شكَّلت الثورة السورية، فرصةً لعودة نشاط الإسلام السياسي المعارض بأشكاله المدنية والعسكرية، بعد أن حظَرَ النظام هذا النشاط في الداخل السوري في الثمانينيات عقب صراعه المسلح مع الإخوان المسلمين، فيما حاول أن يغطِّي المجتمع السوري بإسلاميين تابعين له، عبر مؤسسة الإفتاء ووزارة الأوقاف.

رغم أن إخوان سوريا، قبلوا الخوض في اللعبة الديمقراطية، ضمن تحالفاتهم مع بقية أطياف المعارضة، لكنَّهم ظلّوا حبيسي إيديولوجيتهم ذات الطبيعة الطائفية أكثر منها الدينية، حيث يعتبرون أنفسهم ممثلين عن أغلبية الشعب السوري بوصفهم سنة عرباً، ويقبلون باللعبة الديمقراطية باعتبار أن بقية الشعب طوائف وأقليات دينية، ولهم من يمثلهم.

الديمقراطية بالنسبة للإخوان، وسيلة للوصول إلى الحكم ثم الاستئثار به، والدولة المدنية لا تتناقض مع شرطهم الأساسي بأن الإسلام مصدر للتشريع. وهم بذلك يمارسون التقيَّة بالالتفاف على المطالب الحداثية التي تنادي بها المعارضة العلمانية، دون أن يقدِّموا برنامجاً واضحاً أو رؤية متكاملة، لشكل الدولة التي يطمحون إليها.

المشكلة تكمن في ضعف المعارضة السورية العلمانية، والتي تذوب في السياسات الإخوانية حال التحالف معها. ومنذ سقوط نظام صدام حسين في العراق في 2003، تمحورت سياسات المعارضة المكرسة حول مطلب التدخل الخارجي لإسقاط النظام، وتكرست هذه السياسات بعد اندلاع الثورة الشعبية في سوريا، وسقوط نظام القذافي في ليبيا؛ وهذا المطلب نابع من تخبُّط سياسات تلك المعارضة، وضعف بنيتها السياسية والفكرية.

بالنسبة للإخوان، سياسات طلب التدخل الخارجي تنبع من إيديولوجيا راسخة تقول بأمة إسلامية متخيَّلة، وعليه، فهي تقبل بالتدخل الخارجي شريطة أن يكون من دولة إسلامية سنية، كتركيا مثلاً؛ وقبلوا بمحاربة الكُرد في الشمال الشرقي لمصلحة سيطرة تركيا على الحدود مع سوريا، وأوغلوا في تأييد تجنيد الأتراك للمقاتلين السوريين للقتال في ليبيا وأذربيجان، كمرتزقة لمصلحة أنقرة.

لم يقدِّم الإخوان المسلمين نقداً متكاملاً لإيديولوجية التنظيمات السلفية والجهادية، كتنظيم الدولة الإسلامية أو جبهة النصرة أو غيرها، بل اكتفوا بانتقاد بعض السياسات والانتهاكات التي تمارسها تلك الجماعات، ما يعني التقاءَهم مع تلك الجماعات في طروحاتها الإسلامية.

فشل الإخوان في سوريا في ركوب موجة العمل المسلح على الأرض، بتشكيل فصيل عسكري يخصّهم، لأن تركيا منعتهم من الحصول على قوة تمثّلهم وتقوّي نفوذهم، وبذلك، بقيت أنقرة العقل المدبر والقوة المُحرّكة لغالبية الفصائل الإسلامية، كما هو الحال مع فصائل المعارضة السورية بمختلف تسمياتها.

كما فشلوا أيضاً في الاتحاد مع الفصائل العاملة على الأرض والتي يلتقون معها فكرياً، حيث غازلوا أحرار الشام، وهم مقربون من أجناد الشام ومن فيلق الشام، لكن دون انضمام تلك الفصائل بشكل رسمي إليهم. لكن، كان لعناصر إخوانية دور كبير في جلب السلاح وأموال الدعم والإغاثة من دول الخليج خصوصاً، لتقوية الأجنحة الإسلامية في تشكيلات الجيش الحر، وتمكينها من السيطرة وبناء إمارات تخصّها.

كما سيطروا على وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي، وهم من روّج لسياسة تحرير المدن منذ البداية، والتي تركت فراغاً أمنياً لم تستطع كتائب الجيش الحر سدّه، ما شكل بؤرة للتنظيمات ذات البنية التنظيمية الأكثر صرامة، كتنظيم الدولة والنصرة وجيش الإسلام وأحرار الشام.

خلافات الفصائل واقتتالها، ليست إيديولوجيَّة أو شرعية، ولا على درجة التشدد، بل كثيراً ما تكون على المكاسب والمعابر وعلى مناطق النفوذ، أو على أساس مناطقي، حيث لم يحصل اندماج بين الفصائل التي غادرت الغوطة الشرقية كجيش الإسلام، مع الفصائل العاملة في الشمال.

وهناك خلاف ذو طبيعة مدينية- ريفية، ظهر بين الإسلاميين المنحدرين من المدن الكبرى، كجماعة زيد في دمشق، وبين الفصائل الإسلامية، وأغلبهم ينحدرون من المناطق التي ثارت، والتي تحمل طبيعة ريفية، حيث شكلت جماعة زيد المجلس الإسلامي السوري وحاولت إشراك الفصائل فيه، لكن مع رغبتها بالسيطرة عبر امتلاك التمثيل الأكبر ضمن المجلس، ما دفع تلك الفصائل إلى الانسحاب.

تبدي جبهة فتح الشام، أو النصرة سابقاً، تماسكاً تنظيمياً واستقلالية أكبر من بقية الفصائل، بعد أن استطاعت السيطرة منفردة على إدلب ضمن تشكيل هيئة تحرير الشام. لكنها مرفوضة شعبياً، بسبب سياساتها التسلطية، ودولياً، بسبب ارتباطها بتنظيم القاعدة، ما يجعلها ضعيفة ويضطرها إلى تقديم تنازلات شكلية، وإلى الدوران في فلك السياسة التركية، خاصة ما يتعلق بتنفيذ الاتفاقات مع الروس.

في الشمال، لا تسعف الإيديولوجيا الإسلامية الفصائل العاملة، بالانتقال إلى ما هو وطني ووقف الاقتتال، بل بالعكس؛ الأسلمة هنا عامل مشتِّت، طالما أن تلك الفصائل تتبع لتركيا، والأخيرة لا تريد لفصائل الشمال أن تكون بقوة واستقلالية هيئة تحرير الشام في إدلب، بل تريدها أن تبقى ضعيفة ومتقاتلة بينها، حتى تضمن السيطرة عليها.

الشعب في مناطق سيطرة الإسلاميين، عاش تجربته مع حكمهم، والذي كان ديكتاتورياً بدوره، ويمارس القتل والاعتقال والفساد. ولا بد من القول أن الدين تماهى مع الحراك الثوري، منذ البداية، باعتباره أساساً روحانياً، وربما يحمل لدى الفئات الشعبية طابعاً هوياتياً، لكن ذلك لا يعني رغبة الشعب بتحويله إلى إيديولوجيا ومشروع سياسي.

كما أن تصاعد نفس التدين لدى الشعب، يرتبط بظروف وأسباب موضوعية، ومنها اشتداد عنف النظام، ورده الطائفي بقصد استفزاز تلك البيئات، وإخراج النظام لمعتقلي صيدنايا الإسلاميين، والذي أسسوا معظم التشكيلات العسكرية الإسلامية، ودخول مليشيات إيران الطائفية إلى جانب النظام.

أدلجة الثورة باتجاه الأسلمة غيَّر مسارها، نحو تشكيل إمارات إسلامية متعددة ومتصارعة، أنهت الثورة وصادرت دور الشعب فيها؛ هذا ما خطط له النظام، واستفاد منه، ولم تفهم المعارضة المكرسة، وعلى رأسها الإخوان المسلمين خطورة الأسلمة، وخطورة الدعم الخارجي لها؛ وبذلك كان دورها مفتِّت، أي أنها لا يمكن أن تنتصر أو تحقق مشروعها الخاص، وكانت أدوات بيد الدول الداعمة لتخريب الثورة وإضعاف النظام في الوقت نفسه.

لا مكان للفصائل العسكرية في مستقبل سوريا، إذا كانت هناك رغبة دولية لإبقائها موحدة؛ أما الإسلام السياسي الإخواني، فعليه أن يعي أن فكرة الأمة الإسلامية انتهت مع زوال الامبراطوريتين العربية والعثمانية، وأن تسييس الدين لا يوحِّد، بل هو عامل تشظي بامتياز، وأن مصلحة الشعب في تمكينه من التطور الذاتي، وليس بالسيطرة عليه عبر الدين، وعبر الاحتلالات الخارجية؛ بالطبع هذا لا يعني إلغاء الجانب الدعوي للجماعات الدينية وما يتعلق بنشر الأخلاق والعبادة والشريعة وحرية التجمع، لكن مع فصل كل ذلك عن السياسة، أقصد هنا الدولة العَلمانية.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.