رغم نسبة التفاؤل الكبيرة في تصريحات الحكومة السورية فيما يتعلق بموازنة العام 2022، إلا أن ترجيحات خبراء اقتصاديين تشير إلى أن نسبة العجز ستبلغ قرابة نصف الموازنة، في حين ستزداد معدلات التضخم، وقفزات موسعة لليرة السورية نحو الانهيار، ما يزيد من هموم المواطن السوري ويفاقم متاعبه المعيشية والخدمية.

وفيما سجلت الموازنة الجديدة 3.8 مليار دولار، بزيادة تقرب من 30 بالمئة عن موازنة العام الماضي، يتساءل مراقبون عن الكيفية التي ستقوم من خلالها الحكومة بتمويل الموازنة، مرجحين استمرار تنفيذ نفس الإجراءات السابقة التي اعتمدتها الحكومة في تمويل موازنات الأعوام الثلاثة الماضية، والتي تمثلت بمصادرة جزء من أموال رجال الأعمال والصناعيين، بحجة التهرب الضريبي.

سياسة اقتصادية متناقضة

رغم الرقم الكبير المخصص في الموازنة العامة للدعم الاجتماعي والذي يبلغ حوالي 1.5 مليار دولار، مقارنة بـ 1.2 مليار دولار في عام 2021، أي بزيادة تقدر ب 25 بالمئة، تتخذ الإجراءات التي تتبعها الحكومة عقب الإعلان عن الموازنة منحى آخر، يغاير ما تم الإعلان عنه.

وتشير التصريحات الحكومية إلى وجود نية لإلغاء الدعم الحكومي للمواد الأساسية عن نصف مليون سوري، وتشمل قائمة المحرومين من هذا الدعم: التجار من الفئة الأولى والثانية، إضافة لكبار ومتوسطي المكلفين بالضرائب من وزارة المالية، والمحامين الذين يمارسون المهنة منذ أكثر من 10 سنوات، وكذلك الأطباء المتمرسين، والمديرين والمساهمين في المصارف الخاصة، والمساهمين في الشركات المدرجة في أسواق الأوراق المالية.

يقول الكاتب الصحفي إياد الجعفري، في حديث لـ”الحل نت” إن الزيادة الحاصلة في بند الدعم الاجتماعي تدفع للتساؤل عن كيفية تمويل هذه الزيادة. ويضيف بأن “الجواب جاء سريعاً حينما أصدرت دمشق موجة جديدة من قرارات رفع أسعار حوامل الطاقة، مطلع الشهر الجاري، حيث رفعت سعر أسطوانة الغاز المنزلي المدعوم بنسبة 130 بالمئة، وسعر الغاز الصناعي المدعوم وصولاً إلى أكثر من 300 بالمئة، كما رفعت تكلفة الكهرباء بنسب تتراوح ما بين 100 بالمئة و800 بالمئة، باختلاف شرائح الاستهلاك”.

يعتقد الجعفري ومراقبون آخرون أن موجة قرارات رفع الأسعار في مطلع الشهر الجاري، جاءت استمراراً لنهج الرفع التدريجي للدعم، والذي بدأت الحكومة السورية بانتهاجه منذ سنتين، ووصل مستويات غير مسبوقة خلال العام الجاري، من خلال موجة رفع الأسعار في تموز الفائت، حينما رفعت الحكومة سعر السكر المدعوم بنسبة 25 بالمئة، والخبز المدعوم بنسبة 100 بالمئة، والمازوت بنسبة 170 بالمئة.
من جانبه يقول المستشار الاقتصادي، أسامة قاضي، إنه على الرغم من ضخامة المبلغ المرصود للدعم الاجتماعي لكن لا يمكن الوثوق بجدية الحكومة في صرفه في هذا القطاع نظرا لغياب المحاسبة ولأن الحكومة أصلا تخرج بشكل تدريجي من النظام الاقتصادي المعتمد على الدعم الاجتماعي.

ويضيف قاضي لـ”الحل نت” أن تصريحات الحكومة حول الدعم الاجتماعي لا تعبر عن جدية في تطبيق القرارات لأن السلع والمواد مفقودة إضافة للخزينة الفارغة من القطع الأجنبي. ويتابع “هذه الأرقام لا رقابة عليها، الحكومة تعتقد أنها تستفيد منها إعلاميا، وهذا أمر بات مكشوفا للموالين قبل المعارضين”.

كيف سيتم تمويل الموازنة؟

من المتوقع أن تستمر الحكومة السورية في اعتماد ذات السياسات التي اعتمدتها خلال العام الجاري، لتمويل العجز في الموازنة بشكل عام، من ذلك الجباية الضريبية الفوضوية، التي كانت سبباً في مغادرة مئات وربما آلاف الصناعيين والتجار لسوريا، خلال العام 2021.

يُشبّه أسامة قاضي أداء الحكومة السورية الاقتصادي بـ “من ينتحر ببطء”، فعندما يحتاج أي اقتصاد إلى المال لا يلجأ لمصادرته من فئات الشعب المختلفة، وإنما يشجع النشاط الاقتصادي الذي يمول القطاعات المختلفة من أجل الحصول ضرائب أكثر، وذلك بخلاف ما تفعله الحكومة من وضع اليد على رؤوس الأموال والمصانع وغيرها.

ويضيف أن أساس أي نشاط اقتصادي يتعلق بمدى وجود الاستقرار والأمن وأيضا الثقة بأداء الحكومة والاطمئنان إلى عدم تدخلها وإزعاجها للمستثمرين.

يعتقد المسؤولون في حكومة دمشق أنهم سيحصلون على أموال أكثر يمكن أن تساهم في دعم الموازنات العامة من خلال بث الخوف والقلق في نفوس الصناعيين والتجار. يصف قاضي هذه الطريقة بأنها “بدائية جدا، ولم يعد يلجأ إليها أي نظام اقتصادي في العالم، لأنها تعطل محرك الاقتصاد بمصادرة رؤوس الأموال وتطفيش رجال الأعمال بمن فيهم الموالين والمقربون”.

إلى ذلك، يرجح أسامة قاضي أن الحكومة ستقوم بطباعة ورقة نقدية جديدة فئة الـ10000 ليرة سورية، نظرا لحجم التضخم الهائل، لكن لا قيمة لأي عملة لا تدعمها السلع والخدمات لأن الأصل ليس الورقة النقدية وإنما القوة الشرائية للمواطن. طباعة ورقات نقدية جديدة سيقود إلى المزيد من التضخم، وبالتالي: المزيد من الإرهاق للمواطن الذي سيواجه الغلاء بمداخيل محدودة جدا، وفق حديث قاضي.

يمكن القول أن الحكومة السورية اعتادت على التعامل مع عجز الموازنة إلى حد الإدمان. وعادة ما يبدأ ظهور العجز منذ ال6 أشهر الأولى، وأحيانا أقل. كنتيجة مترتبة عن غياب الموارد لدى الحكومة لتمويل الموازنة.

يعتقد أسامة قاضي أن الوسائل والأدوات السابقة التي كان يستخدمها النظام في تمويل الموازنة من سندات الخزينة وبيعها للمصارف والأفراد باتت بلا فائدة، وهي تساهم في خلق نوع من التنفير المصرفي لأن ما تبقى من المصارف الخاصة يعد الخاسر الأكبر من هذه الأدوات بسبب إلزامها بشراء سندات الخزينة على الرغم من الخسائر الفادحة.

ويزيد بالقول “من يرغب أصلا، بشراء سندات خزينة لحكومة تجاوزت معدلات التضخم فيها خلال عشر سنوات 1000 بالمئة؟”. لذلك، -بحسب قاضي- باتت سياسة التمويل بالعجز عبارة عن إجراء دعائي لا قيمة له، وسينعكس سلبا على معدلات التضخم ويؤدي إلى انخفاض جديد في العملة.

نتائج كارثية!

تشير دراسة صادرة عن مركز “جسور للدراسات” إلى غياب أي تصور دقيق لدى الحكومة السورية أثناء تحديد المبالغ اللازمة لمؤسساتها عن الكيفية التي يمكن من خلالها تغطية هذه الاحتياجات، ما يجعلها تفترض أنها في وضع ملائم لجباية الضرائب وتحقيق إيرادات استثمارية من أسواق نشطة، إلا أن هذه الإيرادات لا تتحقق ما يجعل قيمة الموازنة المعلنة مجرد رقم لا تزيد نسبة تنفيذه عن 60 بالمئة في أحسن الأحوال.

وتوضح الدراسة أنه منذ العام 2019 بدأت الحكومة تتجه نحو مصادرة جزء من أموال رجال الأعمال والصناعيين بحجة التهرب الضريبي، حيث وضعت يدها على مبالغ طائلة، مثلما حصل مع رامي مخلوف الذي يعد المثال الأشهر على هذا التوجه، كما طالت هذه السياسة الجائرة بعض الصناعيين والتجار من الطبقة الوسطى فقد ألقي الحجز الاحتياطي على 700 تاجر من حلب في العام الحالي، ثم جرى التفاوض معهم على دفع مبالغ مالية مقابل رفع الحجز.

مع ذلك، خلصت الدراسة إلى أنه من المرجح أن تصل نسبة العجز في الموازنة الجديدة إلى نصف الموازنة لاسيما وأن نسبة العجز الحالية تفوق 33 بالمئة.

ويوضح خالد التركاوي الباحث الذي أعد الدراسة خلال حديث لـ”الحل نت” إلى أن سياسة الحكومة فيما يتعلق بتغطية الموازنة العامة ستقود إلى نتائج كارثية أبرزها هروب مزيد من الأشخاص المقتدرين أو إفلاسهم، وضعف النشاط الإنتاجي.

يتابع التركاوي: “دائماً علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن أولويات الحكومة لا تتعلق بالاقتصاد الوطني، وإنما بتحقيق موارد مالية لتمويل الحرب. بناءً على هذه القاعدة نستطيع تفسير كثير من القضايا”.

وفيما يخص الرقم المخصص للدعم الاجتماعي، يرى التركاوي أنه “كغيره من الأرقام وهمي وليس حقيقي وتوقعاتي أن الرقم سيكون قليلا للغاية، والدعم سيتم رفعه وليس ترسيخه”.

ويرجح التركاوي أن الحكومة تقوم عمليا بطباعة العملة لتغطية الموازنة وستستمر بالتأكيد، لأنه لا موارد كثيرة لديها رغم ماتفعله في بقية الأصعدة.

العجز في الموازنة سيكون له علاقة بضعف المشاريع الاقتصادية وندرتها، البنى التحتية ستبقى مدمرة، والخدمات أضعف، والرواتب لن تتحسن بالتأكيد، وسوف يتأثر سعر صرف العملة وتتدهور بشكل مستمر. والحديث هنا للباحث خالد التركاوي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.