يُعرف اقتصاد الحرب اصطلاحا، بأنه مجموعة التدابير التي تتخذها الدولة خلال الحروب أو عند اندلاع الأزمات والنزاعات الداخلية، كي يصمد اقتصادها خلال هذه الظروف الاستثنائية، وذلك عبر اعتماد نظام إنتاجي يعمل على توفير الموارد الاقتصادية لضمان استمرارية التماسك على المستوى الداخلي المدني وكسب المواجهة العسكرية.

و في سوريا اتخذ اقتصاد الحرب منحى آخر عن المفهوم العام، وما يميز اقتصاد الحرب فيها أنه بني على تدمير الاقتصاد الوطني، ونمو السوق السوداء، وعمليات السلب والابتزاز والاحتيال، والعنف المتعمد ضد المدنيين، بالتهديد والاعتقال والخطف لابتزازهم ماديا والسيطرة على الأصول المالية لديهم، كما برز سوق التهريب كنموذج مهم، واستغلال ملف المعتقلين والمختفين كأحد أبرز وجوه الاقتصاد لتسيير أمور الأجهزة الأمنية في ظل التدهور الاقتصادي الحالي.

نحو مليار دولار لمعرفة مصير المعتقلين

يتحدث بحث موسع أصدرته رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا عن تفاصيل مهمة في عمليات الابتزاز المالي التي مارستها الأجهزة الأمنية لحكومة دمشق، وموظفون حكوميون، وحتى محامون لأهالي المعتقلين في سوريا، وذلك لقاء الحصول على معلومات عن المعتقل، أو مقابل وعود بالزيارة، أو تخفيف أحكام، أو إطلاق سراح.

موضحاً أن المبالغ التي يتم دفعها كبيرة للغاية، وتصل في بعض الأحيان إلى 10 آلاف دولار أمريكي. بعد مسح أجراه منظمو البحث على أعداد كبيرة من ذوي المعتقلين تبين أن الرقم الإجمالي للمبالغ التي تم دفعها منذ العام 2011 وحتى نهاية العام 2020 تجاوزت الـ 900 مليون دولار.

اللافت في الأمر حسب البحث، أن النتائج الإيجابية مقابل هذه الأموال كانت محدودة جدا، إن كان ذلك بالنسبة لزيارات المعتقلين، أو بالنسبة لعمليات الإفراج أو غيرها، وهذا ما يؤكد أن غالبية هذه العمليات لم تعد عن كونها عمليات ابتزاز واحتيال.

شبكات احتيال منظمة؟

تتم عمليات الاحتيال والإيقاع بذوي المعتقلين بطريقة تكاد تكون منظمة على شكل شبكات باتت منتشرة في كل سوريا، وبناء على معلومات دقيقة ومدروسة تتعلق بالمعتقل وذويه.

يبدأ جمع المعلومات من المعتقل نفسه حيث يتم معرفة كل ما يتعلق به شخصيا وبأسرته، كما يتم جمع معلومات من جهات أخرى أبرزها صفحات التواصل الاجتماعي، وخاصة تلك الحملات التي تناصر المعتقلين وتطالب بهم، حيث تعتبر مادة مهمة لشبكات الاحتيال التي أصبحت أيضا تلجأ لذات الأسلوب من خلال إنشاء صفحات تواصل وهمية تتحدث حول المعتقلين وهدفها الرئيسي جمع معلومات إضافية يتم إعطاؤها للسماسرة، وفي نفس الوقت الإيقاع بالأهالي من خلال إيصالهم بأحد هؤلاء السماسرة، ويضطر ذوو المعتقلين إلى عمل أي شيء لمعرفة معلومات عن أبنائهم، أو الإفراج عنهم.

يقول منير الفقير، وهو أحد أعضاء الرابطة، خلال حديث لـ”الحل نت” إن هذه الشبكات هي شبكات متخصصة، تضم عناصر في الأمن، وضباط أمن، وسماسرة خارج المنظومة الأمنية، إضافة إلى عسكريين من الجيش، ويمتلك هؤلاء خبرة كبيرة في عمليات الاحتيال على الأهالي.

وتقوم هذه الجهات بجمع معلومات وبناء ملفات للمعتقلين، من المصادر المفتوحة من الإنترنت، ومصادر خاصة عن طريق الأجهزة الأمنية نفسها من خلال ضبوط التحقيق وملفات المعتقلين الموجودة في الفروع الأمنية، وعند تواصل أهالي المعتقلين عنهم يقومون بإعطائهم معلومات دقيقة يعرفها الأهل ترتبط بابنهم المعتقل، وهذا ما يشجعهم على التعاون معهم ودفع المبالغ المطلوبة.

يقول عبد السلام عمار (اسم مستعار) وهو قريب لأحد المعتقلين ممن توفوا داخل سجن صيدنايا مؤخرا لموقع “الحل نت”، أن قريبه أحمد وهو من ريف درعا اعتقل في العام 2019، بعد عملية التسوية، وبعد انضمامه للقوات الحكومية، بناء على تقرير من أحد الأشخاص بتورطه في عمليات للمعارضة قبل العام 2018.

وأضاف عبدالسلام، أنه تم نقل أحمد إلى سجن صيدنايا العسكري، وحكمت عليه المحكمة الميدانية بالإعدام، ومن هنا بدأت رحلة والده لمحاولة مساعدته في تخفيف الحكم على الأقل، وتوصل عبر أحد السماسرة إلى ضابط في القوات الحكومية، وعده بأن يتم إدراج اسم ابنه في قائمة معتقلي المحافظة ممن سيصدر فيهم عفو رئاسي خاص، وكان المقابل دفع مبلغ يزيد عن 40 مليون ليرة سورية ولكن بالدولار، ما اضطر الأب لبيع منزله ودفع المبلغ، ولكن لم يتم إدراج اسم ابنه في قائمة العفو، ولكن تم تخفيف الحكم الصادر بحقه من الإعدام إلى السجن المؤبد، ولكن تم قتل أحمد تحت التعذيب في سجن صيدنايا.

قيمة اقتصادية مهمة للأجهزة الأمنية

يقول سلطان جلبي، وهو صحافي سوري وباحث في مجال التنمية الاقتصادية، لـ “الحل نت”، منذ بداية اعتقال الشخص أو اختفائه قسرا، تدخل عائلته ضمن فلك الدورة الاقتصادية، حيث لا يمكن التمييز خلال الفترة الأولى بين الاعتقال والاختفاء القسري، بسبب انقطاع المعتقلين عن العالم الخارجي لفترة طويلة أو قصيرة، وحتى الأجهزة الأمنية لا تقوم بإبلاغ العائلات.

لذلك يلجأ ذوو المعتقلين لدفع الأموال إما بشكل مباشر أو غير مباشر عبر وسطاء إلى أشخاص في الأجهزة الأمنية، أو لسماسرة من أجل الحصول على معلومات عن مكان المعتقل وحالته.

ويوضح جلبي، أن نحو نصف حالات الاعتقال من نصيب جهازي المخابرات العسكرية، والمخابرات الجوية، بينما يتوزع النصف الآخر على الجيش وأجهزة الأمن الأخرى كالأمن السياسي وأمن الدولة، وهذا مؤشر إلى أهم الجهات التي تذهب إليها معظم الأموال المدفوعة من أهالي المعتقلين، بينما يبقى جزء من الأموال لبعض أجهزة الدولة وخاصة القضاء العسكري، ومحكمة الإرهاب.

وتتم عملية التواصل حسب جلبي من قبل أهالي المعتقلين، مع شبكة وسطاء يطلق عليهم محليا مصطلح “المفاتيح”، فلكل ضابط أو قاضي مفتاحه الخاص، وهؤلاء هم المسؤولون عن إيصال الأموال للمسؤولين.

ويشير جلبي، إلى أنه بات للمعتقلين قيمة اقتصادية مهمة كأحد أنواع اقتصاد الحرب في سورية، حيث تبلغ القيمة الاقتصادية لهم وعددهم نحو ربع مليون معتقل وفق عدة منظمات حقوقية، ملياري دولار، وهي نصف الموازنة العامة لسورية في العام 2020، وتعادل أربعة أضعاف كامل الكتلة المالية للرواتب والأجور والتعويضات التي تدفعها الدولة السورية للعاملين في كل مؤسساتها الإدارية في نفس العام “2020”، والبالغة 501 مليار ليرة سورية.

ويؤكد جلبي، أن هذه الأموال كانت السبب الأهم في تماسك المؤسسات الأمنية والشبكات المحيطة بها اقتصاديًا طيلة سنوات التدهور الاقتصادي في سوريا.

تشير غالبية تجارب أهالي المعتقلين والمفقودين في سجون القوات الحكومية، أنه لا يمكن الوثوق بحكومة وأجهزته الأمنية، للمطالبة بإيجاد حل لأبنائهم مقابل دفع مبالغ مالية، ولكن في الوقت نفسه لا يزال معظم الأهالي يعتقدون أن هذه الوسيلة هي الأفضل لمعرفة مصير أبنائهم، وإطلاق سراحهم، لمعرفتهم التامة بأنه يتم استعمال أبناءهم كورقة اقتصادية، كما يستعملون كورقة سياسية في ميادين أخرى.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.