مع وصول الأزمة اللبنانية إلى ذروتها، أصبحت حالات الانتحار أكثر وضوحاً وشيوعاً، لكن “تابو” الأمراض والاضطرابات النفسية لا يزال قائماً، حيث يفضّل الناس عدم الإفصاح عنها.

وتستمر البلاد في الغرق أكثر، دون أية خطة لإنهاء الأزمة تنفذها الطبقة السياسية، التي حظي جزءٌ منها بدعم الغرب ودول الخليج لفترة طويلة في سياق مفاوضات جيوسياسية مكثفة في المنطقة.

كما تستمر الليرة اللبنانية في الانخفاض، مقترنةً بالتضخم المفرط، ويزداد النقص في الضروريات الأولية للعيش، وفق تقريرٍ لصحيفة (Le Monde) الفرنسية.

كل ذلك، كان سبباً بخروج جزء من لبنان في تظاهراتٍ ضد الطبقة السياسية خريف 2019، التي كان قادتها يتشبثون بالسلطة في الغالب منذ سنوات الحرب (1975-1990). وبالنسبة للعديد من اللبنانيين، كانت الانتفاضة لحظة أمل واتحاد.

الخشية من المجتمع

في هذا البلد المنهك، بقي الانتحار من المحرمات الاجتماعية “تابو”، لكن مع توالي الأزمات، أصبح أكثر وضوحاً وشيوعاً.

يوضح أحد المعالجين النفسيين في بيروت، الذي طلب عدم ذكر اسمه، أن «ثقل الحظر الديني هائل في هذه الحالات غير المعلنة، لاسيما في مجتمعنا متعدد الأديان، حيث تخضع الأحوال الشخصية لقوانين الطوائف».

وعندما يُعلَن عن حالات الانتحار، غالباً ما تكون الشرطة هي التي تعلن عنها باختصار شديد! فهي تشير إلى جنسية المتوفى، والأحرف الأولى من اسمه.

في بعض الأحيان تكون المشاهد عنيفة للغاية، فعلى سبيل المثال، ذات يوم في صيف 2020، أطلق رجل يدعى “علي الحق” 61 عاماً، النار على رأسه وسط شارع في منطقة تجارية في بيروت. وبعد بضع ساعات، قام حشد صغير من مجهولين، بتشييعه.

حالة انتحار كل يومين ونصف 

منذ عام 2019، غطت وسائل الإعلام المحلية هذه الوفيات التي تم التغاضي عنها منذ فترة طويلة. وتشمل الحالات البارزة الرجال وغالباً ما يشار إليها على أنها “حالات انتحار اقتصادي”، وهي أعراض لدولةٍ فاشلة.

وهي تسميةٌ لا يزال “سامي ريشة” رئيس الجمعية اللبنانية للطب النفسي، حذراً بشأنها، حيث يقول: «لا يوجد سبب واحد يحدد الانتحار».

ووفقاً لتقديرات مبنية على أرقام جمعتها الشرطة اللبنانية بين عامي 2008 و2018، فإن هناك شخص ينتحر كل يومين ونصف في لبنان.

يقول الطبيب النفسي: «لا توجد بيانات موثوقة، خاصة بسبب عدم وجود تشريح نفسي للجثة، كما يتم السكوت عن حالات الانتحار، لأن الأسرة تخشى أن يرفض الكاهن أو الشيخ أداء الطقوس الدينية للمتوفى. لذلك لا نستطيع أن نقول ما هو تطور عدد حالات الانتحار في لبنان، والحديث عن زيادة هو استقراء».

لكن رئيس قسم الطب النفسي في مستشفى (أوتيل ديو دي فرانس) في بيروت يشير، في ذات الوقت، إلى «زيادة الاكتئاب، التي تؤثر على جميع مناحي الحياة. لكن، بالطبع، ليس كل الاكتئاب يؤدي إلى الانتحار».

استشاراتٌ نفسية بالجملة

في العاصمة بيروت، يعترف العديد من الأطباء النفسيين أيضاً بأنهم غارقون في طلبات الاستشارة في عياداتهم الخاصة، ومن بين عوامل الاكتئاب، يلاحظ الدكتور “ريشة” بأن تعاقب المواقف العصيبة الشديدة في وقت قصير هو أحد هذه العوامل.

لكن أيضاً الحياة الاجتماعية التي تقلصت مع الجائحة، ففي النزاعات والأزمات العديدة التي مرّ بها لبنان في الماضي، كان لدى السكان على الأقل إمكانية لقاء العائلة والأصدقاء.

أدت الأزمة بالتأكيد إلى زيادة التفاوتات الاجتماعية بشكلٍ كبير، لكنها كانت موجودة دائماً في هذا البلد الذي يزيد عدد سكانه عن ستة ملايين نسمة. وقبل عام 2019، كان أكثر من ثلث السكان يعيشون تحت خط الفقر، بعيداً عن الأعين.

كانوا منبوذين ولم يرغب أحد في رؤيتهم. وحتى اليوم، فإن الأغنياء وذوي الأجور بالعملات الأجنبية يتغلبون على العاصفة. لكن بالنسبة إلى كثيرين آخرين، انهارت المعالم مثل بيتٍ من ورق. فالأكثر ضعفاً قد جثوا على ركبهم.

وصمة عار

«قد ينبع رفض الحديث عن الاضطرابات النفسية من الربط بين هذه الأمراض والجنون الذي لا يزال يحدث في كثير من الأحيان، أو من الجهل بهذه الاضطرابات»، يضيف المعالج النفسي من بيروت.

وتعقد جلسات توعية حول الصحة النفسية منذ عدة سنوات في المدارس، ولكنها تبقى على الهامش في كثير من الأحيان. وتبقى الاضطرابات النفسية وصمة عار.

من جانبه، يقول الدكتور “ريشة”: «في مجتمعٍ تكون فيه ثقافة النجاح أولوية، من الصعب التحدث عن عدم ارتياحك مع عائلتك، فالجميع أكثر بلاغة بكثير عند الحديث عن الأزمة التي تجتاح لبنان».


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.