، أما راهنا، فيبقي الانسداد السياسي سيد الموقف.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات