الحديث التركي مجددا عن عملية عسكرية في الشمال السوري، يندرج في إطار رغبة أنقرة في استثمار ما تعتبره ظروفا إقليمية ودولية مواتية لاستكمال خططها القديمة المعلنة في إقامة “منطقة آمنة” بعمق 30 كلم على طول حدودها الجنوبية مع سوريا.


وقد اتخذت تركيا من طلب كل من السويد وفنلندا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، مدخلا لمساومة الغرب في تأييد العملية، والمشروع الآخر المرتبط بها كما يبدو، أي إعادة مليون لاجئ سوري من تركيا إلى مناطق الشمال السوري.


ووفق ما ذكر الرئيس التركي أردوغان في معرض إعلانه عن العملية العسكرية المحتملة، فإن المناطق التي تعدّ مركز انطلاق للهجمات على القوات التركية، ستكون على رأس أهدافها فيما أعطى مجلس الأمن القومي التركي الضوء الأخضر للمباشرة بهذه العملية.


وفي رسائل إلى كل من الولايات المتحدة وروسيا، قال أردوغان أن “تركيا ستميز مجدداً في هذه المرحلة، بين من يحترمون حساسياتها الأمنية، والذين لا يكترثون سوى لمصالحهم، وأنها ستصوغ سياساتها مستقبلاً على هذا الأساس”، وهو تصريح فهم منه البعض أن تركيا حصلت على موافقة إحدى هاتين الدولتين لشن العملية، لكن المواقف التالية الصادرة عنهما أظهرت تواصل التحفظات الروسية والأميركية، فيما أعلنت موسكو عن نيتها المباشرة بجهود لدى أنقرة لوقف هذه العملية.


وفق تسريبات للصحف التركية، ومصادر أخرى، فان العملية التركية ان حدثت بالفعل، سوف تستهدف بالدرجة الأولى مدن تل رفعت وعين العرب (كوباني) وعين عيسى ومنبج، وهو ما يمنح أنقرة السيطرة على نحو ثلاثة أرباع الحدود مع سورية البالغ طولها 911 كلم.


ويبدو أن الهدف الأهم هو تل رفعت التي تبعد حوالي 15 كلم فقط عن الحدود التركية والتي تقول تركيا إن المقاتلين الأكراد يستخدمونها قاعدة لشن هجمات في عفرين وإعزاز وجرابلس التي تسيطر عليها قواتها والفصائل الموالية لها. وكانت هذه المدينة من ضمن أهداف العملية التركية السابقة في عفرين، لكن تعقيدات وجود قوات روسية فيها، جعلها بمنأى عن ذلك.


واليوم مع انشغال روسيا في حربها مع أوكرانيا، واضطرارها لسحب بعض قواتها من سوريا، تعتقد تركيا أن الاعتراضات الروسية لن تكون قوية، كما أن الأميركيين لم يسبق لهم أن أظهروا أي اهتمام بمصير تل رفعت البعيدة عن مناطق نفوذهم، وتمركز قواتهم في شرق الفرات.


أما الحديث عن مدينة كوباني (عين العرب) ذات الأغلبية الكردية، فهو أكثر تعقيدا للأتراك نظرا للرمزية التي حملتها المدينة بعد نجاح “وحدات حماية الشعب” الكردية بدعم من التحالف الدولي في طرد تنظيم “داعش” منها عام 2015، إضافة لكثافتها السكانية، وغالبيتهم من الأكراد الذين لن يرحبوا بأية قوات تركية، أو موالية لها.


ومن نافل القول، أن أية عملية عسكرية، لن تشمل مناطق الشمال الشرقي من سوريا (الدرباسية والمالكية والقامشلي) لأنها مناطق مفتوحة على الحدود مع جبال قنديل، وتعدّ مركز ثقل حزب العمال و”قسد”، فضلا عن الحضور الكبير للقوات الأميركية هناك، إضافة لقوات النظام السوري في محيطها.


أما المدينة التي من المرجح بشدة أن تطالها العملية إن تمت فهي منبج، حيث لا توجد فيها غالبية كردية، وبالتالي لا تمثل رمزية بالنسبة لحزب الاتحاد الديمقراطي وقسد، على عكس (كوباني) التي تحظى بمكانة استثنائية لديهما، ناهيك عن رمزيتها بالنسبة للغرب حيث تشكل التحالف الدولي لمكافحة داعش من أجل مواجهة التنظيم في هذه المدينة.


كما أن مدينة عين عيسى التي تعتبر العاصمة الإدارية للإدارة الذاتية، مرشحة بقوة لأن تكون هدفا للعمليات العسكرية.


ورغم أن البعض يرى أن الحديث التركي عن هجوم جديد ضد “قسد” مجرد حديث سياسي أكثر منه عسكري، بهدف تحقيق أكبر قدر من المكاسب بالتزامن مع المفاوضات بين الغرب وتركيا بشأن انضمام السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي، فانه من غير المستبعد أن تنجح تركيا في انتزاع تنازلات من روسيا المأزومة في أوكرانيا، أو من الولايات المتحدة التي ترغب بدور تركي في أزمة أوكرانيا، ومواجهة الغزو الروسي، عبر السماح لتركيا بتوغل محدود في منطقة لا تعدّ حساسة بالنسبة للأكراد، مثل منطقتي عين عيسى ومنبج أو حتى تل رفعت، ما يعني أن العملية المحتملة لن تتطلب معارك واسعة أو شرسة إذا ما جاءت في إطار صفقة بين تركيا والغرب أو تركيا وروسيا، حيث تنسحب قسد من مناطق محددة بعد معارك محدودة.


والواقع ان لدى تركيا العديد من الدوافع لإطلاق عملية عسكرية في هذا الوقت مستفيدة مما تعتقد أنها ظروفا دولية مواتية، وفي مقدمة ذلك التمكين أكثر لمشروعها المتزامن المتمثل في بناء مدن سكنية في الشمال السوري بهدف إعادة مليون لاجئ سوري ضمن ما تطلق عليه “المنطقة الآمنة”، وما تسميه الإدارة الذاتية (تغييرا ديمغرافيا)، وهو مشروع كان من المقرر أن يقام على أراضي أملاك دولة إلى الغرب من مدينة رأس العين السورية.

حيث الأراضي الزراعية الخصبة أو ما يعرف بأراضي الشركة الليبية، وبعد اعتراضات محلية، على كون المنطقة زراعية، جرى اقتراح منطقتين غير صالحتين للزراعة تقعان جنوب شرقي تل أبيض، وفي منطقة حشيشة شرق سلوك. ويبدو أن الأتراك في صدد اعتماد هاتين المنطقتين، مع معلومات بأن شركات قطرية ستتولى عملية إنشاء هذه المدن عبر مقاولين محليين.


وتأمل تركيا بأن إخراج “قسد” من مدن مثل تل رفعت ومنبج سوف يمهد الطريق على إعادة آلاف اللاجئين إلى منازل أو مخيمات التي تعمل تركيا على إقامتها هناك، كما أن المشروع التركي قد يمتد لاحقا إلى المناطق الجديدة التي تسعى أنقرة للسيطرة عليها..


وإضافة إلى عمل تركيا على تقويض أية فرصة لإنشاء إقليم كردي منفصل شمال سوريا، تسعى أيضا إلى التخلص مما تقول انها تهديدات أمنية على مواقعها العسكرية في سوريا، وتصبو أيضا إلى تقليص المخاطر التي مصدرها موالون أو مقربون من حزب العمال الكردستاني عن حدودها الجنوبية، ورغبتها في فرض مزيد من الضغوط العسكريّة على الحزب في المنطقة عموماً، حيث مثل هذه العملية ستسهم في استنزاف قدرات الحزب وموارده بشكل أكبر، بالتوازي مع تواصل عملية (المخلب – القفل) التي أطلقتها تركيا ضده في العراق.


وعلى الصعيد الدولي، تسعى تركيا للحصول على ثمن مقابل موافقتها على انضمام السويد وفنلندا لحلف الناتو، لأن هذه الموافقة ستؤثر سلباً على علاقتها مع روسيا، وهو ما قد يلحق بتركيا خسائر سياسية واقتصادية.


وأخيرا، فان الرئيس التركي أردوغان يحتاج قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2023 إلى تحقيق “إنجازات” خارجية، خاصة في قضايا حساسة مثل قضية إعادة اللاجئين التي طالما عزفت عليها أحزاب المعارضة، وتحولت إلى قضية تشغل الرأي العام التركي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.