نشرت صحيفة الـ “غارديان” تقريراً تناولت فيه فن “لورانس أبو حمدان” في تجسيد معاناة السجناء في سجن صيدنايا في سوريا مستعيناً بمكتبات للمؤثرات الصوتية ليساعد الناجين من السجن على استحضار الأصوات التي كانوا يسمعونها ويجسدها بطريقته. حيث التقت الصحيفة مع أبو حمدان في بيروت بينما هو يستعد للمشاركة في نهائي جائزة تًرنر في مارغيت.
فقبل ثلاثة أعوام كان أبو حمدان قد أمضى أسبوعاً في غرفةٍ في اسطنبول، كان من شأنها أن تغير طريقة فهمه للعالم. فيقول في لقاءه مع الغارديان في بيروت، حيث يعيش مع زوجته وابنته: “الأشياء التي فكرت في أنها تأتي وتذهب كانت مختلفة تماماً”. ويضيف: “كان هناك تغيير جذري. ذلك كان السبب الذي جعلني أقوم بتنفيذ عملي هذا”.
وقد أجرت الغارديان لقائها مع أبوحمدان، الشاب الأنيق الملتحي بنظاراته الجميلة، ذي الأربعة وثلاثون عاماً قبل أيامٍ قليلة من سفره إلى المملكة المتحدة للتنافس على جائزة تُرنر، والتي سوف تعرض أعمال ثلاثة متسابقين آخرين.

ويبين التقرير أن أبوحمدان التقى في أحد الأسابيع من العام 2016 بستة ناجين من سجن صيدنايا، الواقع على بعد 25 كيلو متراً شمال دمشق، والذي وصف بحفرة مظلمة مرعبة من شدة سوء المعاملة والتعذيب فيه. فبحسب التقديرات قتل 13 ألف شخص على الأقل في هذا السجن على أيدي زبانية بشار الأسد. ومن خلال لقاءاته تلك، عمل أبو حمدان على إعداد تقرير لمنظمة العفو الدولية.

ويتمتع أبو حمدان بخبرة خاصة في مجال “الصوت”، حيث يصف نفسه بصاحب “أذن خاصة”. فقد عمل على “سوء السمع” الذي يؤدي إلى قضايا إجرامية، كما عمل على تقنية كشف الكذب. وكان يسأل الناجين بشكلٍ خاص عما كانوا يسمعوه داخل السجن. فيروي للغارديان: “السبيل الوحيد الذي يمكنا من خلاله الحصول على معلومات أكثر عن السجن هو الاعتماد على الذاكرة السمعية للناجين، لأن الناس كانوا معصوبي الأعين عندما جاؤوا بهم إلى السجن واحتجزوهم في الظلام”.

كما كان أبو حمدان يعمل مع Forensic Architecture، وهي وكالة تستخدم المهارات المعمارية للتحري عن انتهاكات حقوق الإنسان، وكان قد تم ترشيحها لجائزة تُرنر في العام الماضي. وبالعمل مع مهندس معماري، استعان أبو حمدان بمكتبة المؤثرات الصوتية لكلٍ من الـ BBC و Warner Bros كمحفّز لمساعدة الشهود على استحضار الأصوات كصوت غلق الأبواب وتدوير الأقفال وتقطر الماء، على سبيل المثال. إلا أن الأصوات الأكثر فظاعة والتي عملوا على استحضارها كانت الأصوات الناجمة عن ضرب أحدهم بأنبوب طويل، حيث يمكن سماع الصوت يتردد حول المبنى. وفي الوقت نفسه، أُجبر السجناء على الصمت عن آلام التعذيب تحت تهديد الإعدام: كان هذا الصمت كسلاح، على حد وصفهم. وبحسب أحد الشهود، فإن حاسة السمع لدى السجناء أصبحت قوية لدرجة تمكنهم من تمييز أنعم الأصوات، فصوت فقس حشرة القمل التي تُقتل بين أظافر السجناء، على سبيل المثال، كانت أشبه بصوت حبة سمسم تسحق.

وقد ساعدت ذكريات الصوت أبو حمدان وزميله على بناء صورة للسجن، والتي قاموا بترجمتها إلى صورة ثلاثية الأبعاد تشكل محوراً رئيسياً في تقرير منظمة العفو الدولية. “أحد السجناء استطاع تذكّر صوت كل قفل كيف كان”، يقول أبو حمدان. ويضيف: “لذا استطاع معرفة عدد الأبواب التي كانت هناك. مبدئياً، كان ذلك الأمر منجياً: كان عليه أن يعرف أين يتواجد الحراس. لكن ذلك ساعدنا على فهم كم من الحجر كانت قيد الاستخدام. يمكنك البدء بجمع ذلك مع معلومات أخرى لتقدير عدد الأشخاص الموجودين في السجن”.

وبذلك قدم التقرير الكثير لتسليط الضوء على هذا المكان المظلم والفظيع. لكن بالنسبة لأبو حمدان، الأمر لا يمكن أن ينتهي هنا. “لقد غير الطريقة التي أفكر بها عن الذاكرة والهندسة المعمارية والإفادة واللغة والصوت البشري”، يقول أبو حمدان. فقد لعبت أصوات مختلفة بالنسبة إلى أحد الشهود دوراً رئيسياً في محاولة مساعدته على تذكر ضوضاء إغلاق باب الزنزانة. حيث يقول أبو حمدان: “كان الشاهد يقول بأن الصوت أعلى وأعلى وأعلى، بينما كنا نشغل هذه الأصوات لأبوابٍ ضخمة ولدينا تردد تم ضبطه على أبواب كاتدرائية نوتردام التي يبلغ طولها 30 متراً. من غير الممكن أن يكون الصوت عائد لمثل ذلك الباب”. ومن ثم أخبر الشاهد أبو حمدان بأنه حصل على الصوت المطلوب. ولكن لم يكن ذلك صوت بابٍ يُغلق، وإنما كان صوت رزم الخبز التي يتم إسقاطها خارج أبواب الزنازين كل صباح. “بالطبع لا يمكن أن يكون له صوت مثل هذا، ولا حتى خمسين رزمة من الخبز من سقفٍ بارتفاع ثلاثة أمتار قد تحدث هكذا صوت. لكن ما كنا نقيسه لا يتعلق بالباب أو بالفضاء، كان يتعلق بظروف الجوع الشديد وما تفعله بالحواس. كان التشويه نفسه يتحدث عن التجربة بشكلٍ واضح”، يقول أبو حمدان.

ويشير التقرير إلى أن الأعمال المعروضة في مارغيت ليست عن “صيدنايا”، أو على الأقل هي لا تتعلق بالسجن فقط. فهم أيضاً يسلطون الضوء على الحواجز التي تقيمها الدول القومية على حدودها، والتي تبدو في الظاهر لا حدود لها إلا أنها مراقبة بشكلٍ كبير. وكيف تتسرب المعلومات من خلال الجدران الأكثر حصانة، وكذلك كيف نسمع في كثير من الأحيان أشياء تكون خادعة أو وهمية. فهذه هي الفسحة التي يمكن من خلالها التعبير بشكلٍ أفضل عن التجربة الإنسانية ليس بلغة القضاء أو الصحافة أو العلم، وإنما بلغة الفن. “أنا رومانسي جداً في التفكير بأن الفن شكلٌ من أشكال إنتاج الحقيقة، وأن الصورة يمكن أن تعبّر عن الشيء أكثر مما يفعله جوهر الشيء نفسه”، يقول أبو حمدان.

وقد اطلعت الغارديان على بعضاً من أعماله الجديدة في بيروت. فأبو حمدان اليوم يهتم بالتقمّص، معتقد لدى الدروز، دين العائلة من ناحية أبيه. فأحد الأفلام التي أنجزها هذا العام عبارة عن مقابلة مع رجل درزي يبلغ من العمر واحد وثلاثين عاماً، والذي أدرك أنه تقمص روح فتىً قتل في المعركة في العام 1984 حيث كان الفتى يبلغ من العمر سبعة عشر عاماً. ومن بين الذكريات التي يتذكرها هذا الرجل عن حياته السابقة أن هذا الفتى، باسل أبي شاهين، قد بنى أرشيفاً كبيراً يتضمن صور فوتوغرافية ومصنوعات يدوية ومقابلات مع الناجين من الحرب. وبعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية كان هناك عفو عام، لكن لم يكن هناك حقيقة أو مصالحة. “لا يجب التحدث عن الحرب، كما أنها ليست مادة تدرّس في المناهج المدرسية. نشاط أبي شاهين في جمع الأدلة والبراهين أمرٌ جدلي. ذكرياته الموروثة تورّط الناس”، يقول أبو حمدان. ويضيف: “طفلٌ جندي، هذه بحد ذاتها جريمة. أن تعود بالزمن وتقول بأن لديك ذكريات من هذا القبيل أمرٌ غريب جداً. إنه يتحدث عن جريمة حرب، إلا أنه لا يمكننا التعامل معها بشكلٍ قانوني”. يمكن أن تسميه تجسيد لجرحٍ متوارث، الجيل القادم الذي يعيش مجدداً معاناة الآخرين. قد تفكر بالأمر كنوع آخر من التسرّب: إلا أنه ليس تسرباً للأصوات عبر الجدران، إنما للذكريات عبر الوقت.

العمل ليس عن الهوية بحد ذاته، إلا أنه من الصعب بالنسبة لأبو حمدان ألا يفكر بهويته في هذه اللحظة. “أشعر أنني بريطاني”، يقول أبو حمدان. ويضيف: “وأشعر أيضاً أنني عربي”. فوالد أبو حمدان من لبنان ووالدته من يوركشاير في انكلترا. ولد في العاصمة الأردنية عمان وترعرع إلى حدّ كبير في يوركشاير. “ترشّحي لجائزة تُرنر كانت لحظة مؤثرة جداً بالنسبة لي، لأنني اهتم كثيراً بتلك الثقافة والتي كانت دائماً أكثر شيء أخذته من بريطانيا”، يقول أبو حمدان. وقد مرّ أبو حمدان مؤخراً بمحنة “مذلّة” لتأمين جواز سفر لابنته. فيقول عن محنته: “كان لا بد من أن أقوم بإجراءات استغرقت مني ثلاثة عشر شهراً تضمنت مقابلات وأوراق، حيث كنت أبين لهم صور الإيكوغراف لزوجتي وما إلى ذلك لأثبت لهم أن الطفلة موجودة ولست أؤلف القصة من تلقاء نفسي”.

وتختم الغارديان تقريرها بالإشارة إلى أن العمل الذي قدّمه أبو حمدان عن صيدنايا مذهل إلى الحد الذي تفشل فيه اللغة أو الصوت مجتمعين التعبير عنه. فليس هناك لغة دقيقة لوصف الصوت. وقد شبه أحد شهود صيدنايا صوت أحد المساجين وهو يتعرض للضرب بصوت جدارٍ يتم هدمه. فبالنسبة له كان هذا الوصف الوحيد والمناسب للتعبير عما سمعه وأحس به. ولكن ما كان ذلك الحائط الذي يتم ردمه؟ فليس هناك أروع من أن يصف رجل محاط بالجدار صوت التعذيب مستعيناً باستعارة الجدار المهدوم.
عالم الأصوات هذا في فن أبو حمدان هو عالم من الصور التي تنزف من بعضها البعض، المرتبطة ببعضها البعض. وهي وإن كانت غير دقيقة إلى الحد الواقعي، إلا أنها معبرة عن اليأس. فبعض الفن يجعلنا نرى العالم بشكلٍ مختلف. وأبو حمدان يجعلنا نسمع ونشعر ونفهم الأمر بطريقة مختلفة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.