أعطى الموقع الجغرافي والجيواستراتيجي لتركيا، وعضويتها في حلف الناتو، فرصة ثمينة لها، لاستغلالها في الملف السوري، في محاولة منها لفرض توسيع المنطقة الآمنة على الشريط الحدودي مع سوريا، وإعادة مليون لاجئ سوري إليها من أصل 3.7 مليون، لرفع شعبية حزب العدالة والتنمية أمام معارضي الوجود السوري على الأراضي التركية، ولإلهاء الشعب عن الوضع الاقتصادي والمعيشي المتردي، بتحقيق إنجاز عسكري وسياسي يتعلق بالأمن القومي التركي.

أعلن أردوغان عن العملية العسكرية الجديدة، وصادق عليها مجلس الأمن القومي التركي؛ وهو ينتظر أضواءً خضراء أمريكية وروسية.

 جاء الرفض الأمريكي واضحاً ومعلناً، لأي تحرك تركي جديد شرق الفرات، وهذا ما دفع الرئيس التركي إلى تحديد وجهته صوب منبج وتل رفعت غرب الفرات، مع تذكير كل من موسكو وواشنطن بعدم التزامهما بتعهداتهما حول إبعاد “وحدات الحماية الكردية” وعناصر “حزب العمال الكردستاني” وقسد عن الحدود مسافة 30 كيلومتراً، بعد إيقاف عملية “نبع السلام” التركية، وفق مذكرتي تفاهم بين كل منهما وأنقرة، في 17 و 22 تشرين الأول في 2019.

كذلك، تضغط أنقرة على واشنطن بتذكيرها بالتزاماتها بـ”خريطة الطريق” في منبج في 2018، والتي تضمنت إخلاء منبج ومحيطها من عناصر الإدارة الذاتية وتشكيل مجلس محلي وتسيير دوريات مشتركة أمريكية- تركية.

هناك رفض أمريكي أيضاً لعملية عسكرية تركية في منبج، أو حتى في محيط عين العرب “كوباني”؛ فلا رغبة لواشنطن بسيطرة تركية على مناطق متصلة في الشمال، أو إعطاء أنقرة حجماً أكبر في سوريا.

 وتخشى أنقرة، في حال شنت هجوماً على منبج، أن يطالب الكونغرس الأمريكي بإعادة العمل بالعقوبات الاقتصادية على تركيا، والتي فُرضت بعد عملية “نبع السلام” في 2019، وجمدتها واشنطن مؤخراً، كبادرة لفتح علاقات إيجابية مع أنقرة، كونها ستلعب دوراً مهماً في الوساطة مع روسيا.

هناك أيضاً ترتيبات أمريكية- تركية بخصوص حصول تركيا على صفقة شراء 40 طائرة مقاتلة من طراز إف-16، وتحديث طائراتها القديمة، والتفاوض حول إمكانية العودة إلى برنامج إنتاج طائرات إف-35؛ وترغب تركيا بالضغط على واشنطن وأعضاء حلف الناتو من أجل محاصرة نشاط عناصر حزب العمال الكردستاني وجماعة عبد الله غولان.

هذا يعني أن التهديد التركي بعملية عسكرية قد يتوقف عند حدود تل رفعت، التي تسيطر عليها “وحدات الحماية الكردية” مع نفوذ روسي- إيراني- سوري.

 صحيح أن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أعرب عن تفهمه للمخاوف الأمنية التركية، خلال الزيارة السريعة له إلى تركيا الأربعاء الماضي؛ لكنه أيضاً، ذكّر نظيره التركي، مولود جاويش أوغلو، بعدم التزام تركيا بتنفيذ اتفاق سوتشي لعام 2020، بين الطرفين، خاصة بما يتعلق بحصر تواجد الفصائل المتشددة في جيب صغير على الحدود التركية، وتسيير دوريات مشتركة وفتح الطريق الدوليm -4.

وقد أرجأ لافروف النقاش حول الملف إلى اجتماع أستانة 18 الأسبوع المقبل؛ وهذا يعني أن في ذهن الروس العودة إلى مقايضة تل رفعت بجنوب الطريق الدولي، أي جبل الزاوية.

ترغب موسكو في استغلال التصعيد التركي، بالسعي إلى تمكين النظام وحرس الحدود من السيطرة على منطقة عازلة، وهي تشارك واشنطن في رغبتها بتحجيم النفوذ التركي في سورية.

 لكن روسيا تحتاج إلى تركيا في الملف الأوكراني، وتحديداً في رفض أنقرة طلب كل من السويد وفنلندا الانضمام إلى حلف الناتو، في اجتماع الحلف المرتقب نهاية الشهر في مدريد؛ وكذلك لم تلتزم أنقرة بتطبيق العقوبات الاقتصادية الغربية على موسكو، واكتفت بالتضييق على حركة الملاحة العسكرية الروسية البحرية والجوية عبر أراضيها.

تريد موسكو من أنقرة، أيضاً، أن تلعب دور الوسيط في الملف الأوكراني، مع حكومة كييف والغرب وواشنطن؛ فقد جرى، خلال زيارة لافروف الأخيرة إلى تركيا، وقبلها اتصال هاتفي بين وزيري الدفاع، سيرغي شويغو وخلوصي أكار، نقاش فتح خط ملاحة آمن أمام المنتجات الزراعية الأوكرانية، خاصة القمح والذرة وزيت عباد الشمس، وأن يكون بمشاركة وضمانة أمنية تركية من ميناء أوديسا وعبر البحر الأسود إلى مضيق البوسفور.

 طلبت أنقرة من كييف بالمقابل حسم 25 بالمئة على وارداتها من الحبوب الأوكرانية والبالغة 20 مليون طناً، بينما تريد موسكو من أنقرة أن تتوسط لها في تقليل القيود على التبادلات المصرفية والمالية الروسية مع الخارج فيما يتعلق بصادراتها الزراعية من الحبوب والأسمدة.

ترفض روسيا بدورها أي توغل تركي جديد شرق الفرات، وهي تريد الاحتفاظ بمواقعها هناك، وألا يتأثر نفوذها في سوريا بسبب انشغالها في حرب أوكرانيا، خاصة مع رصد العودة الأمريكية إلى قاعدة “خراب عشك” بالقرب من عين العرب/ كوباني.

 هذا دفع موسكو وحكومة دمشق إلى إرسال تعزيزات إلى قوات قسد قرب منبج وتل رفعت، وفي شرق الفرات في عين عيسى، وعلى كامل حدود التماس مع فصائل الجيش الوطني وعلى باقي الحدود السورية التركية، وتسيير دوريات مشتركة مع قسد والنظام؛ وعززت روسيا قواتها في قاعدة المباقر بريف تل تمر الإستراتيجية، شمال غرب الحسكة، كونها منطقة فصل بين قوات قسد وبين فصائل الجيش الوطني في منطقة “نبع السلام”، وكذلك لأن فيها عقدة طرق إستراتيجية، تضم تقاطع الطريق الدولي m-4 مع الخطوط المؤدية إلى الطريق المحاذي للحدود السورية التركية، ويتجه إلى الحدود العراقية، ضمن استرتيجية موسكو للسيطرة على شبكات الطرق والملاحة الرئيسية في سوريا.

رغم رغبة واشنطن في إرباك موسكو في سوريا، لكن الطرفين يتفقان على تحجيم المكاسب التركية في سوريا، وتقليصها إلى مفاوضات حول تل رفعت ومحيطها. لا رغبة لروسيا بفتح جبهة قتال جديدة بين تركيا والفصائل الموالية لها من جهة، وبين النظام والمليشيات الإيرانية الداعمة له؛ وكذلك تركيا، لا يحتمل وضعها الاقتصادي المتردي، وانخفاض شعبية حزب العدالة والتنمية، أن تغامر في عملية عسكرية واسعة ومرفوضة روسياً وأمريكياً. وهذا يعني أن التصعيد التركي سيقتصر على الدعاية والخطابات وممارسة الضغوط، وربما مناوشات محدودة، حتى يتم الاتفاق مع الروس، ربما في أستانة القادم، على مقايضة ما دون قتال، أو تبريد الملف حتى إشعار آخر.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.