كان سجن صيدنايا مصير عدد من الضباط السوريين المنشقين، الذين صدّقوا وعود الحكومة السورية لمعارضيها بعد اتفاقيات التسوية، التي أُبرمت بعد استيلاء القوات النظامية على كثير من مناطق سيطرة المعارضة. فقد أصدر الرئيس السوري بشار الأسد عدداً من المراسيم. عقب توليه فترة رئاسية جديدة عام 2014. تخصّ العسكريين المنشقين، سواء كانوا مجندين أو ضباطاً في القوات النظامية. وآخرها كان مرسوم  العفو عن المنشقين عام 2018. وهي السنة التي سيطرت حكومة دمشق بموجبها على  كامل أرياف دمشق ومحافظة حمص، بمساندة جوية روسية. وبرية إيرانية ولبنانية وغيرها.

وعقب هذه السيطرة تم تهجير آلاف من سكان تلك المناطق باتجاه الشمال السوري. بينما فضّل آخرون البقاء فيها. ومنهم عدد لا بأس به من العسكريين المنشقين. ممن لم ينخرطوا في صفوف قوات المعارضة، ولم يشاركوا بالقتال ضد القوات النظامية. ولعل بقاءهم ارتبط بالتطمينات، التي حصلوا عليها من لجان المصالحة، التي عملت على ترويج دعاية الحكومة السورية بالعفو عن كل شخص فضّل البقاء على المغادرة. والوعد بعدم تعرّضه للاعتقال والأذى. إلا أن هذه الوعود ذهبت أدراج الرياح. وانتهى كثير من المنشقين، الذين صدّقوها، في سجن صيدنايا. أحد أكثر السجون السياسية والعسكرية هولاً بين سجون العالم.

موقع «الحل نت» التقى أحد العسكريين، الذين فضّلوا البقاء في المناطق التي سيطرت عليها القوات النظامية. من ثم انتهى به المطاف في سجن صيدنايا.

الطريق إلى سجن صيدنايا وخدعة “العفو

“أحمد سليمان”، شاب من منطقة الحولة بريف حمص، انشق عن قوات النظام عام 2012. وكانت خدمته الإلزامية في “الفرقة 14 دبابات”. الواقعة شرقي محافظة حمص، بالقرب من مطار “الشعيرات”. وتم تحويله إلى سجن صيدنايا، بعد قيامه بتسليم نفسه عقب العفو الرئاسي.

«بعد صدور مرسوم العفو الرئاسي عام 2018 تحدث إلينا “اسحق الزكاحي”، رئيس الجمعية الفلاحية في بلدتنا “تلدو”، طالبناً منا، نحن العسكريون المنشقون، البقاء في المنطقة. وعدم النزوح إلى الشمال. ووعدنا بأنه لن يمسنا أحدٌ بسوء. وبعد ذلك سيتم تسوية أوضاعنا. وبالفعل قررنا البقاء، بعد خروج من أراد النزوح للشمال. وتوجهت، مع عدد من المنشقين، الى شعبة تجنيد حمص الشمالية. وهناك تم إدخالنا إلى غرفة التحقيق، التي يكون بداخلها عادةً عدد من المحققين، التابعين للأفرع الأمنية  الرئيسية». يروي “سليمان” لموقع «الحل نت».

متابعاً: «تم استقبالنا بالشتائم والإهانات، من قبل محققي المخابرات العسكرية. وأدركت حينها أني ورّطت نفسي عندما صدقت كلام رئيس الجمعية الفلاحية. وأن مصيراً مجهولاً ينتظرني. وما هي إلا دقائق قليلة حتى حضرت دورية مخابرات. اقتادتنا نحو فرع المخابرات الجوية بدمشق. بحجة استكمال عملية التسوية. وهناك ساقونا كالأغنام إلى تحت الأرض. وقبيل دخولنا إلى الزنزانات أعطونا أرقاماً تمثّل هويتنا الجديدة».

ويواصل “سليمان” حديثه بالقول: «بعد يومين من السجن داخل زنزانة انفرادية استدعيت لغرفة التحقيق. حيث أرغمني السجان بقوة السلاح على الجثو على الأرض، ويداي مقيدتان إلى الخلف. وكانت هذه وسيلة تعذيب بطيئة. فمع مرور الدقائق شعرت بألم هائل في أضلاعي، فتوسلت للسجان كي يسمح لي بتغيير الوضعية. ولكنه رد على توسلاتي بضربي عدة مرات بسوطه وحذائه على ظهري. بعد فترة جاء محقق أمطرني بالأسئلة. طالباً مني التصريح عن عدد المعارك التي خضتها ضد القوات النظامية. وعدد من قتلتهم وخطفتهم من ضباطها وجنودها. وعندما أكدت له أني لم أشارك بأي من الأعمال القتالية. بدأ بضربي وتعذيبي. ثم أرغمني على أن أبصم على خمس أوراق. لم أكن أدري ما تحتويه. ولكنها كانت كفيلة بتحويلي إلى سجن صيدنايا».

سجن صيدنايا.. حيث تتلاشى الرغبة في الحياة

«قضيت ثلاث سنوات في سجن صيدنايا. من تاريخ 11\5\2018 وحتى 2\3\2021. هذه السنوات كانت كافية لتدمير أحلامي في الحياة. وقتل كل شيء جميل داخلي. فقد تعرّضت لشتى أشكال التعذيب والتجويع. واضطررت في إحدى المرات للنوم جوار ثلاث جثث لأشخاص متوفين. في البداية كان كل تفكيري منحصراً بأولادي الثلاثة. وكنت أحاول الحفاظ على نفسي. على أمل أن أخرج يوماً وأستطيع رعايتهم. ولكني أصبت بعد فترة بالانهيار النفسي. ولم يعد يهمني شيء. كنت أتمنى الموت فقط». بهذه الكلمات يروي “أحمد سليمان” ذكرياته في صيدنايا.

صورة جوية لسجن صيدنايا

كما يضيف: «في أحد الأيام كنت منزوياً على نفسي في زنزانتي. وفجأة فُتح باب الزنزانة لأسمع إهانات السجّان، الذي جرني إلى الخارج. فظننت أن مصيري هو التصفية الميدانية. مثل كثيرين غيري. إلا أنني تفاجأت أنه أخذني إلى سيارة مخصصة لنقل السجناء. أوصلتني إلى سجن عدرا المركزي في دمشق. حيث قابلت محامية من مدينة حمص تدعى “رابية الأحمد”. والتي اكتشفت فيما بعد أنها كانت واسطة بين أخي الكبير والضابط المسؤول عن سجني. فقد دفعت عائلتي مبلغاً كبيراً من المال، بلغ خمسة عشر ألف دولار. مقابل إخراجي من سجن صيدنايا».

ويختتم “أحمد” حديثه بالقول: «أخبرني أخي لاحقاً أنه كان يدفع مبالغ مالية باستمرار للضابط المسؤول عني، بواسطة المحامية “رابية”. من أجل عدم تصفيتي والحصول على بعض أخباري. فقد كان أهلي ممنوعين من زيارتي طيلة فترة سجني. لقد كُتب لي عمر جديد. ولكني مازالت أحقد على رئيس الجمعية الفلاحية في قريتنا. الذي خدعني ذات يوم. ودفعني للثقة بوعود السلطة. ما جعلني أعيش أبشع كوابيسي في سجن صيدنايا».

الاتجار بالمعتقلين والمفقودين قسراً

وفي سياق الحديث عن عمليات الإفراج عن معتقلي سجن صيدنايا مقابل فدى ورشى مالية. كشفت صحيفة الغارديان البريطانية في تقرير لها أن «ضباط القوات النظامية يجنون ملايين الدولارات مقابل الإفراج عن المعتقلين في سجن صيدنايا. فالحكومة السورية تبحث عن أسلوب جديد لتجنّب العقوبات المفروضة عليها، والحصول على العملة الصعبة. وذلك بابتزاز أهالي المعتقلين والمفقودين. وإجبارهم على دفع الرشاوى بالدولار الأميركي. مقابل الإفراج عن أبنائهم وأقربائهم. أو مجرد كشف مصيرهم. وتبدأ قيمة الرشاوى بين خمسة آلاف دولار أميركي، إلى ثلاثين ألف دولار».

ويستند تقرير الصحيفة في معلوماته إلى تحقيق قامت به “رابطة المفقودين والموقوفين في سجن صيدنايا”. كما يؤكد أن «مسؤولين في أحد معتقلات الحكومة السورية حصلوا على ما يُقدّر بـ2.7 مليون دولار أميركي. حصيلة الابتزاز الذي مارسوه على الأهالي».

مقالات قد تهمك: بالصوت “لورانس أبو حمدان” يصوّر سجن صيدنايا

وأشارت الدراسة، التي شملت أكثر من ألف ومئتي سجين سابق، وأفراد من عائلات المعتقلين والمفقودين، إلى أن «شبكة الفساد هذه مكوّنة من قضاة وضبّاط وعناصر أمن وحراس. ومهمتها تغذية الأجهزة الأمنية بمبالغ كبيرة. فضلاً عمّا يذهب إلى جيوب عناصرها الشخصية».

ويعتبر سجن صيدنايا من بين أخطر سجون العالم. ويقع بالقرب من بلدة صيدنايا السياحية في سوريا. كما أنه لا يبعد عن القصر الرئاسي السوري أكثر من ثلاثين كيلومتراً.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.